بعد تفجيرات باريس، اجتاحتنا موجة من التجاذبات
والصراعات اللفظية جعلتنا نفقد البوصلة، ونتعامى عن رؤية جوهر المشكلة؛ فقد انشغل
العالم بتضامنه مع ضحايا الهجمات في فرنسا، ولكنه تناسى ضحايا الإرهاب في أماكن
أخرى كثيرة حول العالم، وفي مقدمتهم ضحايا الإرهاب في سورية والعراق، وقبلهم ضحايا
الإرهاب الإسرائيلي، الذي لا يقل وحشية عن إرهاب داعش. والسبب في هذه الإزدواجية
ليس تآمرياً بالضرورة؛ بل ربما يعود لقوة وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني في
أوروبا، وقوة الإعلام، وتأثير الثقافة المجتمعية السائدة هناك، التي تعلي من قيمة
الحياة (حتى لو كان ذلك دعائيا)، وحيث أن أوروبا وأمريكا بشكل عام تنعم بنوع من
الأمن الدخلي، وبالتالي فإن أي خرق لحالة الأمن السائدة خاصة عندما تكون لدوافع
دينية/سياسية؛ فإنها تسترعي اهتمام الإعلام بشكل كبير .. وهذه النقاط غير موجودة
في الدول الإسلامية عموما؛ بل أن عكسها تماما هو السائد، لدرجة أن أخبار القتل
والتفجيرات صارت يومية وعادية.
ومع ذلك، يجدر القول بأن المدن الأوروبية
والأمريكية شهدت في أوقات سابقة العديد من المسيرات الشعبية الحاشدة، والأنشطة
المختلفة المؤيدة للقضية الفلسطينية والمنددة بالحروب والاعتداءات الإسرائيلية،
والمتعاطفة مع القضايا العربية والإنسانية بشكل عام، وهناك آلاف النشطاء من مختلف
دول العالم الذي أتوا لفلسطين للتضامن مع شعبها، ومشاركة الأهالي في قطاف الزيتون
وحمايتهم من المستوطنين، والمشاركة في أنشطة المقاومة الشعبية. وفي المقابل، فإن
مساهمة المجتمعات العربية في التطوع في قضايا دولية وإنسانية خارج حدود دولها تكاد
تكون معدومة ..
ولكن
الأخطر من ذلك، أن المجتمع الدولي تجاهَلَ حقيقة أن السياسات الأمريكية العدوانية
والغطرسة الإسرائيلية هما الجذر الأساسي لكافة أشكال الإرهاب في العالم، بل أن
الحركات "الإسلامية" الإرهابية إما أنها نمت وترعرعت في كنف الرعاية
الأمريكية، أو أنها جاءت ردا على ممارساتها الإرهابية بحق الشعوب. وبالتالي فإن كل
الحلول الأمنية والعسكرية لن تضرب إلا القشرة الخارجية للإرهاب، وما لم تتغير
السياسات الأمريكية، ومالم تحل القضية الفلسطينية حلا عادلا، فإن عوامل تولد
الإرهاب وتعاظمه ستظل قائمة.
وفي المقابل، رفض البعض التعاطف مع الضحايا
الفرنسيين، بذريعة أن لفرنسا تاريخ دموي حافل، وجرائم لا تعد ولا تحصى، خاصة في
الجزائر .. وإذا اعتبر هؤلاء أن العدالة تحققت أخيرا، وأنهم نالوا ثأرهم من فرنسا
الاستعمارية؛ فعليهم أن يتذكروا أن العدالة لا تتحقق على أيدي قتلة. وإذا تعاملنا
بنفس المنطق الثأري مع شعوب الأرض، خاصة مع الشعوب التي لدولها تاريخ استعماري؛
فإن العالم بأسره سيتحول إلى غابة، وإلى مكان لا يصلح للعيش ..
صحيح أن لفرنسا تاريخ استعماري حافل بالإجرام،
وكلنا يعرف ذلك، ولا داعي للتذكير به، إلا أن أبناء اليوم، ومن فقدوا حياتهم في
تفجيرات باريس لأنهم كانوا بالصدفة في مكان ظنوا أنه آمن، هؤلاء لا دخل لهم بتاريخ
أجدادهم، ولو سألت أي منهم ربما لشعر بالخجل من ماضي بلاده الاستعماري ..
موضوع التضامن مع ضحايا تفجيرات باريس لا يستحق كل
هذه الفلسفة والتعقيد؛ صحيح أن الضحايا لن يستفيدوا شيئا من تضامننا معهم،
وبالتأكيد لا الرئيس "هولاند"، ولا أي مؤسسة فرنسية ستراقب باهتمام
تغييرات بروفايلات الفلسطينيين، ولن يتابعوا من صبغوا صورهم بألوان العلم الفرنسي.
ولكن، وببساطة شديدة كل من عبروا عن تضامنهم، إنما فعلوا ذلك من منطلقات إنسانية
بحتة، بتصرف تلقائي طبيعي، أحبّوا من خلاله أن يعبّـروا عن مشاعر المواساة لأُسر
الضحايا، وعن استنكارهم للعمل الإرهابي الذي راح ضحيته أبرياء لا ذنب لهم .. وهذا
لا يعني أبدا أنهم تخلوا عن علم فلسطين، ولا يعني أبدا أنهم غير متضامنين مع ضحايا
الإرهاب في لبنان وسورية والعراق .. ولا يعني أبدا أنهم نسوا أو تناسوا الإرهاب
الإسرائيلي ..
ما معنى أن يصوب أحدهم نيران رشاشه على أناس في
مطعم، أو يشاهدون مسرحية، أو يحضرون مباراة كرة قدم .. فيبدأ بقتلهم دون تمييز ؟؟
هل لدى أحد شك بأن هذا ليس عملا إرهابيا
إجراميا !! الذين ارتكبوا هذا الفعل الشنيع والجبان لم يفعلوا ذلك لمعاقبة فرنسا
على احتلال الجزائر، فعلوا ذلك لأنهم مجرد أدوات غبية في آلة إرهاب جهنمية تسيّرها
أجهزة مخابرات عالمية، هذه الجماعات الإرهابية تخترقها المخابرات الأمريكية
والإسرائيلية، ومنذ أن ظهرت على الساحة لم تخدم أي قضية عربية أو إسلامية، بل
بالعكس، لم نرى منها سوى الإرهاب والإجرام، والأفعال المقززة التي تتعفف عنها
الوحوش.
التضامن مع الضحايا الأبرياء فعل أخلاقي نبيل،
واستنكار القتل والإرهاب فعل أخلاقي واعي .. ومن لم يفعل ذلك، فليراجع نفسه، قبل
فوات الأوان .. أي قبل أن نتحول جميعا إلى وحوش ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق