يجمع
كثيرون على أن إيران لعبت دورا تخريبيا في المنطقة العربية، قد نتفق مع هذه
المقولة، لكن الخلاف معها تحول إلى عداء غير مبرر، وأخذ هوس العداء الطائفي. وفي
دراسة مفصلة من ثلاث أجزاء، تناول الباحث العراقي "فاضل الربيعي" المسألة
الإيرانية من زاوية مختلفة، وقدم لنا صورة مغايرة تماما للصورة النمطية التي دأب
الإعلام العربي على تقديمها، خاصة في الآونة الأخيرة. وتساءل "الربيعي"
في دراسته المعنونة "خطاب الكراهية الجديد" عن سر العداء اللفظيّ
الهستيري لإيران، مؤكدا على أن نقد السياسة الإيرانية حق مشروع لأي شخص، لكنه اعتبر
أن هذا النقد تحول إلى تشهير بالتاريخ والقيم والثقافة الإيرانية، بل تحول إلى عملية
شيطنة لإيران، وتحريض على تنمية روح الكراهية العلنية تجاه الشعب الإيراني؛ حيث لا
تخلو مقالة من بعض التوصيفات العنصرية من مثل: فُرس، مجوس، صفويين، شيعة، يهود،
أبناء زواج المتعة !
وأكد "الربيعي" أن النقد الموجه لإيران لا يخضع لأي معيار أخلاقي أو علمي، بدليل أنه لا يوجد في العالم العربي أي مركز أبحاث متخصص في الدراسات الإيرانية، وكل الذين يهاجمون إيران يجهلون بشكل مريع، تاريخها وتكوينها الجغرافي والسكاني. وفي الواقع، كل ما نعرفه عن إيران هو نتاج معرفة شعبوية مضللّة، مبنية على أقاويل وأحكام لا تستند إلى أساس علمي، خاصة ما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد بنينا مواقفنا بناءاً عليها، والسؤال الذي يطرحه "الربيعي": أليس أمراً محزناً أننا نحارب "أعداءاً" لا نعرف عنهم أي شئ حقيقي ؟ ألا ينبغي أن نفهم إيران قبل أن نعاديها ؟ أم ننساق وراء هذه الهستيريا؟
وللتعريف
بالهوية الإيرانية يقول "الربيعي" أنه لا يوجد بلد في العالم شكلّ هويته
بمعزل عن تأثير جيرانه، حتى لو كانوا غزاة. وفي هذا الإطار يعتبر أن العراق ساهم
في تشكيل الهويّة الإيرانية، وليس العكس؛ إذ تشكلّت الهويّة الإيرانية لغوياً، تحت
تاثير الجار العراقي؛ منذ أن استبدلت اللغة الفارسية القديمة أبجديتها "الهندو
أوروبية" بالأبجدية "المسمارية العراقية"، ثم اعتمدت اللغة
الفارسية الحديثة في حروفها وقواعد كتابتها على اللغة العربية. وكما تخلت عن لغتها
القديمة، تخلت أيضا عن جزء من تاريخها، لتنتسب إلى تاريخ آخر، (تاريخ الحضارة
الإسلامية) وتعاملت معه بوصفه جزء عضوياً من تاريخها هي، أكثر من ذلك، تجاهلت بعض
أبطالها القوميين، فأصبح "خالد بن الوليد" بطلاً قومياً في إيران بدلاً
من "هرمز" و"رستم".
على
المستوى الديني تأثرت إيران منذ القدم بالعبادات العراقية، فكانت "عشتار"
معبوداً مشتركاً للشعبين، وكما ناح العراقيون القدماء على مصرع الإله "تموز"
سيَّرَ الإيرانيون القدماء من أجله مواكب الدموع والبكاء. واليوم يشترك الشعبان في
البكاء على "الحسين". وفي هذا السياق يرى "الربيعي" أن إيران
القديمة، كانت حضارة عظيمة، لكنها بدون دين عظيم، وهذا النقص شكل لديها عقدة دفعها
للبحث عن رسالة دينية، تماما كما فعل "سلمان الفارسي"، لذلك بعد وصول
الإسلام، تعلموا القرآن باللغة العربية، ثم تخلوا عن أديانهم الأيقونية القديمة
(الخرميّة والمزدكية)، ليتقبّلوا بدلاً منها ديناً عربياً كبيراً، هبّت رياحه من
العراق.
ويؤكد
"الربيعي" على أن الذين يصفون الإيرانيين اليوم بأنهم "مجوس"،
يقعون في مغالطة كبرى؛ إذ أن تعبير "مجوس" هو توصيف إحتقاري أطلقه
الوثنيون الفرس على الموّحدين المبشرّين بإله واحد (الزرادشتية نحو 1500 ق.م)، ما
يعني أن الفرس شئ مختلف عن المجوس، أما الصفوية
فهي شيء آخر؛ إذ أنها ليست ديناً ولا مذهباً دينياً، ولا تدل على الشيعة
المعاصرين. الصفوية أساسا حركة صوفية/سياسية استخدمت تراث الإسلام لمواجهة
العثمانيين، وتنتمي هذه الجماعة عرقياً إلى التركمان السلاجقة، الذين خاضوا صراعا
مريرا ضد العثمانيين على خلفية نزاع عرقي، وبعد إستيلائهم على إيران أقروا المذهب
الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا للدولة، وقد انتهت الصفوية مع اعتناق إيران المذهب
الشيعي، والإدعاء بأن إيران هي التي فرضت التشيع على العراقيين، تزوير للتاريخ
بطريقة فجّة، لأن إيران هي التي تخلت عن الصفوية واعتنقت مذهب أهل العراق.
اليوم، يشكل "الفرس" نحو 49% من السكان، بينما يشكل "الأتراك"
و"الأذر" نحو 20%، و"العرب" نحو 7%، و"الأكراد" 8%، وأعراق أخرى 16%. وقسم كبير من الفرس على
المذهب الشافعي وليسوا "صفويين"؛ وخلافا لما يعتقده الكثيرون، فإن المرشد
الأعلى "خامنئي" والرئيس السابق "أحمدي نجاد" من أصول أذرية.
وعن
طبيعة الخطر الذي تشكله إيران، ما زال الأمر ملتبسا؛ البعض يعتبره خطرا ذو طابع
قومي صرف، أي خطر فارسي، بينما يقول آخرون أنه خطر مذهبي، أي خطر شيعي. وهنا يعتبر
"الربيعي" أن إيران لم يكن لديها أطماعا توسعية، بالرغم أنها تقاتلت مع
جيرانها الأتراك والعراقيين لفترات طويلة، حيث كان صراعا تقليدياً على المصالح، وعلى مناطق
النفوذ، سعت كل دولة لإثبات قوتها وهيمنتها، وفي نطاق هذا الصراع لعب المذهبان
(السني والشيعي) دور الغطاء الإيديولوجي لتبرير الصراع والتغطية على طبيعته. من
ناحية ثانية من غير المنطقي الزعم أن الخطر القومي الفارسي هو في ذاته خطر شيعي،
تعود جذوره إلى الدولة الصفوية (1500م)؛ لأن الفارسيّة مكوّن قومي تاريخي في الهويّة
الإيرانية تشكل قبل آلاف السنين من تشيع الدولة، بينما الشيعيّة مكوّن ديني- مذهبي
حديث، فكيف يمكن دمجهما في صورة واحدة، وهما مكوّنان متصارعان داخل الهويّة
الإيرانية نفسها؟
وللتوضيح،
يقول "الربيعي" أن إيران عاشت، وماتزال، صراعاً حقيقياً بين المكوّنين
الرئيسيين في هوّيتها التاريخية: النزعة القومية والدين، حيث كان القوميون الفرس
يدفعون بإتجاه تغليب الطابع القومي على شكل الدولة الحديثة ودورها، بينما سعى
خصومهم الإسلاميين إلى غلبة المكوّن المذهبي. هذا الصراع بدأ مع الأسرة الصفوية التي
عملت على إقصاء المكوّن القومي الفارسي، لصالح المكوّن الإسلامي المذهبي، ولكن منذ
مجيء "رضا بهلوي" (1925) عاد المكوّن القومي ليقصي المكوّن المذهبي. إلا
أن هذا التوتر التاريخي بين المكوّنين حُسم مرة أخيرة عام 1979 مع مجيء "الخميني".
ينهي
"الربيعي" دراسته باستنتاج مفاده أن أعداءنا الحقيقيون خلقوا لنا عدوا
وهمياً، وحرضوا عليه، لينتابنا الهوس ونحن نحاربه، وهم يأملون أن يتواصل "وهمْ
العدو"، ويمتد الصراع المرير والدامي معه مائة عام. لتصبح إيران (والشيعة)
هما الخطر الجديد. وهذا وحده كاف لتفجير صراع عربي- فارسي، أو سني – شيعي بديلا عن
الصراع العربي الإسرائيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق