أشعرُ أن الفراغ يملؤني، يُغرقني،
وكل محاولاتي لملئه باءت بالفشل .. كلما أنهيتُ رواية تهشمت أحلامي على صخرة
الواقع، طالعتُ كل ما نُشر عن العناية بالجسد، الغذاء المتوازن، أسرع وسيلة
للتنحيف، فوائد الصوم .. واتبعتُ ما لا حصر له من أنواع الريجيم الصحي وغير الصحي؛
ومع ذلك بقيتُ عاجزة عن خسارة بضعة كيلوغرامات من الدهن المتراكم في أنحاء مختلفة
من جسدي. قرأتُ كل ما يتعلق باستنهاض الطاقة الكامنة، التأمل، أثر الموسيقى على
الحالة النفسية، تجارب الرهبان البوذيين .. وانتسبت إلى نادي اليوغا؛ ومع ذلك لم تشفى
روحي من القلق. انعزلتُ عن العالم، ولم تهدأ نفسي الملتاعة من الخوف. استمعتُ
لتجارب مميزة لذوي إعاقة تغلبوا على عجزهم ببراعة، ولآخرين شقّوا طريق النجاح
والشهرة والثراء .. كنت كل مرة أشعر أني بلا قيمة، وعاجزة أكثر ..
أنا متزوجة من رجل أعمال ناجح،
وسيم، يعاملني باحترام، لدي طفل في غاية الذكاء والصحة، وضعنا المادي أكثر من جيد،
نعيش حياة رتيبة هادئة في شقة واسعة في "الماصيون"، سيارتي موديل 2014،
أعمل موظفة براتب مجزي في إحدى منظمات "الإن جي أوز" بدوام جزئي .. يعني
أني أملك وقتا كافيا لممارسة هواياتي (التي أجهلها حتى الآن)، ولدي ما يكفي من
المال لأتسوق في أي وقت من الشهر (دون الحاجة لانتظار موعد الراتب)، ولدي كل أسباب
السعادة (التي لم أذق طعمها الحقيقي بعد) !!
أبدأ يومي وأنهيه تقريبا
بنفس الممارسات، وبنفس الوتيرة والمواعيد، أقابل نفس الوجوه، نفس المواضيع المطروقة،
"شو بدي أطبخ عالغدا؟" سؤال يتكرر كل يوم، ومع أني أعدُّ كل يوم وجبة
جديدة، إلا أنه خلال أقل من أسبوعين نكون قد اختبرنا كل وجباتنا المفضلة
والمعروفة، لنبدأ الدورة من جديد .. عادة لا نأكل كثيرا في المطاعم؛ فأنا مهووسة
نظافة لدرجة الفوبيا، وإذا خرجنا نختار مطعما راقيا وفخما، وعندما نقرأ قائمة
الطعام نتعامل معها كما لو أننا في امتحان، زوجي يدقق في نسبة الملح، عدد السعرات،
الكوليسترول .. أما أنا فأركز على أنواع البهارات، المكونات، ترتيب الأطباق ..
وبعد أن ننتهي نعطي للمطعم درجة، كما لو أننا موظفين في وزارة السياحة مهمتنا
تقييم المطاعم. وإذا خرجنا في رحلة عائلية أقضي كل وقتي وأنا مشغولة بمراقبة طفلي،
فلا يغيب عن عيني لحظة، أمسك بيده، أمنعه من عبور الشارع بمفرده، أحرص على أن لا
يوسخ ثيابه، وأن لا يأكل بشراهة أمام الناس. نعيش حياة نمطية عالمسطرة؛ نمارس
الجنس كل يوم خميس الساعة الحادية عشرة قبيل منتصف الليل، كما لو أنه موعد نشرة
الأخبار الذي لا يخطئ، وهكذا يتكرر الروتين، ومع كل يوم جديد، يُسلخ جزء من روحي،
ويتراكم على قلبي بعض الصدأ .. ها أنذا أقترب من الأربعين وبسرعة مرعبة، لم أعرف
بعد ماذا أريد، وإلى أين أريد أن أصل، وما الذي يسعدني .. وما هو ذاك الشيء الغامض
الذي ينقصني بشدة !!
لطالما حلمتُ بالريح تحملني
على أكفّها فوق غابات الصنوبر، وضيّعتُ حقائبي في مطارات الكواكب، وغفوتُ في حضن
وردة برية، وطالما أردتُّ أن أختبر مرارة الهزيمة، وأن أتذوق طعم الألم .. وأن
تتفجر هرمونات الخوف في شراييني، وأن أغرق في الخطيئة، وأن أحلِّقَ في فضاء الصمت، وأتعثر بضجيج
الكلمات، وأن يُغشى عليَّ في محراب أغنية .. وأن أحمل سحابة على كتفي لأعبر
الصحراء ..
وطالما أردتهُ أن يذيبني
كل صباح في قصيدة، ثم يستخرجني ليلحّنها في المساء، وأن يزرع في حدقاتي ألف نخلة،
وأن يخبّـئـنـي بين ضلوعه حتى ينساني الناس، وكم تمنيتُ أن تغسلني دموعه، وتجففني
أنفاسه .. وأن نهبط سويةً من غيمة حالمة فوق رصيف مزدحم بالعاشقين.
كم مرةً حدّقتُ في مرآتي
دون أن أرى شيئا، سوى طيفٍ عابرٍ، غير قادرٍ على التشكّل، وكم مرةً صرخت في وديان
صدري ولم أسمع سوى صدى أنينٍ خافت، وكم مرةً ضعتُ في متاهات الزمن وسرت مرتعبة،
أبحث عنكَ، أو حتى عن ظلك !!
هذا الصباح كان مختلفا
كلياً، استيقظ زوجي مبكرا، ولأول مرة في حياته لم ينظف أسنانه، ولم يحلق ذقنه، وكانت
هذه أولى مفاجآت هذا اليوم الإستثنائي، أعدَّ لي القهوة، صبّها في فناجين
الكريستال التي لم نستعملها منذ زواجنا قبل خمسة عشر عاما، جلسنا في الشرفة نرتشفها
بتلذذ غير عادي، ارتديت بنطال الجينز وحذاء رياضي خفيف، وبدون أي مكياج، خرجنا
نمسك بأيدي بعضنا كما كنا نفعل أيام الخطوبة، قررنا أن نركب الباص، كانت تذاع أغنية
لمحمد عساف.
مشينا بالشوارع على غير
هدى، وخلافاً لما اعتدت عليه؛ لم ألتفت لواجهات المحلات، لم تكن لي أي رغبة
بالتسوق، فقط رغبة بمشاهدة الناس، وقراءة وجوههم، وما تخفيه ضحكاتهم المجاملة، لاحظت
أن الكل منهمكاً، اكتشفت أشياء لم أكن أعلم بوجودها، وعصفتْ برأسي عشرات الأفكار
..
توجهنا إلى سوق الخضار، لم
أدخله من سنوات بعيدة، كانت أصوات الباعة تتداخل مع أصوات الزبائن، فيما تفوح روائح
الميرمية والزعتر والجوافة، بينما اصطفت صناديق الفاكهة بألوانها المتدرجة
والمتباينة كلوحة زيتية، تفيض بكل ألوان الطيف .. بالفعل كان مشهدا مميزاً. اشترى
ماجد قليلا من الباذنجان والبطاطا والموز وأنواع أخرى لم أميزها، حملها بكلتا
يديه، وسرنا ببطء وسط الازدحام، حتى وصلنا عند "الكندرجي" .. خلع ماجد
حذاءه الأيمن ووقف حافيا.
- بس كندرتك ما فيها شي يا
أستاذ !! شو بدك أصلّح بالزبط ؟
- ما بعرف، يمكن بدها
خياطة ؟؟
- على كل حال، رح ألمعلك
إياها، وأرجعها جديدة ..
- شكرا.
نفحه عشرة شواقل، وتظاهر
بأنه نسي أكياس الخضار والفواكه ومضى في سبيله فرحاً .. قلت في نفسي ربما هو أيضا
تظاهر أنه لم ينتبه، وربما فعلا لم يكن منتبها .. على كل حال أعجبتني حركة ماجد، وعندما
شاهدتُ عامل النظافة وهو يضع على أذنيه سماعتي هيدفون، ويبدو في غاية الطرب،
سألته:
- عمو، شو بتسمع !؟
- أليسا ..
دسَّت يدها في حقيبتها،
وأخرجت "فلاشة"، وناولته إياها قائلة:
- هاي آخر ألبوم لنجوى
كرم، أحلى من ميت أليسا ..
- شكرا مدام، والله من
زمان بفكر أشتريه ..
قصدنا مطعما صينيا، أمسك
زوجي قائمة الطعام بعفوية ومرَّرَ اصبعه على الجهة المكتوبة باللغة الصينية، وأشار
إلى نوع معين دون أي تدقيق، ونظر إلى النادل قائلا: وجبتين من هذا النوع، كان
الطعم مريعا وغريبا، وحاولنا أن نأكل ولم نستطع، ومع ذلك ضحكنا بشدة، وعلى بعد
مائتي متر، تناولنا ساندويشات فلافل، ودخلنا في بيت درج لإحدى العمارات والتهمناها
بشهية.
مررنا بصبي يافع، يبيع
الورد والضحكات الشاردة، اشترى ماجد وردة بيضاء، وأخفاها وراء ظهره، مع علمه أني
رأيتها، ومع ذلك قال لي بصوت مرح: اتبعيني، عندي لكِ مفاجأة .. تبعته حتى دخل زقاق
ضيق، مختبئ بين عمارتين، صوَّبَ نظراته نحو عيني وأمعن النظر في لحظة صمت طويلة،
ثم ناولني الوردة وقبل أن أمسكها باغتني بقبلةٍ خاطفة، تركت على شفتي مذاقا عذبا، كدت أنساه .. أعادني دفعة واحدة لزمن
خلته لن يعود ..
كان مذاق ذلك اليوم
استثنائيا .. وظلت حلاوته تحت لساني لأمد طويل، مع كل حركة عفوية، كان قلبي يشتعل،
وروحي تمتلئ بالحياة .. وظلت حيرتي معلقة بالأسئلة: هلى كان قبل ذاك اليوم مثلي ينصهر
رويداً رويدا بنيران الانتظار، ويتعذب بالأحلام المستحيلة !؟ أم كان يرتجف بردا من
السكون ورتابة الساعات ؟! أم كنا معاً نهيُّء دواخلنا للسعادة !؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق