أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 04، 2015

الانتفاضة الثالثة، هل هي مصلحة وطنية، أم مسعى إسرائيلي ؟!


مقدمة
تتزايد في هذه الأوقات الدعوات لتفجير انتفاضة ثالثة، وربما أيضا تزداد الحاجة إليها حسب البعض، خاصة مع حالة الانسداد السياسي التي تتسم بها المرحلة. وفي تصريح لجون كيري وزير الخارجية الأمريكي ربط فيه بين فشل المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية وإمكانية انفجار انتفاضة فلسطينية ثالثة؛[1] وقد اعتبر اليمين الإسرائيلي أن هذا التصريح تحريض على الحكومة الإسرائيلية وتأليب للرأي العام الفلسطيني، فيما اعتبر محللون أن هذا التصريح يعكس خشية الإدارة الأمريكية أن تندلع انتفاضة جديدة وتخرج الأمور عن سيطرة السلطة.
وما بين رافضٍ لها، من باب التخوف من نتائجها، أو التشاؤم من إمكانية نجاحها، وبين متحمسٍ لها ومتفائل بها؛ يبرز السؤال المهم: هل الانتفاضة الثالثة مصلحة وطنية فلسطينية، أم هي مطلب إسرائيلي ؟! وقبل ذلك، هل بمقدور الفلسطينيين إشعال انتفاضة في هذه المرحلة بالذات ؟! ومن نافلة القول أن الإسرائيليون أنفسهم  يطرحون على أنفسهم مثل هذه التساؤلات.

بداية، ومهما كان الموقف من إشعال انتفاضة جديدة، لا بد من التأكيد على أن مقاومة الاحتلال ليست حقا مشروعا وحسب، بل هي واجب وطني ينبغي ممارسته بكافة الأشكال المتاحة، وهذا ما تقره الشرائع الدولية. والشعب الفلسطيني لا تنقصه الوطنية وروح التضحية، ولا تعوزه الشجاعة، ولا يحتاج نصائح من أحد ليعلمه كيف يمارس كفاحه. وقد أثبت طوال المائة سنة الماضية أنه شعب حي، وعصي على الهزيمة أو الانكسار، وفي هذا الشأن لا يحتاج لشهادة أحد، من يريد إثبات ذلك فليراجع سجلات التاريخ.
فعندما كانت الظروف الذاتية والموضوعية تستدعي تفجير انتفاضة لم يتوانى الشعب عنها ولم يتأخر، كما حدث في الانتفاضة الأولى (1987)، وعندما انسد الأفق السياسي تماما، وأصبحت المواجهة العسكرية أمرا لا مفر منه جاءت الانتفاضة الثانية 1(2000) عنيفة ومسلحة، وعندما آمنت الجماهير بإمكانية ترسيخ حل عادل وشامل وملأت قلوبها الآمال (أواخر الانتفاضة الأولى وعشية مؤتمر مدريد) قابلوا الجندي المسلح بوردة .. وعندما استبد بهم اليأس فجروا أجسادهم في المدن الإسرائيلية (2001 ~ 2003) ...
ومن البديهي أن الانتفاضة لا تُصنع بقرار، إنما تأتي نتيجة نضوج جملة من الظروف الذاتية والموضوعية، وهي دائما بحاجة إلى بيئة محلية (حاضنة) مهيّئة ومشجعة لانطلاقها، وإلى ظرف سياسي مواتي؛ فالانتفاضة الأولى والثانية كانت لديها الحاضنة المحلية الوطنية التي شجعت انطلاقتها، وكات الظروف السياسة الخارجية تحتم وقوعها.
اليوم، وللإجابة على أسئلة الانتفاضة؛ مدى إمكانية اندلاعها، ولمصلحة من .. لا بد من فهم معطيات اللحظة التاريخية الراهنة، وتحليل الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي في ضوء الأحداث التي تجري في الإقليم.
المحددات الفلسطينية .. بين القبول والرفض
ينقسم الشارع الفلسطيني في موقفه إزاء تفجير انتفاضة بين مؤيدٍ متحمِّس، ومعارضٍ بشدّة؛ الذين يؤيدون إطلاق انتفاضة ثالثة، ينطلقون من إحساسهم بالظلم والمهانة، ومن إيمانهم بحقهم في المقاومة والدفاع عن النفس، ومن قناعتهم بانسداد الأفق السياسي، ومن إحباطهم من المجتمع الدولي، وأنه ليس هناك ما يخسرونه (سوى القيود كما يقول البعض)، وأن اعتداءات الجيش والمستوطنين تستوجب الرد عليها بالمثل.
وبالنسبة لهؤلاء لم يعد السؤال هل تندلع انتفاضة جديدة أم لا، بل السؤال متى؟ أي أن حدوث انتفاضة شعبية مسألة طبيعية ومنطقية جدا في ظل الانتهاكات والإعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وطالما أن الاحتلال جاثم فوق الأرض الفلسطينية. وبالتالي، وحسب هؤلاء، فإن الانتفاضة هي الرد الأمثل على حالة الركود السياسي، وهي التي ستعيد الألق للقضية الفلسطينية، بعد أن تراجعت، وهي التي ستعيد للجماهير دورها الريادي وتعطيها زمام المبادرة، خاصة بعد أن هُمِّـشَت طويلا، واستكانت وتكاسلت بعض الشيء، وخرجت من دائرة التأثير.
ويضيف أصحاب هذا الرأي بأن الحالة المزرية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية سببها الارتهان لخيار المفاوضات، وإهمال الخيارات الأخرى، ووضع كل البيض في سلة التسوية، وأن فشل المفاوضات في التوصل لأي نتيجة مُرضية سببه ضعف الحالة الفلسطينية من جهة، وتعنّت الموقف الإسرائيلي ومراوغته من جهة ثانية، وبالتالي فإن البديل عن المفاوضات هو انتفاضة شعبية شاملة، خاصة وأن الكفاح المسلح بات خيارا صعبا، والمقاومة الشعبية المحصورة في مناطق معينة (القرى الحدودية) لن تحقق سوى إنجازات رمزية وإعلامية، مثل إجبار الإسرائيليين على تقليص الأراضي المصادرة، أو تعديل مسار الجدار أو منعه في مناطق معينة، أو على صعيد زيادة الوعي الدولي لواقع الاحتلال.[2]
أما الذين يتحفظون على البدء بانتفاضة ثالثة، فهم في الغالب ينطلقون من حسابات عقلانية لا تنقصها روح الوطنية؛ فمن وجهة نظرهم أن الانتفاضة الأخيرة كلفت الفلسطينيين الكثير: سواء في عدد الشهداء الكبير، أم في عدد الجرحى والمعوقين، وما ترتب على ذلك من مآسي اجتماعية فاجعة، أم في تدمير البنية التحتية وتدمير الاقتصاد والخسائر المادية الفادحة، أم في الفوضى الأمنية والفتان الذي ترافق معها، وتسبب في تشويه صورة الفلسطيني، أم في الخسائر السياسية الباهظة وأبرزها تكثيف الاستيطان، وبناء الجدار، ومصادرة مساحات واسعة من الأراضي، وتهويد القدس وإغلاق المؤسسات الفلسطينية فيها، أم في المشهد الختامي للانتفاضة والذي دشن لمرحلة الانقسام التي دامت سبع سنين عجاف، وأدت إلى تراجع القضية الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها.
والأخطاء التي وقعت فيها الفصائل الفلسطينية أثناء الانتفاضة الثانية، من وجهة نظر الفريق المعارض، هو أنها عملت على عسكرة الانتفاضة منذ وقت مبكر، ثم رفعت سقف العمليات العسكرية إلى مستوى غير طبيعي (العمليات التفجيرية)، وبذلك تكون قد حيَّدت الجماهير الشعبية، وأخرجتها من ميدان المواجهة، وأفرغت الانتفاضة من مضامينها الشعبية. الخطأ الثاني أنها حولت المقاومة إلى مجرد ردة فعل (عسكرية) على كل عملية اعتداء أو اغتيال نفذها جيش الاحتلال. والخطأ الثالث أن ضرباتها لم تكن منسقة ضمن إستراتيجية موحدة واضحة ومعروفة، وكانت مواقيتها في معظم الأحيان خاطئة، وبدلا أن تتكامل الفصائل فيما بينها ويكون أداءها منسجما يصب في اتجاه واحد، صار عملا تنافسيا ومتضاربا ويعطل بعضه بعضا. وفي النتيجة وقعت الفصائل في الفخ الإسرائيلي، ولعبت في الساحة التي استدرجها إليها العدو، في الوقت والمكان الذي حدده، بحيث كانت إسرائيل في كل مرة تستفيد من المناخ السياسي المواتي الذي ينجم بعد ردة الفعل الفلسطينية، إما لتحقيق مكاسب سياسية، أو للخروج من مأزق داخلي، أو للتخلص من الضغوطات الدولية.
أي أن الانتفاضة الأخيرة – حسب رأي الفريق المعارض – أدارتها إسرائيل بتحكم شبه كامل، وحققت من خلالها إنجازات خطيرة، فيما كان الفلسطينيون في موقع رد الفعل، والمتلقي للضربات، وفي النتيجة كانت وبالاً سياسيا بمقاييس كثيرة.
ويرى هذا الفريق (المعارض) أن الفلسطينيون لم يستفيدوا من تجارب الانتفاضة السابقة، ولم يقوموا بمراجعات نقدية لها، بل أنهم أساسا لم يقدموا قراءة نقدية علمية لمسار الكفاح الفلسطيني على مدى عمر الثورة، بل وعلى مدى قرن كامل؛ الأمر الذي يعني تكرار نفس الأخطاء، وربما الوصول لنتائج أسوأ. حيث يتوقع البعض أنه في حالة اندلاع انتفاضة فستكون أكثر عنفا ودموية من سابقتها، خاصة من قِبل الطرف الإسرائيلي.
ويضيف هؤلاء، أنه وحتى لو استفاد الفلسطينيون من التجارب والأخطاء السابقة، وحتى لو تمكنوا من إطلاق انتفاضة شعبية خالية من الأخطاء؛ فإن الظرف السياسي الإقليمي والدولي لا يخدمهم في هذه المرحلة، بل على العكس، فبسبب انشغال الدول العربية بتبعات وتداعيات ما سمي بالربيع العربي، وبسبب حالة الفوضى والصراعات الداخلية التي تعيشها بعض الدول المهمة خاصة مصر وسورية والعراق، فإن الأنظمة العربية لن تقدم أي مساعدة لا سياسية ولا مالية للفلسطينيين، وستتركهم لمصيرهم .. وهذا الأمر ينطبق إلى حد ما على المجتمع الدولي، وبالتالي فإن إسرائيل ستجد في الانتفاضة فرصة لتصفية حساباتها وتنفيذ مخططاتها تحت غطاء دفاعها عن النفس، وستستفرد بالفلسطينيين دون أي رادع لا دولي ولا عربي.
اليوم، باتت لدى شرائح واسعة من الفلسطينيين قناعة راسخة بأنّ الإسرائيليين هم الذين يستدرجونهم إلى انتفاضة ثالثة، وبالتالي فإنّ اندلاع انتفاضة فلسطينية ستكون مصلحة إسرائيلية. ويقوم هذا الافتراض على أنّ الانتفاضة السابقة خدمت المصلحة الإسرائيلية، ووفرت لها ظروفا لم تكن لتحظى بها في أجواء عملية السلام (حتى لو كانت متعثرة)، كما أن توقيت الانتفاضة الآن هو مصلحة إسرائيلية استنادا لمعطيات المرحلة. أضف إلى ذلك أنّ هناك فرضية مفادها بأنّ البنى السياسية، والتنظيمية، والاجتماعية الفلسطينية غير مهيّأة لانتفاضة ثالثة، بل أن الفلسطينيين يحتاجون سنوات طويلة لترميم آثار الانتفاضة السابقة.
كما أن حالة الانقسام بين الضفة وغزة ستضعف الانتفاضة، وستجعلها محصورة فقط في الضفة الغربية، والتجاذبات السياسية والمناكفات الإعلامية ما بين فتح وحماس ستضعف من قوة التمثيل الفلسطيني، وشرعيته، وحضوره على الساحة الدولية، وستبث رسائل إعلامية مشوشة ومربكة للعالم.

لماذا تأخرت الانتفاضة ؟!
ظلت أسباب تأخر الانتفاضة مسألة محيرة حتى بالنسبة للمراقبين الأجانب، فمثلا كتب المحلل السياسي في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان مقالة نقلتها صحيفة "معاريف" على موقعها الإلكتروني حاول فيها أن يجد تفسيراً لموقف الفلسطينيين، لماذا لا يرغبون بنشوب انتفاضة ثالثة، هل هم تعبون، أم منقسمون، هل الانتفاضات السابقة تسببت لهم بالمغارم أكثر من المغانم ؟! وأشار فريدمان إلى أن الانتفاضة الثالثة قد بدأت فعلاً، ولكن ليس من قبل الفلسطينيين بل من قبل الممثلية الأوروبية في بروكسل، حيث شكل هذا الضغط الأوروبي المصدر الحقيقي لتعزيز المطالب الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل. وذكّر فريدمان في مقالته بأقوال وزير المالية "يائير لبيد" إنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين فإن الأضرار ستطال جيوب جميع الإسرائيليين. مشيراً إلى أن المقاطعة الاقتصادية هو أكثر ما تخشاه إسرائيل. وأضاف فريدمان: "لهذه الانتفاضة تأثير بعيد المدى، حيث جاءت متزامنة مع حديث الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي دعا إلى إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مما حوّل المطلب الأمني لإسرائيل إلى مطلب لا أخلاقي".[3]
ومن جهتها قالت صحيفة "معاريف" أن السلطة الفلسطينية تمنع إشعال الانتفاضة الثالثة بقرار من الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأجهزة الأمنية الفلسطينية، بمنع الانتفاضة، ومتابعة أي أعمال على الأرض، وفق إدعاء الصحيفة. مضيفة بأن قرار أبو مازن بتهدئة الأمور وعدم الذهاب إلى انتفاضة ثالثة مرده أن إسرائيل ستستهدف السلطة الفلسطينية، وتحاول انهاءها ومهاجمتها، مشيرة إلى أن القيادة الفلسطينية تدرك مدى تطرف ويمينية الحكومة الحالية التي تعتبر السلطة عدوا لها، لأنها تحاول إحراجها على الصعيد الدولي، وجرها إلى المحاكم الدولية.
وقالت الصحيفة أيضا إن كل ما جرى ويجري من أحداث ما هو إلا محاولات فردية، سواء عمليات إلقاء الحجارة أو المولوتوف، مع تأكيدها على أن حماس تحاول استثمار هذه الأحداث، والضغط عبر وسائل إعلامها، لإظهارها على أنها مقدمات للانتفاضة الثالثة التي تخطط لها حماس، كما أشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين الفلسطينين يعتقدون أن هناك محاولات لجر الضفة الغربية إلى حالة من الفوضى، كون هذه الحالة ستخدم جهات مختلفة، منها حماس، التي تريد نقل أزمتها وتصديرها إلى الضفة الغربية، بعد تشديد الحصار على القطاع، وإغلاق المعابر والأنفاق من مصر.
كما يرى المسؤولون الفلسطينيون أن من مصلحة إسرائيل وحكومة اليمين فيها أن تتدهور الأوضاع بالضفة، وأن يظهر عجز السلطة عن معالجتها، وذلك للتملص من الضغوط الدولية خصوصا بعد أن استطاعت السلطة إحراج إسرائيل في أكثر من محفل دولي، مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى اعتبار أن السلطة نظام معادي لإسرائيل، ولكن بشكل ناعم، إلا أنه يؤثر سلبا عليها، وبالتالي على القيادة الإسرائيلية محاربتها بكل قوة، لكن دون الظهور على أنها هي من يحارب السلطة ورئيسها، أي من خلال إحداث الفوضى في مناطق السلطة.
وبحسب الصحيفة فإن هناك عامل مهم يساعد السلطة الفلسطينية على ضبطها الأمور، ألا وهو أن الغالبية من المواطنيين الفلسطينيين لا يرون في انتفاضة ثالثة مصلحة فلسطينية، في ظل الظروف الصعبة اقتصاديا وسياسيا التي يعايشونها، مما أعطى قدرة للأجهزة الأمنية الفلسطينية للسيطرة على مجريات الأمور.[4]
هل الانتفاضة هي الخيار الوحيد ؟!
المقاومة هي في الأساس رد فعل طبيعي عفوي يمارسه الشعب بكافة فئاته وطبقاته وقواه الحية لمواجهة أي خطر أو عدوان خارجي يتعرض له (وهو في الحالة الفلسطينية الاحتلال)، والشعب يلجأ للمقاومة للتعبير عن رفضه للواقع المفروض عليه (الاحتلال) ورفضه لسياساته وعدم الرضوخ له.
والمقاومة عادة لا تقتصر على شكل واحد ولا تنحصر في قالب محدد، ولأنها فعل جماهيري؛ من المفترض أن لا تحتكرها المجموعات المسلحة، بل أن تُبنى علاقة تناغم وتكامل ما بين الجماهير الشعبية والمجموعات المسلحة، بحيث لا يطغى أحد على الآخر، ما يعني أن أساليب المقاومة ومستواها وكيفية ممارستها أمر منوط بإمكانيات الشعب، وقدرته على التواصل، وتحمل تبعاته، مع ضرورة ارتباط المقاومة بهدف سياسي محدد وواضح وقابل للتحقيق.[5]
وطالما أن الشعب الفلسطيني يخوض حربا سياسية طويلة الأمد، لا يستطيع حسمها بالضربة القاضية (وفق المعطيات الحالية)، وبالتالي ينبغي عليه العمل على كسبها بالنقاط، وبمراكمة الإنجازات والبناء عليها، حيث أن إمكانية تسجيل ضربات موجعة متلاحقة للمشروع الصهيوني بالوسائل السياسية والدبلوماسية وبالكفاح الشعبي أكثر بكثير من قدرته على إلحاق خسائر حقيقية به بالوسائل العسكرية فقط.
بمعنى آخر، فإن البدائل المتاحة أمام الفلسطينيين كثيرة، وهي مهمة ومؤثرة، وقادرة على إحداث التغيير المطلوب، وهذه البدائل هي استمرار وتصعيد المقاومة الشعبية، وصولا إلى تعميمها في كل الأرض الفلسطينية، وعدم حصرها في مناطق التماس وعلى تخوم الجدار، وابتداع آليات واساليب جديدة ومختلفة، مع استمرار حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والعمل على تدويل الحملة، وصولا إلى المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، والتي قد تفضي إلى فرض عقوبات دولية على إسرائيل.
ولا بد أن تترافق المقاومة الشعبية وحملات المقاطعة مع هجمة سياسية ودبلوماسية وإعلامية مكثفة، تستهدف فضح الممارسات الإسرائيلية، وكشف حقيقة دولة إسرائيل العدوانية التوسعية الرافضة للسلام، وصولا إلى تقديم قادة إسرائيل لمحكمة الجنايات الدولية، وأيضا التوجه لمجلس الأمن والجمعية العمومية وغيرها من المنظمات والهيئات الدولية.
وطبعا هذا كله يتطلب أولا وقبل أي شيء تعزيز صمود الشعب فوق الأرض الفلسطينية، وتعزيز مكانة منظمة التحرير الفلسطينية ووحدانية تمثيلها، وتجسيد الوحدة الوطنية، وإنهاء ملف الانقسام للأبد، والتقدم للعالم بلغة وخطاب واحد.

 إمكانية إندلاع انتفاضة
قد تتساوى فرص إندلاع انتفاضة (الآن، أو في القريب العاجل) مع فرص تأجُّلها وبقاؤها في رحم الغيب لأمد غير معلوم؛ ما يدعم الاحتمال الأول، هو أن حالة الاستعصاء السياسي والفراغ الذي تعيشه المنطقة لا يمكن لها أن تستمر طويلاً، وإذا لم تتخذ القيادة قرارات وإجراءات لمواجهة الحالة فإن الجماهير ستفعل ذلك، وستتولى حينها زمام المبادرة.
وهناك بعض الباحثون ممن يؤمنون بإمكانية اندلاع انتفاضة، بل بإمكانية نجاحها؛ الباحث "مجدي نجم" كتب في مقالته:[6] "بعيدا عن العواطف والمغامرة وبواقعية سياسية، يمكن لانتفاضة ثالثة أن تندلع، وأن تنجح، وأن تحقق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني، ولكن ذلك مرتبط بشكل أساسي بتغيير استراتيجيات القيادة الفلسطينية لإدارة الصراع مع الاحتلال، وكذلك إعادة النظر بخياري التفاوض والمقاومة، ليتسنى بموجب ذلك إعادة النظر في الاستراتيجيات المستخدمة في مواجهة الاحتلال، بمعنى أنه على القيادة التفكير بشكل مختلف في أوضاع الضفة الغربية وقطاع غزة، من حيث مركز قيادة السلطة ومرجعيتها وعلاقاتها الداخلية (الوطنية) وكذلك علاقتها بإسرائيل، وإبقاء حالة التنوع في خيارات مواجهة الاحتلال من أماكن مختلفة في ذات الوقت". والسؤال: هل القيادة الفلسطينية مستعدة لذلك التغيير كشرط لازم لنجاح أي انتفاضة ؟!
 ومن ناحية ثانية، فإن الانتفاضة لا تحتاج حتى تندلع  لقرار سياسي أو تنظيمي، فهي تأتي عادة فجأة، في لحظة لم يكن أحد يتوقعها؛ فالانتفاضات السابقة اندلعت بشكل عفوي، ومن دون أن يرصدها أحد، وكانت عبارة عن انفجارات شعبية حقيقية. وإذا اندلعت أي انتفاضة فلن يكون بمقدور أحد أن يوقفها، لا القيادة الفلسطينية (على فرض أنها حاولت ذلك)، ولا جيش الاحتلال. ولكن هذه اللحظة لا تأتي اعتباطا ولا مصادفة، تأتي تتويجا لتراكمات معينة على الصعيدين الداخلي والخارجي، تأتي بعد نضوج جملة من الظروف والمقدمات، وكل ما تحتاجه حتى تنفجر هو شرارة، قد تكون حادث سير متعمد (كما في الانتفاضة الأولى)، أو عملية استفزازية من قبل إسرائيل (كما في زيارة شارون لباحة الأقصى في الانتفاضة الثانية).
اليوم، وعلى الرغم من توفر ظروف سياسية (داخلية وخارجية) شبيهة بتلك التي توفرت سابقا وكانت كافية لإشعال انتفاضة، وعلى الرغم من توالي الاستفزازات الإسرائيلية وحدوث كثير من الاعتداءات التي تصلح لأن تقدح تلك الشرارة، وعلى الرغم من أن أكثرية الشعب الفلسطيني على قناعة بأنعدام فرص التسوية، خاصة مع صمت المجتمع الدولي إزاء سياسات إسرائيل واستمرارها بالاعتداءات ومشاريع التهويد والاستيطان؛ إلا أن الانتفاضة الثالثة التي يرى البعض أنها ستقلب الطاولة، ما زالت ولادتها متعسرة، وما زالت بعيدة المنال.
ولمعرفة إمكانية ولادة انتفاضة ثالثة، ولفهم أسباب تعسُّرها حتى الآن، يرى باحثون أنه بالرغم أن العامل الموضوعي للانتفاضة (الاحتلال وسياساته) ناضج لتفجير انتفاضة، لكن العامل الذاتي (الفلسطيني) غير ناضج.[7] ويرى آخرون السبب هو عدم وجود البيئة الحاضنة، كون السلطة الفلسطينية لم توفر تلك البيئة اللازمة (كما حصل في انتفاضة الأقصى) بل وأكثر من ذلك فهي ترفض أي خيار له علاقة بالمقاومة المسلحة أو بعمل انتفاضة شعبية، باعتبار أن ذلك سيجلب الخراب والدمار للبلاد والعباد. كما قال الرئيس محمود عباس: "إن من واجبه منع إطلاق مثل هذه الانتفاضة، لأن الإسرائيليون هم الذين يسعون لها". [8]وفي نفس السياق قال اللواء عدنان الضميري، الناطق باسم قوات الأمن الفلسطينية، "إن الانتفاضة سوف تساعد الإسرائيليين على الخروج من أزمتهم السياسية، وتحويل الأنظار عن موقفهم اللاأخلاقي أمام الشرعية الدولية. بمعنى آخر، مساعدتهم في التهرب من التزامهم باستئناف عملية السلام".
ويرى محللون أن ممانعة قيادة السلطة لاندلاع انتفاضة، هو خشيتها أن تكون انتفاضة عكسية على السلطة، ستقلب الطاولة على الاحتلال والسلطة معا. وهناك من يعتبر أن "ما يمنع اندلاع انتفاضة هو عدم رغبة حركتي "فتح" و"حماس" في إطلاقها، وذلك لأن الانتفاضة القادمة في حال نشوبها لن تهدد السلطة الفلسطينية فحسب، بل وخصمها اللدود، حركة حماس أيضا؛ فبسبب النزعة العسكرية للحركة والحروب الصغيرة التي خاضتها ضد إسرائيل على مدى السنوات القليلة الماضية، يُفترض أن تكون أكثر ميلا للانتفاضة من عباس، ولكن التقارير تشير إلى حماس تفضل أن تكون الانتفاضة في الضفة الغربية، بعيدا عنها. وذلك لأنه يبدو أن البقاء في السلطة، بالنسبة لطرفي الانقسام الفلسطيني الكبيرين، يتقدم على أي شيء آخر في سلم أولوياتهما. وكلاهما يدرك أن اي تحرك شعبي واسع وصعوبة السيطرة عليه سيمثل الخطوة الأولى في طريق الإطاحة بهما".[9]
وثمة رأي آخر يقول بأن أهم ما يعيق اندلاع انتفاضة ثالثة مشكلة تتعلق بقناعة الأكثرية من الفلسطينيين، مفادها بأنّ الانتفاضة الثالثة ستكون بالضرورة استنساخ للإنتفاضة السابقة، التي نجم عنها خسائر باهظة سياسية ومادية، وترافق معها الكثير من مظاهر الفوضى، واستفادت منها في المحصلة إسرائيل. وثمة رأي آخر مفاده بأن حياة الفلسطينيين تغيرت، وأنهم مكبلون بالقروض، وكل همهم هو تحسين مستواهم الاقتصادي فقط، وأن إغراءات بطاقة VIP تمنع القيادات حتى من مجرد التفكير بانتفاضة.
في حين رأى آخرون أن الخروج من حاضنة أوسلو يعد شرطا أساسيا حاسما لانطلاق أي انتفاضة قادمة ضد الاحتلال وتوفير سبل نجاحها، وفي هذا السياق رأى بعض المحللين إلى أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية هي التي تمنع اندلاع انتفاضة، بدليل أن الرد الشعبي على الاعتداءات الإسرائيلية ظهر فقط في القدس والمدن الفلسطينية داخل الخط الأخضر وفي القرى الفلسطينية غير الخاضعة مباشرة للسلطة الفلسطينية، أي المناطق الخاضعة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة. (كما حدث مثلا بعد خطف الفتى المقدسي أبو خصير وحرقه حيا من قبل المستوطنين في حزيران 2014، وكما حدث في المظاهرات الشعبية التي خرجت مناصرة لغزة أثناء العدوان عليها).[10]
المحددات الإسرائيلية
يدور جدل داخلي إسرائيلي حول إمكانية نشوب انتفاضة في الأراضي الفلسطينية، وهو جدل لا يجري بشكل بريئ مجرد من الموقف السياسي والأيديولوجي لكل طرف، ولا يجري دائما وفقا لمعلومات وتقديرات استخباراتية مجردة، بل يستخدمه كل طرف من أجل إقناع الرأي العام الاسرائيلي بوجهة نظرة التي يؤمن بها.
بالنسبة للموقف الإسرائيلي، يرى محللون أن إسرائيل ليست جاهزة لأي حل سياسي حقيقي، وما يقلقها على المدى الإستراتيجي هو مستقبل وهوية وشكل دولة إسرائيل، في ظل تهديدات التفوق الديمغرافي الفلسطيني، أو تحول الكيانية الفلسطينية إلى واقع دولي ضاغط خاصة بعد حصول فلسطين علىى صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة. أما على المستوى التكتيكي فهي تسعى للخروج من عزلتها السياسية، ومواجهة الضغوط الدولية التي تتعرض لها من حين لآخر. وكل ما تفعله منذ عقدين من الزمان تحت غطاء العملية السلمية والمفاوضات إنما هو محاولة لكسب الوقت، لفرض وقائع معينة على أرض الواقع، تفضي في النهاية إلى مصادرة أكبر قدر ممكن من الأراضي، وتكثيف عمليات التهويد والاستيطان، وخلق كانتونات فلسطينية متناثرة غير متصلة، تدير نفسها بنفسها، دون أي إمكانية لأن تتحول إلى دولة، أو كيان سياسي. وهذا هو جوهر الحل الذي تسعى إليه على المدى البعيد والمتوسط. [11]
وفي الوقت الراهن، تواجه إسرائيل مأزق اللاحل والفراغ السياسي الناجم عن توقف المفاوضات دون نتيجة، والخشية من سقوط الحكومة، خاصة وأن نتنياهو لا يمتلك أي رؤية لأي حل سياسي، وما يعمق من أزمة إسرائيل، أن الخطاب السياسي للقيادة الفلسطينية المعتدل جدا (إلى حد اللامعقول أحيانا) قد أفقد إسرائيل إمكانية المراوغة والتحجج بعدم وجود شريك، واللعب على قصة الإرهاب الفلسطيني، رغم أنها حاولت الكثير في سبيل ذلك، إلا أنها أخفقت، حتى أنها فشلت في انتزاع موقف أمريكي ضد حكومة التوافق الوطني.
لذلك، وكما جرت العادة، فإن إسرائيل تواجه أزماتها من خلال تصديرها إلى الخارج، إي من خلال افتعال الحروب وتفجير الموقف الأمني، ليس من أجل توحيد جبهتها الداخلية وحسب؛ بل وأيضا لأن إسرائيل تعتاش على الحروب، حيث أنها في أجوائها وتحت ظلالها تقضم المزيد من الأراضي، وتستقدم المزيد من المستوطنين. وهذا يتناسب مع طبيعة دورها الوظيفي، وطبيعة تركيبتها السياسية، ولأنها من خلال الحروب وبسبب تفوقها العسكري تحقق في كل مرة مزيدا من الإنجازات الميدانية على أرض الواقع باتجاه الحل الذي تسعى إليه.
ولو تتبعنا مسار الأحداث في العقود الأخيرة، لوجدنا كيف كانت إسرائيل تفتعل الأحداث في كل مرة لجر المنطقة إلى دائرة العنف، وأن هذا الأمر هو الذي أطال من عمرها، وأكسبها الكثير من التعاطف الدولي، (خاصة بسبب قدرات الإعلام الصهيوني)، ومنع تناقضاتها الداخلية من الظهور إلى السطح لتفعل فعلها في مصير الدولة، وأعطاها المبررات للتهرب من استحقاقات العملية السلمية التي تستخدمها كغلاف لتجميل صورتها، والتمويه على طبيعتها العسكرية التوسعية.
وما يدعم فرضية أن الانتفاضة ستكون مصلحة إسرائيلية هو أن الانتفاضة الثانية ورغم أنها كانت متوقعة أكثر من سابقتها؛ إلا أن الواقع كشف لاحقاً بأن "آرييل شارون" هو الذي لعب دوراً متعمداً في التمهيد لاندلاعها، وذلك من خلال الزيارة الاستفزازية التي قام بها للمسجد الأقصى، وكان متوقعا أن يقابلها المواطنون الفلسطينيون بالحجارة، وكانت إسرائيل قد أعدت القناصة ليقوموا بدورهم بإشعال الفتيل، حيث كانوا يتخذون مواقعهم، مما أدى إلى سقوط 47 فلسطينياً خلال ثلاثة أيام.
وفي أثناء انتفاضة الأقصى، كانت إسرائيل تستدرج ردود الفعل الفلسطينية وتتعمد التصعيد العسكري كلما سادت فترة من الهدوء، وبالتزامن مع الحراك السياسي الدولي (والأمريكي خاصة) إلى أن حققت معظم غاياتها.
ولو عدنا قليلا بالزمن، بنظرة تأمل موضوعية، لوجدنا أن إسرائيل حققت أهم منجزاتها السياسية، وثبتت كل ما تريد على أرض الواقع (مصادرة أراضي، إستيطان، بناء الجدار، إغلاق مؤسسات القدس وتهويدها .. إلخ) في نفس الفترة التي بلغ فيها الكفاح الفلسطيني المسلح أوجه، أي عندما كان العنف المتبادل في أعلى درجاته، وكانت العمليات التفجيرية في قلب المدن الإسرائيلية، أي في ذروة الانتفاضة، وكل ما حققته إسرائيل لاحقا إنما بني على تلك الفترة.
ولكن هذا لا يعني أبدا، أنه طالما إسرائيل تستفيد من التصعيد العسكري، فإن على الفلسطينيين تفويت الفرصة على أعدائهم، وبالتالي عليهم الاستكانة والتزام الهدوء .. فمثل هذا الطرح لا يغدو عن كونه استسلاما مذلا. ومن ناحية ثانية، فإن إسرائيل بإمكانها جر المنطقة إلى دائرة العنف وإشاعة الفوضى دون انتفاضة؛ أي من خلال الحروب الصغيرة مثلا، كما تفعل في غزة، حيث تشن عليها حربا كل سنتين إلى ثلاثة سنوات، أو من خلال جر الفلسطينيين إلى اقتتال داخلي وتغذية أسبابه، أو من خلال تعليمات لعملائها بإثارة أعمال شغب وفوضى، أو من خلال افتعال قضية أمنية، أو استغلال أي عملية عسكرية قد ينفذها الفلسطينيون.
فعلى سبيل المثال، في حزيران 2014، استغلت إسرائيل قصة اختفاء المستوطنين الثلاث، وصعدت من إجراءاتها العدوانية الاستفزازية في الضفة الغربية، ولما كادت أن تتحول إلى انتفاضة، حولت مدافعها باتجاه قطاع غزة، وهذا ربما لأن إسرائيل تفضل حربا في غزة على انتفاضة في الضفة، خاصة إذا اشترك فيها المقدسيون وفلسطينيو الداخل.
ما يعني أن الانتفاضة ليست هي الخيار المفضل بالنسبة للإسرائيليين، لكنها (أي إسرائيل) لديها القدرة على تفريغ أي انتفاضة من محتواها الوطني، وحرف مسارها، وتشويه صورتها، وجعلها وبالا على الفلسطينيين، أو على الأقل تراهن على ذلك، ومع ذلك فإنها تخشى من العمل الشعبي الجماهيري لأنه يحرمها من إمكانية الاستفادة من قدرات جيشها الهائلة، ولأنه يكشف صورتها البشعة أمام العالم، ولأنه يُكسب القضية الفلسطينية المزيد من الأنصار على الساحة الدولية، وأيضا يظل لدى إسرائيل هواجس ومخاوف من خروج الأمور عن سيطرتها، وعجزها عن مواجهة الانتفاضة، خاصة إذا كان أداؤها سليما، وتداركت الأخطاء التي تريد إسرائيل استغلالها.
كما أنها تخشى من دخول المستوطنين على الخط وتصعيد الأعمال الانتقامية، على نحو خارج عن السيطرة، خاصة في ظل تزايد قوة ونفوذ اليمين والمستوطنين في إسرائيل، وبالتالي دخول البلاد كلها في حالة فوضى. كما أنها تخشى أن يشترك في الانتفاضة فلسطينيو الداخل (عرب ال 48) وهم من الناحية القانونية مواطنون إسرائيليون، ولا تستطيع السلطات الإسرائيلية التعامل معهم بنفس أسلوب التعامل مع سكان الضفة وغزة، وهذا سيزيد من تعقيد الموقف، ويصعب المهمة على إسرائيل.
وحول توقعات الإسرائيليين حول إمكانية اندلاع انتفاضة في المرحلة الراهنة من عدمه؛ لدى اليمين الإسرائيلي قناعه بأن القيادة الفلسطينية الحالية غير معنية بأن تصل الأمور إلى حد الصدام، وأن الأولويه لها هي الحفاظ على الوضع الأمني، والذهاب إلى مؤسسات الأمم المتحدة. لذلك ، من وجهة نظر هؤلاء فإن انتفاضة فلسطينية ثالثة ليست بالحسبان، وعليه بإمكان إسرائيل أن تواصل سياستها الإستيطانية وفرض الحقائق على الأرض؛ لأن هذه الفرصة قد لا تتكرر.
وجهة النظر الأخرى، والتي في الغالب تحملها قوى اليسار في إسرائيل، تعتقد أن استمرار الوضع بهذا الشكل سيقود حتما إلى انفجار الأوضاع في المناطق الفلسطينية، ليس مهما أن يسمى هذا الانفجار انتفاضة ثالثة أو أي اسم آخر، المهم أن غياب الإرادة السياسية الإسرائيلية في إنجاح المفاوضات، والاستمرار في سياسة الاستيطان وإحراج القيادة الفلسطينية، هذا الأمر سيقود حتما إلى انفجار في الأوضاع، حتى وإن كانت القيادة الفلسطينية لا ترغب بذلك، لأن قدرتها على التحكم تتآكل بشكل تدريجي.[12]
أما الأوساط الأمنية والأكاديمية الإسرائيلية (والتي هي مصدر اتخاذ القرار) فإنها ترصد الحراك الشعبي الفلسطيني وتوجهات القيادة، والفرص والإمكانات المتاحة، والمسارات المحتملة لتطور الأحداث .. لكنها تضع في الحسبان أن الانتفاضة قد تأتي في أي وقت، حتى لو كانت حساباتهم وتحليلاتهم تقول العكس، وهذا ما تعلموه من الانتفاضات السابقة، لذلك فإنها تضع في الحسبان هذا الاحتمال في كل الظروف. والأهم من ذلك أنها تضع التصورات والخطط السياسية والإعلامية والأمنية لكيفية تجيير الانتفاضة لصالحها، وجعلها حربا تدميرية على الفلسطينيين.
خلاصة
صار واضحا لدينا أن موقف الشارع الفلسطيني منقسم برأيه وتقديره لإمكانية اندلاع انتفاضة جديدة على الأقل في المدى المنظور، كما هو مختلف برأيه حول جدوى هذه الانتفاضة، ومن الذي سيستفيد منها، ويجيرها لصالحه: الفلسطينيون، أم الإسرائيليون ؟!
طبعا الخلاف في الرأي مسموح، وهذا بحد ذاته ظاهرة صحية، بل هو ضروري ومفيد قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة، ولا يجوز اعتبار أي موقف حالي من قبول أو رفض انتفاضة ثالثة معيارا لوطنية أي طرف؛ من الممكن جدا أن يكون من يرفض اندلاع انتفاضة جديدة اليوم هو أول المدافعين عنها إذا ما اندلعت، وربما يكون أول شهداؤها .. كما أنه من الممكن أن يكتفي بعض المتحمّسون للانتفاضة بأخذ دور المنظّر والمراقب، دون أن يكلف نفسه عناء شيء، سوى المزاودة ..
صحيح أن المقدمات اللازمة لاندلاع انتفاضة متوفرة الآن، لكن أوانها لم يحن بعد، الانتفاضة الشعبية الجارفة ستنشب فقط عندما يلتقي الأمل واليأس معا؛ أي عندما تصل الجماهير إلى مرحلة اليأس من المجتمع الدولي، واليأس من الحلول المطروحة، واليأس من طريقة إدارة الصراع المتبعة، ويلتقي هذا اليأس مع الأمل بإمكانية التغيير، والأمل بأن الحراك الشعبي سيكون في الاتجاه الصحيح وبالأساليب الصحيحة، والثقة بأن هناك قيادة حكيمة ومخلصة ستقود هذه الانتفاضة بطريقة صحيحة، والأمل برؤية النور في آخر النفق المظلم .. حينها فقط سنكون على موعد مع انتفاضة ستقلب الطاولة رأسا على عقب، وستنتزع حقوق شعبنا في الحرية والاستقلال. وعلى ما يبدو أن حالة اليأس متشكلة على أكثر من صعيد، أما الأمل فهو ضعيف في الظرف الراهن، سيما مع رؤية نتائج الثورات الشعبية العربية، أو ما سمي بالربيع العربي، وحالة الفوضى والضعف والتشرذم التي تسود المنطقة العربية.
وبالنسبة لمن ينادون بتكرار تجربة الانتفاضة الأولى، وعلى نفس النمط (أي انتفاضة شعبية سلمية)، فإنه من الصعب تكرارها، فهي كانت قائمة على ظرف اجتماعي وسياسي وتنظيمي لم يعد موجودا، بل حل محله واقع جديد ومختلف كليا، ومن ينادي بإمكانية الاستنساخ فإنه عاجز عن فهم ديناميات الظاهرة الاجتماعية، وغير متنبه للمتغيرات الجذرية التي طرأت على المشهد العام. ومن ناحية ثانية، فإن فكرة التظاهرات الموجهة ضد جنود الاحتلال غير ممكنة، كما كان يحدث في داخل المدن والبلدات الفسطينية، فهؤلاء الجنود باتوا يتواجدون في أماكن يصعب الوصول إليها من قبل المتظاهرين.[13]
وبالنسبة للمتخوفين من تكرار أخطاء الانتفاضة الثانية، فلربما أنهم على صواب، سيما وأن التنظيمات الفلسطينية لم تظهر دلائل حقيقية أنها تعلمت الدرس واستخلصت العبر، بل أن واقعا جديدا طرأ، هو الانقسام، وربما هذا الانقسام هو السبب الحقيقي في منع ولادة أي انتفاضة، ومعالجة هذا الانقسام وإنهائه كليا هي الأولوية الوطنية، التي تعد شرطا لا بد من تحقيقه قبل التفكير بأي انتفاضة.
ومقولة أن السلطة هي التي تقمع المظاهرات، وهي التي تحول دون اندلاع انتفاضة شعبية، مقولة واهية ومتهافتة، ومجرد حجة لمن لا يريد التحرك، أو لمن يسعى لتصفية حسابات حزبية وسياسية مع السلطة. فمع افتراض أن السلطة بالفعل تمنع المظاهرات في بعض المواقع التي تسيطر عليها، والتي لها حساسية خاصة، لكن هنالك عشرات أو مئات المواقع الأخرى التي لا وجود للسلطة فيها، مثل معظم القرى والكثير من المخيمات، وبالقرب من المستوطنات، والشوارع الالتفافية، والحواجز العسكرية الإسرائيلية، وعلى سبيل المثال، إذا منعت السلطة المظاهرات من أمام بيت إيل؛ فهنالك في رام الله تحديدا نقاط اشتباك أكثر أهمية مثل عوفر، وحاجز قلنديا، وحتى حاجز بيت إيل يمكن مهاجتمه من قبل مخيم الجلزون .. وبالطبع هذا ينطبق على غيرها من المواقع في المحافظات الأخرى، وغني عن القول أن اشتعال هذه المواقع (كلها أو معظمها) يكفي لاندلاع انتفاضة كبرى، فيما لو توفرت الإرادة والظروف. ومع ذلك، فإن توفير السلطة لحاضنة الانتفاضة مسألة بالغة الأهمية.
وللرد على أصحاب نظرية أن حياة الفلسطينيين تغيرت، وبات كل همهم تحسين مستواهم الاقتصادي فقط، يقول القيادي في فتح سفيان أبو زايدة: "عندما انفجرت الانتفاضة الأولى بشكل مفاجئ كان وضع الشعب الفلسطيني أفضل بكثير مما هو عليه اليوم". ويضيف: "وللتذكير فقط، فقد كان كل الشعب الفلسطيني عبارة عن VIP1، فلم يكن هناك حاجز عسكري واحد، وكان الجميع يدخل بسيارته إلى أي منطقة في فلسطين التاريخية، وكان يعمل في إسرائيل مئات آلاف العمال دون الحاجة إلى ممغنط أو تصريح دخول. وعندما انفجرت الانتفاضة الثانية لم يكن هناك حواجز أو جدار، وكان الاستيطان أرحم بكثير مما هو علية اليوم".[14]
وختاما، يصعب القول بأن انتفاضة شعبية فلسطينية هي خيار إسرائيلي !! ذلك لأن الانتفاضة مقترنة دوما في الوجدان الشعبي والوطني بكل ما هو مقدس، ولأنها دم الشهيد وعذاب الأسير وأحلام الفقراء .. لأنها الثورة على الاحتلال والظلم، ولأنها نداء الإنسانية الخالد، وتوق الشعب للعدالة والحرية والاستقلال .. ومن ناحية ثانية، يصعب تصديق فكرة أن أي كيان سياسي يمكن أن يحث الناس على الثورة ضده !! فهذا عكس المنطق.
 ولكن، إسرائيل التي تسعى دوما لإخضاع الشعب الفلسطيني وإسكات صوته، أو حتى تصفيته .. تدرك تماما أن هذا غير ممكن، وبالتالي فإنها تتوقع من الفلسطينيين أن يثوروا عليها بكل الأشكال، وفي أي وقت. ولذلك فهي مجبرة على التعامل مع الحراك الفلسطيني مهما كان شكله ومضمونه، وبالتالي فإنها تفضل أن يكون هذا الحراك عشوائيا وفوضويا حتى تتمكن من احتوائه، ومن ثم جعله مناسبة لتحقيق أهدافها السياسية التوسعية، وفي هذا السياق ترى القيادة الإسرائيلية أن انتفاضة شعبية سرعان ما ستتحول إلى انتفاضة عسكرية مسلحة، هي التي ستعطيها تلك الفرصة، كما حدث في انتفاضة الأقصى.  
إذا كان خيار الانتفاضة الثالثة ليس هو الخيار الأمثل، وأن المقاومة الشعبية هي الخيار الصحيح، فإنه ينبغي لها أن تكون مقاومة شاملة، تعم كل الأرض الفلسطينية، وعلى فصائل العمل الوطني (خاصة حركة فتح) أن تبقى جاهزة وعلى مستوى المسؤولية الوطنية، لتكون قادرة على تنظيم وتوجيه الفعل الشعبي، وتلافي السلبيات؛ وهذا يتطلب من فتح أن تنهض من جديد، وتعيد التفكير مليا في طريقة إدارتها للصراع، وأن تعيد هيكلة بناها وقواعدها التنظيمية، وتجدد خطابها الثوري، وعلى القيادة أن تتولى زمام المبادرة وترتقي إلى مستوى الحدث، لأنها إذا لم تكن كذلك فإن الجماهير ستتجاوزها بكل بساطة.
نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، رام الله، العدد 259 ربيع 2015.

الهوامش




[1] . سفيان أبو زايدة، الانتفاضة الثالثة بعيون إسرائيلية، وطن للأنباء، رام الله. 13-11-2013. www.wattan.tv/ar/news/79793.html
[2]  أحمد جميل عزم، حراك الضفة الغربية في سياق حرب غزة، مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 2014. بيروت. ص 131.

[3]  . الخبر كما جاء بالنص على موقع الحوار المتمدن، تحت عنوان محلل في نيويورك تايمز: الاتحاد الأوروبي أطلق الانتفاضة الثالثة

 5 شباط 2014، http://www.ahewar.org/news/s.news.asp?nid=1561669
[4]  . معاريف: السلطة تمنع الانتفاضة الثالثة، وقرار إشعالها بيد الرئيس عباس، نقلا عن شبكة فلسطين الإخبارية PNN ، 12 نوفمبر , 2013 http://s.v22v.net/WyS
[5]  د. عبد المجيد سويلم، قضية المقاومة والمراجعة المطلوبة، صحيفة الأيام الفلسطينية  22/5/2008.
[6]  مجدي نجم، انتفاضة ثالثة تلوح بالأفق،  https://www.facebook.com/majdi.n.issa/posts/10152602750080362?pnref=story
[7]  أحمد جميل عزم، حراك الضفة الغربية في سياق حرب غزة، مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 2014. بيروت.  ص 128.
[8]  في حوار مع الرئيس الفلسطيني مع برنامج "وجهة نظر" على القناة الأولى بالتليفزيون المصري 1- شباط - 2009، وقال فيه إنه "لا يريد بصراحة انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، لأنها ستدمر ما تبقي من الضفة".

[9] . ديفيد هيرست، الانتفاضة الثالثة.. ضد إسرائيل والسلطة، ترجمة محمد أمين،2013/03/08 ، جريدة القبس الكويتيه. http://www.alqabas.com.kw/node/745948

[10]  مجدي نجم، انتفاضة ثالثة تلوح بالأفق،  https://www.facebook.com/majdi.n.issa/posts/10152602750080362?pnref=story
[11]  . مقابلة شخصية مسجلة، مع د. مصطفى البرغوثي، أمين عام المبادرة الفلسطينية جرت في مكتبه برام الله في حزيران 2011.
[12]  . سفيان أبو زايدة، الانتفاضة الثالثة بعيون إسرائيلية، وطن للأنباء، رام الله. 13-11-2013. www.wattan.tv/ar/news/79793.html
[13]  أحمد جميل عزم، حراك الضفة الغربية في سياق حرب غزة، مصدر سبق ذكره.
[14]  . سفيان أبو زايدة، الانتفاضة الثالثة بعيون إسرائيلية، مصدر سبق ذكره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق