من أخطائنا الشائعة تعميم صفة معينة على الحيوانات،
أو ذم إنسان معين بتشبيهه بالحيوانات؛ فالحيوانات عوالم واسعة، تحتمل كل الصفات
والسمات، التي تتشارك في كثير منها مع الإنسان، بل وفي أحيان معينة تتفوق فيها عليه، وربما هذا يعزز
فرضية الأصل المشترك.
صحيح أن الإنسان تفوق بعقله وروحه، وتميز عن باقي
الكائنات، وطور لنفسه نظاما اجتماعيا معقدا، لكن بعض الحيوانات طورت نظماً
اجتماعية بالغة التعقيد والانضباط والتراتبية، مثل النمل والنحل.
وصحيح أيضا أن الإنسان قنّن الجنس بالزواج، ومن
خلال الأعراف والقيم الأخلاقية والمجتمعية والأديان، إلا أن هذا في حقيقة الأمر
وعلى مستوى الواقع غير دقيق تماما، فقد بقي الشبق الجنسي والحيل للوصول إلى الأنثى
صفات مشتركة بين الإنسان والحيوان.
ويُقال أن الجنس عند الحيوانات هو للتكاثر فقط،
ويتم بشكل بدائي غريزي، خالي من مشاعر الحب، وبدون ضوابط، ويفتقر لأي شكل جمالي،
خلافا لما هو الحال عند الإنسان، وهذه المقولة غير دقيقة أيضا؛ فكثير من الحيوانات
تلتزم بنظام عائلي متين، وتقيم علاقات زوجية أحادية. الهدهد مثلا إذا غابت أنثاه
لا يأكل ولا يشرب ولا يتوقف عن الصياح حتى تعود إليه، فإن ماتت لا يتزاوج بعدها أبداً،
وكذلك الثعلب لا يقترن إلا بأنثى واحدة، وهكذا.
في العلاقات الجنسية عند الحيوانات غالبا ما يسبقها
أو يترافق معها عمليات جذب متبادلة، وما يلفت النظر أن الذكر في أكثر الأحيان هو
المبادر، بعض الحيوانات تفرز روائح معينة، أو تقوم بحركات تجلب انتباه الطرف
الآخر، أو تخوض صراعا تصفويا لاستبعاد بقية الذكور والظفر بإناث القطيع، ومن ثم
فرض سيادته عليها، بعض أنواع الطيور تؤدي رقصات وحركات بهلوانية رشيقة، أو تغري
الأنثى بتجهيز العش، أو بالتغريد، أو بنفش الريش، ذكور الشمبانزي تقوم باختيار
أفضل أنواع الفاكهة من الحقول والأشجار لتقديمها هدية للمحبوبة كدليل على الشجاعة
ولطلب الرضا.
بعض أنواع الحيوانات تعيش كعائلات مترابطة مثل
الذئاب والأسود، وتظهر علاقات حب تجاه صغارها، الشمبانزي مثلا غيور جداً على شريكة
حياته، ويصبح عدوانياً عندما يشتبه في أن شريكة حياته غير وفية، وبعضها تقوم بقتل
الشمبانزى الرضيع الذي لا يكون من صُلبها، مما يؤذي الإناث بشدة، ولمنع هذا، وضمن
شبكة علاقات معقدة تحاول الإناث التزاوج مع عدد من الذكور خلال فترة التزاوج حتى
يعتقد كل واحد منهم أنه والد الرضيع.
أنثي الضبع تميل للتزاوج من خارج القطيع، ولا تفضل
الذكر الذي يقربها، لذلك يعتبر ذكر الضبع الذي يغادر قطيعه محظوظاً في الحب لأن
أنثاه تؤثر الذكر الغريب الغامض عن ذلك الذي تعرفه.
بعض أنواع
الأفاعي الكندية (سوداء مخططة بالأصفر)، تتجمع مشكّلة كتلة واحدة تساعدها على حفظ
الحرارة خلال فترة الشتاء، حيث تنام الفصل بأكمله، وعند قدوم الربيع، تكون الإناث
عادة في أسفل المجموعة، فتبدأ حلبة الصراع بين الذكور على تلقيح الإناث، في حفلة
جنس جماعي. من المثير أنه توجد لدى بعضها قدرة خاصة لإيقاف إفراز هرمونها الذكري، مما يخدع بقية
الذكور التي تعتقد أنها أنثى، لتبدء على الفور ممارسة الجماع معها، وبهذه الطريقة
تفقد الذكور المخدوعة مخزونها من المنويات لتبقى الذكور الخادعة وحيدة على الساحة
فتقوم بتلقيح الإناث الحقيقية.
وقد بينت تجارب مراقبة الحيوانات أنها تتخذ سلوكا
معقدا متطورا يدل على مستويات متباينة من الذكاء، وأنها تفكر وتتذكر وتفرح وتحزن
وتبكي وتلهو وتحب وتكره وتتألم ... وفي سياق متصل، لدينا اعتقاد أن الحيوانات
المفترسة دائما خطيرة وعدوانية، ولكن بعض العلماء أثبتوا أن هذا غير صحيح، وقد تعايشوا
مع أشرس الحيوانات، ليس في حلبة السيرك، بل في الغابة نفسها. وفي فيلم وثائقي ظهر
رجل تصادق مع تمساح لسنوات عديدة، وهو يقدم عروضا أمام الجمهور بينما يسبحان معا
في النهر بدون خوف، ورجل آخر يلهو ويتعانق مع الضباع والأسود والدببة دون أن
تؤذيه، وفتاة تلعب مع الفهود والنمور.
الحيوانات تقتل بعضها من أجل الحصول على الغذاء،
وإذا شبعت كفّت عن القتل، فترى قطعان الزرد والأيائل ترعى على مرأى
من الأسود دون خوف مثلا، ولكن هذا لا يحدث دائما، فالعلاقات الحيوانية تقوم على
الصراع والتنافس ضد القطعان الأخرى من نفس الفصيل، قطيع الأسود مثلا له قائد واحد،
وإذا تمكن أسد دخيل منه وتفوق عليه، فإنه يطرده ويقتل أشباله على الفور، ثم يستأثر
بإناث القطيع. والحيوانات تقتل بعضها لأسباب عديدة، مثل الصراع على الأنثى، أو
لحماية مناطق نفوذها، في أغلب الأحيان تقتل خصمها بسرعة، وأحيان تقتله بكل بطء ووحشية،
ودون أي شفقة، فمثلا الضباع تبدأ بأكل فريستها وهي على قيد الحياة.
ولكن، لدى بعض الحيوانات نظام أخلاقى متطور، فمثلا
إذا شعر المفترس (من خلال الرائحة) أن ضحيته طفل رضيع، فإنه يكبح بشكل تلقائى
غريزة الافتراس، وبالتالي تتوقف عدوانيته. وفي فيلم قصير انتشر على
"اليوتيوب" يظهر فيه فهد يتبنى قرد رضيع بعد أن قتل أمه التي كانت تحمله
على ظهرها، ولا يكتفي الفهد بالامتناع عن التهام الرضيع بل يقوم بحمايته ورعايته.
وفي فيلم آخر تظهر لبؤة وقد امتنعت عن افتراس ماعز رضيع رغم استفزازه لها. وهذا السلوك
غير المتوقع من قبل حيوانات قوية تجاه أخرى ضعيفة يدعم فرضية تفوق بعض الحيوانات
في أخلاقها على البشر.
الحيوانات أيضا تهاجر ولأسباب متعددة؛ الحوت
الرمادى مثلا يقطع آلاف الأميال بادئاً رحلته من المحيط المتجمّد الشّمالي عبر
السّواحل الغربيّة لأمريكا متوجها إلى شواطئ المكسيك، لبلوغ المياه الدافئة من أجل
التزاوج هناك، حيث تضع الأنثى مولودها عند بلوغها المياه الاستوائية، ثم تعود مع صغارها
في رحلة مضنية من حيث أتت. كذلك أسماك السلمون، والكثير من أنواع الطيور.
الطيور تغني وتغرد بأعذب الألحان، وهذا لا يتوقف
على الطيور وحدها، القردة العليا من نوع الجيبون التي تعيش في تايلاند تغني
بالمعنى الحرفي، كذلك بعض أنواع الفئران.
وإذا كان شائعا عن الحيوانات أنها متوحشة وغبية ولا
تعرف الرحمة .. فإن لها صفات إيجابية يفتقر إليها الكثير من البشر؛ فالعصافير
تساعد بعضها في بناء العش، وتتناوب على رعاية الصغار بتعاون تام، وقطعان الضواري
تخطط وتفكر بروح الفريق حين تصطاد، وتدافع عن أوطانها وتضحي بنفسها إذا تعرضت
للغزو، كما يفعل النحل، وليس هناك من هو أكثر وفاء من الكلب، ولا إخلاصا من
الحصان، ولا صبرا من الجمل، ولا شجاعة من الفهد، ولا رقة من الدلافين، ولا توجد أم
تضحي أكثر من إمهات البطريق، ولا يوجد عشاق كطيور الحب.
وإذا كان الإنسان يعتقد أنه الأذكى على الإطلاق،
فإنه يدين للحيوانات بالكثير مما تعلمه، وما زال عاجزا عن فهم آليات تحديد مسار
هجرة الطيور بهذا المستوى من الدقة، وكيف تتنبأ الحيوانات بوقوع الزلازل والكوارث
الجوية، وكيف طورت الحشرات وسائل التكيف مع الظروف المحيطة وتغيراتها القاسية،
وكيف يحفظ الحمار طريق العودة من أول مرة، وكيف يختار أفضل المسارات في الطرق
الوعرة، وكيف تموه الحرباء شكلها للنجاة، وكيف تعلمت المفترسات والطرائد أساليب
الكر والفر ..
لا أقصد من هذه المقالة تفضيل الحيوانات على
الإنسان؛ فالإنسان مكرم من الله سبحانه، ولا أسعى لإجراء مقارنة حرفية بينهما،
فمهما تقاطعت الصفات المشتركة، يبقى الإنسان إنسانا والحيوان حيوانا .. لكن كثير
من بني البشر تخلوا عن إنسانيتهم، وصاروا عارا على الإنسانية، وحتى عارا على أدنى
الحيوانات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق