كان سعيد ممدَّداً فوق أريكته المتهالكة،
شابكاً كفّيه خلف رأسه، غارقا في صمته، يتأمل شريط حياته ... فجأة مزق رنين الهاتف
سكون الغرفة، فقفز مثل المجنون، ورفع السماعة ... كان صوت المجيب الآلي: "سنضطر
لقطع الخدمة مؤقتا إلى حين تسديد الفاتورة المستحقة" .. ألقى السماعة بغضب،
وردد جملته المعهودة "كل شيء في هذا الكون فهمته إلا أن يكون إسمي سعيد"
...
رجع إلى أريكته مصوبا ناظريه نحو الباب،
الآن سيدخل أبو ناصر محتدا: "صارلك ست أشهر بتشتري من عندي بالدين، خربت
بيتي" ... ثم سيدخل أبو رشيد بتسامح مصطنع: "من أول السنة وأنا صابر
عليك، إذا ما بتدفع أجرة البيت، سأتصل بالمحامي" .. ثم سيدخل ....
فتح سعيد المذياع، كان الخبر صادما: مقتل
23 مواطنا في غارة ... أدار الإبرة قليلاً: أسفر تفجير سيارة مفخخة عن مصرع ...
أغلق المذياع .. ثم سحب شهقة عميقة، وقد أحس أنه سيختنق .. فخرج إلى الساحة ليتنفس
بعض الهواء.
كان الجو شديد الحرارة، والشمس لاهبة، ومع
ذلك، كان أولاده وأصدقاؤهم يلعبون بمرح. تأمل ضحكاتهم البريئة، قفزاتهم المجنونة، صراخهم
... أحسَّ كما لو أنه لأول مرة في حياته يرى أطفالا ..
- عمّو، الله يخليك إلعب معنا غمّاية ..
- بس أنا تعبان، وما بعرف ألعبها.
- سهلة كتير، أنا بغمّض عيني وبعدّ للعشرة،
وأنتو تخبو منيح، حتى أدور عليكم، واللي بسبق على الحيط يصرخ كمستير.
وعلى الفور، وقف أسامه وأدار وجهه نحو
الحائط، وبدأ يعد 3،2،1 ....
لم يكن أمام سعيد سوى الرضوخ لرغبة
الأطفال، التفت يمنة ويسرى، باحثا عن مكان يصلح للإختباء، فرأى تحت
"الدالية" صخرة متوسطة الحجم، أسفل منها شق صغير، بالكاد يتسع لمرور
"حرذون" .. بخفّة غير متوقعة، دسَّ نفسه في الشق، فوجد كوة تشبه القبو،
تتسع لدب ليمضي فيها بياته الشتوي بأمان .. شبه معتمة، رطبة، باردة، من خلال
الفتحة الضيقة ينسل بعض الضوء الخافت، مع نسمة طرية، وأصوات الصغار ..
- 9،8، 10 ... وينكم؟ طارق كمستير، منير كُمــ....
تكور سعيد بوضعية الجنين، وأخذ يمسح العرق
عن جبينه، بينما أصوات الصغار تتسلل من الفتحة، كمّستير، كمّستير .. ثم سمع صوت
مديره العام: "ليش متأخر عن الشغل؟"، وصوت زوجته: "ليش انسيت تجيب
الخبز؟"، تتخللها أصوات الانفجارات والقصف، ثم كلمات متداخلة لخطيب مفوه:
"سنحرق الأرض تحت أقدامهم"، "لن نعترف بِ ... " .. أزاح وجهه
للناحية الثانية، فتذكر أباه الذي كان يتعمد إحراجه أمام الضيوف: "أسكت، خللي
أعمامك يعرفوا يتخرفوا"، ثم تذكر صديقه خليل، الذي كان يمضي الساعات وهو يشكي
له همومه، دون توقف، ودون أن يفكر للحظة أن يسمع هموم من يستمع إليه، وهكذا أخذ
شريط الذكريات ينساب من أمامه ثقيلا بطيئا، وجوه كئيبة، ابتسامات مزيفة، كذب
عالمكشوف ... في البداية ذرف دمعة ساخنة،
ثم أخذ يشهق بحرقة، ويندب حظه العاثر .. ثم مع كل ذكرى أليمة، ومع كل خيبة يتذكرها
ينزف له جرح .. بدأ الدم ينزُّ من تحت أظافره، ثم من أنفه .. ثم من صدره ...
بعد هنيهة، لسعته نسمة خفيفة، فعدل جلسته،
وبدأ خفقان قلبه يهدأ رويدا رويدا .. كمستير، كمستير .. ابتسم لصوت الصغار، أخذ
يستسلم لإغفاءة لذيذة، انتابته رغبة جامحة بأن ينسى كل شيء .. وأن ينام ..
- عمّوا وينك ؟! صارلنا ساعة بندور عليك
!! بابا اطلع مشان الله .. خلصت اللعبة ..
أخذت أصوات الصغار تتداخل مع صراخ زوجته،
ومع نداءات لرجال كبار، يبدو أنهم من الشرطة أو من الدفاع المدني أو من المخابرات
.. سعيد، سعيد ... بدأت الأصوات تخفت شيئا
فشيئا .. وتتباعد .. كان آخر ما سمعه "كمستير" .. ولأول مرة، كان سعيد
ينعم بسلامٍ داخلي لم يجربه من قبل .. ثم تلاشت كل الأصوات .. وهيمن الصمت المطبق
.. وذاب سعيد في ثنايا الغياب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق