في دكان شعبي من النوع الذي يبيع كل ما يخطر ببالك،
وبينما كنت أهمّ بشراء بعض الحاجيات، دخل رجل أربعيني مع ابنه الصغير، أخرج من
جيبه ورقة صغيرة، من الواضح أنها قائمة لمشترياته: قلم رصاص عدد 2، محاية واحدة،
مسطرة 20 سم، علبة لبن من الحجم الصغير، علبة تونة صغيرة، خمسة أرغفة من الخبز.
وبينما الأب يطلب من البقّال ما جاء في القائمة؛ كان الطفل محدقا عينيه نحو حبة
شوكولاته "كت كات"، أو "مارس" (لم أستطع التحديد بدقة لأنهما
كانتا بجانب بعضهما البعض)، إلا أن نظرة محذرة من الأب كانت كافية لأن ينسى الطفل
فكرته كلياً، ولو على مضض.
طلع الحساب 12 شيكل يا معلم. وبصوت مرتبك، وبعد أن
ناوله 10 شواكل، سأله الأب: ممكن تسجل عليّ شيكلين عَ الدين، وبعد كم يوم بسدك
إياهم ؟ طبعا، بكل ترحيب .. عندها ابتسم الأب، وقال: طيّب خليهم 5 شواكل، وتناول
على الفور قطعة "مارس" وناولها لابنه، الذي انفرجت أساريره دفعة واحدة، وكاد
أن يطلق ضحكة مدوية، ربما أجّلها للبيت، وآخر ما سمعته منهما وهما يغادران الدكان:
إصحك تحكي لإخوانك إني اشتريتلك شي ..
في البنك، وبينما كنتُ أنتظر دوري لتسلم الراتب،
كان على يميني موظف خمسيني، ورغم أني لا أعرفه، إلا أنه بدأ يشكو لي همّـه بصوت
حزين يائس: خصموا عليّ يومين بسبب التأخير الصباحي، وعليّ قرض ظايلّه أربع سنين
تيخلص، وعندي كمبيالات للغسالة، وأبصر شو رح يخصم عليّ البنك كمان، يعني بظل من
راتبي 1200 شيكل، وإذا دفعت إيجار البيت وفاتورة المي والكهرباء، الله وكيلك بروّح
عَ الدار مشي، وما معي حق سندويشة فلافل ..
وقبل أن يكمل قصته، جاء دوره للتوجه للكاونتر، وعلى
الفور جلس مكانه شاب ثلاثيني، يبدو من أناقته أنه من عائلة ثرية، كان يتحدث بهاتفه
النقال، ربما مع مدير أعماله أو أحد مساعديه، بصوت هادئ وواثق: إسمع، إذا الدونم
اللي في "الطيرة"، بطير مني بطيّر راسك، حتى لو دفعت مليون دولار .. ثم
أخذ صوته بالارتفاع تدريجيا حتى أنه نسي أن كل من في البنك سامعينه، وهو يتابع
بعصبية: إسمع، العمارة اللي في "الإرسال" صار فايت خمس أيام من الشهر
ولسّه ما دفعوا الإجارات، هذول ناس بستحوش، وبعدين بتروح على الشركة عشان توقيع
العقود، وبطريقك بتغيّر عجال "الهمر" الأربعة، صارلهم سنة .. ولحسن حظي
أني غادرت قبل أن أستمع لبقية المكالمة (اللي بتجلط) ..
الحوار التالي، سمعته زميلة لي كانت تنتظر دورها
للدخول عند الطبيب في المستشفى الحكومي، في المقعد المقابل لها، جلست سيدة في
نهاية الخمسينات ترتدي معطفا من الفرو الأصلي، وتقف إلى جوارها ابنتها التي بدت في
غاية الأناقة، قالت البنت لأمها بلهجة عصبية أشبه بالتوبيخ: اسمعي، هادا اللي جوة
ضايلله كم يوم وبموت، وأنتِ مضيعة وقتك ووقتي هون عَ الفاضي، لا رح نفيده ولا
نستفيد منه .. الأم بصوت خجول: بس هادا أبوكِ، ومش معئول نتركه بنازع ونروّح !؟
- انسيتي كم مرة هددك أنه رح يتزوج عليكِ! ونسيتي
إنه ما رضي يكتبلي الفيلا التانية باسمي !!
- ولِك وطّي صوتك فضحتنيا ..
- والله إنتِ حرة، بدك اضللي لحالك ضللي، أنا
مروحة، ومن بكره مسافرة مع جوزي عَ"الكاريبي" ورح نغيب أقل شي شهر، وبتجيبي
خدامة، أو بدبري حالك، أنا مش فاضية ..
تقول زميلتي، أنه تملكها الفضول لمتابعة الحوار حتى
تعرف تفاصيل القصة، لكن دورها للدخول أتى، وعندما خرجت كانت سيدة أربعينية أخرى،
ترتدي ثوبا مهترئا، يُظهر مدى نحافتها، تحمل بيدها رضيعتها، وتتحدث للطبيب بصوت
حزين يشوبه الرجاء .. الله يخليك يا دكتور، خللي البنت تنام عندكم بالمستشفى كم من
يوم .. يجيبها الطبيب بأن صحتها جيدة، وحالتها لا تستدعي المبيت .. إلا أن الأم
أصرت على طلبها، وظلت ترجو الطبيب، وهو يغادر، وهي تتبعه قائلة: عالأقل هون عندكم
شوية دفا .. والله لو روحت لتموت البنت من السكعة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق