كان عمرها ست سنوات حين اجتاحت المجاعة ديارها في منتصف الثمانينات،
مشاهد قليلة غامضة تحتفظ بها ذاكرتها عن تلك الأيام العصيبة، لكنها تذكر تماما تلك
البقرة الهزيلة التي جلبها والدها، كانت نحيلة على نحو لا يصدق، بعد أن ذبحوها لم
يحصلوا سوى على أقل من رطل من لحمها .. على الأقل منحتهم عشاء دسما تلك الليلة
المظلمة، بعد ثلاثة أيام لم يتناولوا فيها حتى كسرة خبز ..
لكن "سمارة"
تحفظ عشرات القصص التي سمعتها من أمها عن أيام القحط والخوف .. وصور عشرات الآلاف
من الناس الذين قضوا جوعا ومرضا، ومن قُتلوا في الحرب؛ فبعد سنوات من انحباس الغيث
صارت الأرض قاعا صفصفا؛ فصعد الرعاة إلى "جبل مُرة"، على أمل أن يجدوا
مرعى لمواشيهم، فتصدى لهم الـزُرّاع، ونشبت بينهما معارك طاحنة ..
ومع كل هذا الجدب، كان
الحطب الأكثر وفرة؛ فقد جفت الأشجار ويبس العشب، وكان يكفي حك حجرين ببعضهما
لإشعال حريق، ومع الظمأ والحر صارت العيون تقدح شررا؛ فتكفي نظرتين بين
رجلين لإشعال حرب .. وعندما اقتحمت ناقة "كرنوي" أرض
"المساليت" انفرط على الفور عقد السلم الأهلي الذي طالما ميز إقليم
دارفور، وارتكبت المذابح .. وبدلا عن سعيها وراء الكلأ، صار هم الناس الثأر
والانتقام !!
لا تكفُّ
"سمارة" عن محاولاتها نسيان تلك الذكريات البائسة .. لا تحب أن يفتح أحد
هذا الموضوع أمامها.
بعد سنوات عجاف، هطل
المطر، واخضرت الأرض من جديد، وعادت قطعان الجواميس تكتنز بالدهن واللبن، كبرت
"سمارة"، وتكور ثدياها، هي الآن في ميعة الصبا، وكل شباب
"الفاشر" يشتهونها ..
"سمارة" اليوم
مفعمة بالأنوثة، تغنج في حديثها، تهتم بزينتها وإبراز نعومتها، تراقب الأولاد،
ولكن عن بُعد. على عكس أختها "فاطمة" التي كانت تحب اللعب مع الصبيان،
وكان الجيران ينادونها "محمد ولد" ... ومع أن البلاد تمور بالحراك
والانقلابات؛ إلا أنها بقيت غارقة في حلمها الوردي ..
ظلت دارفور أرضا قصية،
متروكة مثل عجوز نسيها أهل الحي، لا أحد يرغب بزيارتها، إلى أن ظهر فيها النفط ..
فجأة، انهالت عليها الكاميرات، وجميع أنواع السلاح، وتجددت ذكريات الخوف والجوع
والكراهية، فبعد عقدين من زمن كسول، أفاقت الحرب من جديد ... إسرائيل، أرتيريا،
تشاد، قبائل عربية وأخرى من أصول غير عربية، الزغاوة والفورة، والجيش الشعبي
والعدل والمساواة، والترابي والبشير، والجانجاويد .. كلهم اشتبكوا معاً في لحظة
جنون .. وسط هذا الحقل المرعب نشأ "عوض" .. بعد أن نجا من الموت المبكر
على عكس أخوته الأربعة الذين سبقوه، فأسمته أمه "عوض"، أما أبوه فكان
يناديه أمام الآخرين "دوكة"، لتجنيبه الحسد، ولتضليل الأرواح الشريرة
فلا تنال منه.
مرت شهور كئيبة، فرت
خلالها جموع غفيرة إلى تشاد، مات الآلاف منهم على السياج، وفي خيام اللجوء، سمارة
وأهلها هربوا جنوبا إلى "نيالا" .. والدها سبقهم إلى "جوبا"
بعد أن كشف اختلاسات المعونات الدولية، فاتهمه "الجانجويد" بالعمالة لجماعة
"جارانغ" .. لكن الخوف ظل يطاردها، ونظرات الشبان المفعمة بهرمونات
الذكورة تحاصرها ..
في ذلك الشتاء الدافئ، عم
الهدوء النسبي أسابيع قليلة، خرجت "سمارة" تلفّ جسدها الفتيّ بثوبٍ
مشمشي مصفر، يشبه لون الغروب، وتغطي رأسها بشال أخضر بلون العشب موشح بلون السماء،
سارت تتهادى بين حقول "الدخن" مثل فراشة، تدندن بأغنية "نعناع
الجنينة" لمحمد منير، كان "عوض" يراقبها من بعيد، يسمع ضحكتها
فيضحك قلبه فرحا .. يراها تملأ سلتها بالأكواز الناضجة، فيمتلئ صدره بموسيقى
الأرض، يدنو منها قليلا فترنوه بنظرة تخطف عقله، يقترب أكثر بخطى بطيئة، واضعا يده
خلف ظهره مخفيا بين أصابعه وردة ..
من الجهة الثانية ثمة
جنديان يقتربان نحو صيد طال انتظاره، على كتف كل منهما بندقية رشاش؛ ترجلا عن ظهر
ناقتيهما، وتوجها مسرعين، وفي عيونهم الغضب، شابان من الحي المجاور، من بين عشرات
الشبان الذين حلموا بلمسه من يدها، اليوم هم جنوداً، انضموا حديثا لميليشيات
الجانجويد، كبّرتهم الحرب على غفلة من الزمن، جعلت "الأدرينالين" يتدفق
في شرايينهم كنهرٍ عاصف، وصار بوسعهم فعل ما يشتهون، ففي الحرب كل شيء مباح ..
اقترب "عوض"
أكثر، هو الآن على مسافة خطوتين ولم يبقى بينهما سوى غيمة خفيفة، والمطر على وشك
الهطول .. "سمارة" تنتظر أولى كلماته، تسمع هسيس العشب تحت قدميه،
تتوارى خجلا ..
من الخلف، الجنديان يحثان
الخطى، يقتربان أكثر، هما الآن على بعد أمتار قليلة، لا تفصلهما سوى بندقية،
والجرح على وشك النزيف .. و"سمارة" .. مكانها ..
يمد "عوض" يده بتردد وارتباك، مناولا إياها الوردة ..
الله، من أين أتيت بهذه الوردة وسط هذا الخراب؟ وقبل أن يجيب، تمتد يد الجندي بكل
خشونة، وتنهال على عوض بكعب البندقية، فيسقط أرضا، يشدان وثاقه إلى جذع الشجرة،
تسقط السلة من يد "سمارة" فيركلها الجنديان بعيدا، ثم يجرانها بقوة،
يمزقان ثوبها بحركة واحدة، وعلى مرأى من "عوض" يتناوبان عليها إلى أن
يُنهكا تماما .. ثم يصوبان رشاشيهما نحو "عوض"، ومع صراخهما الهستيري
يطلقان وابلاً من الرصاص ..
تركاها مطروحةً على أرض تلطخت بالدم واللزوجة، شبه
ميتة، تصرخ في جوفها، تئن من غير صوت، تشهق مثل غريق، تتدافع أنفاسها باضطراب حتى
كادت تختنق ..
يمضي الجنديان بثبات، في طريقهما نحو غنيمة أخرى، فيما يزأر أقارب
"سمارة" غضباً، ويقسمون أن يغتصبوا مائة من صبايا الأعداء ... لم
يقل أحدهم "وأنا أخوك يا فاطنة" كما كانوا يقولون حين تطلب نجدتهم إمرأة
مكلومة، فقد بعثرت الحرب أرواحهم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق