في سياق تحليل ظاهرة بروز
وتعاظم دور الإسلام السياسي منذ بداية عقد الثمانينات، كان استنتاج المراقبين الرئيسي
آنذاك بأن من بين أهم أسباب الظاهرة إخفاق القوى اليسارية والتقدمية والقومية
وتراجع دورها، لأن الطبيعة تكره الفراغ؛ وكان لا بد من ملئ أي فراغ تخلفة تلك
القوى المتقهقرة والمتراجعة. وبغض النظر عن أسباب فشلها؛ إلا أن ذلك فتح المجال
أمام اللاعب الجديد ليقتحم المشهد ويتصدره. وبالطبع هنالك عوامل إضافية ساهمت في
ذلك.
لكن النماذج التي قدمتها
قوى الإسلام السياسي (خاصة التي تولت السلطة في مناطقها) كانت أشد بؤسا وتخلفا، (طالبان في أفغانستان،
نظام البشير في السودان، المحاكم الإسلامية في الصومال، تنظيم الشريعة المحمدية في
وادي سوات، جماعة يرمساني في نيجيريا، الجانجويد في
دارفور)، وحتى الحركات التي ظلت في المعارضة (وخاصة جماعة الإخوان المسلمين)، لم تنجح في تقديم
نموذج حضاري تقدمي واقعي، ودخلت مع الأنظمة في صراع عقيم على السلطة، وقد أدى
فشلها إلى بروز ما هو أكثر تشددا منها، وإلى تفشي النزعة الطائفية والإرهاب (تنظيم
القاعدة، جبهة النصرة، داعش، أنصار بيت المقدس، عصائب أنصار الحق).
في فلسطين جرت انتخابات في
العام 2006 نجم عنها نجاح حركة حماس في اكتساح المجلس التشريعي، وقد رأى المراقبون
حينها أن أسباب ذلك هو تراجع حركة فتح وترهلها، وبعدها بعام تمكنت حماس من إقصاء
فتح كليا عن السلطة في غزة، وكان من بين الأسباب أيضا فساد الأجهزة الأمنية التي
كانت تسيطر عليها فتح. وقد تعايش سكان القطاع مع الوضع الجديد لأنهم فضلوه على
استمرار الاقتتال والفوضى الأمنية، ومن باب تجريب الحاكم الجديد.
بعد سنوات عجاف بائسة من
حكم حماس للقطاع، تفاقمت أزمات غزة على كافة المستويات، وبدلا من بروز بديل تقدمي
تعددي يعيد الأمل والحياة للقطاع، برزت على هامش نظام الحكم الواحد المستبد جماعات
أكثر تطرفا وانغلاقا (جيش الإسلام، سيوف الحق، تنظيم جلجلت، السلفية الجهادية، جماعة أنصار جند الله، سرية الهمام محمد بن مسلمة، جماعة الشيخ عبد
اللطيف موسى، وأخيرا داعش). صحيح أن تلك القوى هامشية وصغيرة، إلا أن مجرد بروزها
يعطي مؤشرات خطيرة.
وخلاصة القول أن مسلسل
التراجع والفشل الذي بدأته القوى اليسارية والقومية والوطنية أدى إلى بروز قوى
الإسلام السياسي، ومن ثم أدى فشل قوى الإسلام السياسي (المعتدلة) إلى بروز تنظيمات
متطرفة إرهابية. ولو تتبعنا مسار الإخوان - السلفية الجهادية - القاعدة – النصرة –
داعش (وهي تنظيمات انبثقت عن بعضها) لرأينا خط التطرف والتعصب يصعد بقوة وأكثر
حدية.
ومن ناحية ثانية، كانت الأنظمة
الفاسدة والمستبدة تستخدم فزاعة البديل المتطرف ذريعة للبقاء في الحكم؛ مثلاً كان نظام
"علي عبد الله صالح" يصور للأمريكان على أن إسقاط حكمه سيؤدي إلى استلام
"القاعدة" السلطة، وبالتالي يتوجب دعمه، وعندما أطيح به عاد ليتحالف مع
الحوثيين. نظام الأسد يصور للناس أن سقوط حكمه سيؤدي إلى سيطرة داعش وغيرها من التنظيمات
الإرهابية على البلاد. الآن في غزة لدى البعض تخوفات من أن إزاحة حماس ستؤدي إلى
سيطرة التنظيمات المتطرفة، وفي مقدمتها داعش على القطاع، مما يعني سنوات أو عقود إضافية
من الحصار والأزمات.
طبعا، هذه التخوفات لا
تخلو من المنطق؛ ولكن السؤال المرير: لماذا على المواطن العربي أن يختار بين السيء
والأسوأ ؟! إما الفساد أو الاستبداد !؟ إما التطرف أو الأكثر تطرفا ؟!
والسؤال الأمرّ: أين دور
النخب المثقفة والمتنورة والحركات التقدمية والأحزاب القومية واليسارية ؟! وماذا
بشأن المشروع الحضاري العربي ؟ والمشروع الوطني الفلسطيني ؟! وأين دور الجماهير
والطبقات المسحوقة ؟! ماذا نعد للمستقبل ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق