تعرض حالياً قناة "رؤية"
الأردنية الجزء الثالث من الدراما السورية "ولادة من الخاصرة"، وهو
مسلسل قال فيه الكاتب "سامر رضوان" قصة الأزمة السورية بتفاصيلها
الدقيقة من وجهة نظر أصحابها، ولكن بلغة أدبية. وكان قد تناول في الجزئين الأول
والثاني الظروف الاجتماعية والأمنية والسياسية التي سادت في سوريا قبيل اندلاع
الثورة، والأزمات الَّتي عصفت بالمجتمع المدني، من خلال شخصيات
العمل المنتمية لمختلف الطبقات والشرائح، واستعراض الصراعات المحتدمة فيما بينها، ومشكلاتها
وأفكارها ومطالبها التي لم ينتبه إليها أحد، والتي من خلالها أطلت المخرجة
"رشا شربتجي" على عوامل تشكل الخوف في الشَّخصيَّة الإنسانية للمواطن
السوري، وكيفية التخلص منها؛ وتمكنت ببراعة من ذلك بتركيزها على فساد الأجهزة
الأمنية وتسلطها على الناس وخرقها للقانون، الأمر الذي خلق حالة من الاحتقان
الشعبي أدى في نهاية المطاف إلى انفجار المرجل دفعة واحدة، وعلى نحو خالف كل
التوقعات.
في هذا الجزء، يستعرض مخرج
العمل "سيف الدين سبيعي" بدايات الثورة السورية، ويعطي الفرصة لكل فئة
من فئات المجتمع السوري أن تحكي وجهة نظرها فيما يخص الصراع الدائر، والذي يسميه
البعض "ثورة"، فيما يسميه آخرون "مؤامرة" .. وبين الثورة
والمؤامرة بون شاسع، ومساحة كافية لبروز شبكة معقدة من التناقضات التي ستصعّب من
رؤية المشهد، وتزيد من تعقيد الصورة.
في الحلقات الأولى تدور
أحداث المسلسل حول بدايات الثورة، حين خرجت مظاهرات شعبية سلمية من حي
"المساكن" كانت مطالبها لا تتعدى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية
ووقف ممارسات الأجهزة الأمنية .. تلك المظاهرات لمعت كالصاعقة في ليلة ساكنة دامسة
الظلام، تخفي ورائها الغيوم والأعاصير .. وأمام هذه المفاجأة (الحتمية) ينقسم
المجتمع بين متخوف من الخطوة وبين متحمس لها، ولكن لم يكن في ذهن أحد حينها أن
الأمور ستتطور إلى درجة فقدان السيطرة وانفلات كل شيء من عقاله.
في بقية حلقات المسلسل
التي يصفها كاتب السيناريو بأنها "محاكاة لما يحدث في بلدنا" تجري
الحوارات الداخلية بين أفراد كل فئة أو شريحة أو مجموعة بحيث تكشف النوايا
والاتجاهات والآراء المتباينة، وكيف كانت كل جماعة ترى الحدث من زاويتها الخاصة،
ليتكون في النهاية لدى مشاهد المسلسل (والمتابع للمأساة السورية) صورة كلية شبه
واضحة، لكنها مليئة بالتناقضات والتعقيدات؛ إلا أنها ضرورية (بل وشرط أساسي) لتصور
أي حل مستقبلي. فمثلاً، قسم كبير من المجتمع السوري كان حتى تلك اللحظة مع الدولة
والنظام، بمن فيهم المتضررون من الفساد وتعسف المحافظين وأجهزة الأمن .. هؤلاء كانوا
مؤمنون بأن الدولة (على علاتها) توفر الأمن للمواطن والاستقرار للبلد، ولديهم
قناعة بأن الثورة عبارة عن مغامرة ستقضي على النظام والقانون وستجلب معها العنف
والدماء والفوضى. وهؤلاء عندما دافعوا عن الدولة كانوا يدافعون عن نمط حياتهم التي
ارتضوها لأنفسهم واعتادوا عليها، كانوا يدافعون عن التعايش، وعن السلم الأهلي ..
لكن موقفهم هذا سيضعهم في الصف المعادي للثورة (أو بوضع المحايد السلبي)، بحيث أنهم
وجدوا أنفسهم وبدون تخطيط مسبق وجها لوجه في مواجهة الثوار، والدولة عاجزة عن
حمايتهم، فتبدأ العداوات الفردية ومن ثم الثارات الجماعية، وهنا تتعمق الأزمة، وتتجذر
الكراهية بين الطرفين.
قسم معين من قادة ومنتسبي الأجهزة
الأمنية والجيش كانوا على قناعة وإيمان بأن سورية هي دولة المقاومة، وقلعة
العروبة، وأنها تتعرض لمؤامرة خارجية شريرة، ينبغي التصدي لها. وقسم آخر كان يدافع
عن امتيازاته الخاصة ومصالحه الشخصية، ولا نستطيع أن نجزم أي الفريقين كان أكبر،
لكن المؤكد أن الفريقين في أغلب الأحيان تصرفا بشكل عنيف، ولا إنساني. والمؤكد
أيضا أن المدنيين الأبرياء هم الذين دفعوا الثمن.
وكان من البديهي، في ظل
تربية حزبية مغلقة وخطاب إعلامي قائم على الشعارات والأحكام المطلقة أن تتراجع لغة
العقل والمنطق، وأن تسحقها عجرفات الجنرالات والمحافظين، خاصة بعد أن شعروا بأن
الأرض بدأت تتزلزل تحت أقدامهم؛ وهكذا تتراجع دعوات الحوار، وتختفي محاولات تفهّم
مطالب المتظاهرين، ومعالجة الأمر بالحكمة .. وكانت كل رصاصة تُطلَق على المتظاهرين
تَزرع مزيدا من بذور الثورة، وتخلق أسبابا إضافية للتعبير عن الرفض، ومعها تتساقط جدران
الخوف.
كان بمقدور محافظ درعا
مثلا، أو محافظ حلب، وكذلك بقية قادة الأجهزة الأمنية أن يطوقوا الأحداث في مهدها،
وأن يغيروا مسارها كليا، لو أنهم اتسموا ببعض الحكمة، أو لو أنهم تصرفوا بقدر من
المسؤولية الوطنية والحس الإنساني .. لكن عقلية التسلط والقهر هي التي حكمتهم؛ فلم
يستطيعوا تصور أي حل سياسي أو إنساني للأزمة، كان تفكيرهم منحصرا في طرق القمع
والقتل والاعتقال. وهذا لا يعود لقصر نظرهم، أو نتيجة سوء في تقديرهم للموقف، بقدر
ما كان نتاجا طبيعيا لسلطة مستبدة.
ومع بدء الأحداث وجد بعض المتطفلين
والانتهازيين من الحثالات التي كانت تعيش على هامش المجتمع فرصة التكسب والنفاق،
مقدمين خدماتهم الأمنية، ولكن بدون ضمير، وقسم آخر قدم خدمات المساهمة في حملات
القمع والتنكيل (الشبيحة)، في محاولة منهم للثأر من المجتمع الذي طالما عزلهم وكشف
عوراتهم، وبيَّن مدى هشاشتهم وخوائهم. في تلك اللحظة كانت الأجهزة الأمنية بحاجة
ماسة لمثل هؤلاء، حتى أنها أطلقت اليد للضباط الذين كانت تنتظرهم محاكمات على
أخطاء مسلكية وتجاوزات، كما تحالفت مع مجموعات خارجة عن القانون كانت تربطها معها
شبكات فساد وتجارة غير شرعية، ما يعني أن أي محاولة للإصلاح كانت قد فقدت فرصتها
تماما.
ومع تطور الأحداث، وانتقال
شرارة التمرد من محافظة لأخرى، كانت كل طائفة يُقتَل أحد أفرادها كانت تستحضر على
الفور جذورها الطائفية، وتستدعي كل الأسباب الطائفية لتفسير وفهم ما حدث على أساسها،
وبالتالي الانتقام من الطائفة الأخرى التي أنجبت القاتل .. ومن هنا بدأت أسس
التعايش المجتمعي تتهاوى شيئا فشيئا، لتنتصب مكانها جدران من الكراهية الطائفية،
وجدران من الخوف والشك والتربص بالآخر، وأخذت تسود لغة التعميم، والأحكام المطلقة،
التي تتعامى عن رؤية أي جانب خيّر أو إيجابي في الطرف الآخر.
الثوار أنفسهم هم أول من
جنوا على الثورة السورية، هم أول من أساء لها، وشوّه صورتها، وحرفها عن مسارها،
قبل أن تبدأ قطعان المرتزقة وشذاذ الآفاق تتكالب على سورية قادمة من 80 دولة ..
شدة القمع والتعذيب والقتل الذي مارسته الأجهزة الأمنية خلقت عقليات متشنجة
وموتورة (لدى الطرفين)، واستدعت ردات فعل عنيفة من قبل الثوار، ولكن هذا العنف لا
يمكن له أن يظل باتجاه واحد، فقد بدأ يضرب بكل الاتجاهات، حاملاً معه مزيدا من
التطرف والتعصب، فصار العنف يمارَس لأجل العنف.
وهكذا ومع غياب الدولة من مناطق
واسعة، وانهيار الأمن والقانون، انفلتت نزعات العنف المكبوتة، وصار العنف الذي
يمارسه الثوار شكلا موازيا للظلم الذي تعرضوا له على يد النظام، ولا يقل بشاعة
عنه، وفي كثير من الأحيان لم يكن لأهداف سياسية؛ بل لأهداف إجرامية بحتة.
مع اشتعال الأزمة
وانتشارها، أخذت الكراهية تتعمق أكثر فأكثر بين الجماعات المتصارعة، وصار السلاح
متوفراً بيد كل من يطلبه، وبات القتل سهلا، حتى بين الجماعات التي كانت سابقا تنبذ
العنف، لأن الخوف في زمن الحروب والصراعات يسيطر على الإنسان، ويطلق مشاعره
السلبية، ويجعل منه كائنا عدوانيا تسيّرهُ غرائزه البدائية، وبذلك تختفي منه مشاعر
الرحمة لتحل محلها القسوة والكراهية. والكراهية في أجواء الخوف والصراع الدامي
تدفع كل طرف لأن ينزع الإنسانية عن خصمه، وتجريده من آدميته، وشيطنته، وبالتالي
تبرير قتله أو إيذائه بدون شفقة؛ ويغدو كل طرف يقاتل عدوه لأنه في نظره مجرم يستحق
القتل، وليس لأنه متناقض معه سياسيا.
لم يدرك أي منهم أن الحرب
ذاتها هي المجرمة الأولى التي لا تكف عن إنجاب المجرمين ..
من الصعب جدا التنبؤ بأي
نهاية للأزمة، على الأقل في المدى المنظور، ومن الصعب توقع منتصر ومهزوم، لأن
الحرب الأهلية تعني بكل بساطة أن الكل مهزومين .. في الصراعات الحضارية يكون
الانتصار الحقيقي في الإصرار على الاحتفاظ بالجانب الإنساني والأخلاقي في المقاتل،
والانتصار على وحشية المحتل وعلى همجية المعتدي وعلى ظلم الظالم، فهو يقاتل الأعداء
لأنهم أعداء، وهذا سبب كافي، وليس لأنهم خنازير، وشياطين، وقتلاهم فطائس .. وليس
لأنه يحقد عليهم ...
من يسحب الصفة الإنسانية
عن عدوه فإنه بذلك يسحبها منه شخصيا قبل عدوه؛ وهذا يؤدي إلى التوحش، وقد رأينا
مظاهر هذا التوحش في ممارسات الجماعات المتطرفة التي تحقد على خصمها بتطرف، تحقد حتى
على جثته، فتمثّل بها، وتتلذذ بتعذيبها، وهي حين تقتل تفعل ذلك بوحشية وبدافع
العنف والانتقام والنزعة البدائية، (مهما كانت الشعارات)كما في حالات الذبح
بالسكين وقطع الرؤوس .. جثة الميت من المفترض أنها ليست عدوا لأحد، الجثة لها
حرمتها، وقد غادرتها روح صاحبها وخلعت شروره منها، لكن الانحدار إلى هذا المستوى
من الحضيض هو أكبر دليل على وحشية وهمجية الأطراف المتصارعة.
اليوم، وخاصة بعد سيطرة
داعش على مساحات شاسعة من سوريا والعراق، ومع وجود جبهة النصرة، وغيرها من جماعات
الجهادية المتطرفة، وبقايا الجيش الحر، ومع كل هذه الفوضى الأمنية، ومع وجود آلاف
المقاتلين من كل حدب وصوب، الذين لا علاقة لهم بالثورة السورية، ولا بمطالبها،
وليست لديهم أي فكرة عن مشاكل السوريين واحتياجاتهم وتطلعاتهم، بل أنهم عبء على
الثورة ودخلاء عليها، وقد حرفوها عن مسارها وشوهوا صورتها، وفرغوها من كل مضامينها
الاجتماعية والسياسية وأحالوها إلى عنف طائفي دموي عقيم، بلا أي مستقبل سوى مزيد
من الدمار والتخريب؛ أمام هذا كله من الصعب جدا أن نجد في هذ المشهد المعقد ما
يدعونا لأن نطلق تسمية "ثورة" على ما يحدث في سوريا .. ما يحدث الآن هو
موجات لا إنسانية من العنف الهمجي جعلت البلد تعيش سنوات من الجمر.
ما يحدث الآن أن الشعب
السوري نفسه (وثورته) هو الضحية، فهو اللاجئ والمشرد والقتيل والجريح ... وما دون
ذلك وبعده عبارة عن "جهاد نكاح" يمارسه بكل خسه مجموعات من القتلة
وأمراء الحرب والعصابات العابرة للحدود .. في مواجهة نظام طاغي لا يقل سوء عنهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق