سموم خفيّة، لا نعرف عنها الكثير، خطيرة جدا على صحة الإنسان والحيوان،
تسبب سنويا خسائر باهظة للتجارة الدولية تتجاوز المليار دولار، تتواجد في عدد كبير
من الأطعمة، التعرض لكميات ضئيلة جدا منها يسبب سرطان الكبد، أما تناول جرعات أكبر
منها لا تتجاوز أجزاء بالمليون قد تسبب الموت، ولا يمكن القضاء عليها لا بالحرارة ولا بالمطهرات... إنها
سموم الأفلاتوكسين.
الأفلاتوكسين، أحد أشهر وأخطر السموم الفطرية، واليوم، فإن تلوث المحاصيل والأغذية بالسموم الفطرية يعد من
أهم المشاكل التي تواجه العالم، وبحسب تقارير علمية، فإن الأفلاتوكسين يلوث ربع
الإمدادات الغذائية العالمية، ويتعرض له أكثر من نصف سكان العالم، وهي غير خاضعة
للرقابة في بلادنا مما يجعلنا أكثر عرضه لمخاطرها...
والأفلاتوكسين
بوصفه البسيط هو "أحد أنواع السموم الناشئة عن العفن"، وبوصفه العلمي هو
"أحد المركبات الكيميائية شديدة السمية تنتجها أنواع من الأعفان، والتي عادة
ما تنتشر في البذور الزيتية بصفة عامة" كما يقول المهندس "محمد
قلالوة" مدير تأكيد الجودة في مطاحن القمح الذهبي.
ومن هذه البذور
الفول السوداني, القطن, اللوز, الذرة، الزعتر، وكذلك في والقهوة المكسرات مثل
الفستق الحلبي والكاتشو، وفي البقوليات والحبوب بأنواعها خاصة القمح، وفي الخضار
والفواكه الملوثة، وفي التمور، وفي أية أغذية يتم خزنها في ظروف غير صحية، وأيضا
تصيب الأعلاف، وتنتقل إلى السلسلة الغذائية عن طريق الحيوانات التي تتغذى على
أعلاف ملوثة.
وعن خطورة هذه
السموم، قال المهندس "بلال عموص" مدير مختبرات جامعة بيرزيت أنها لا
تظهر للعين المجردة، وإنما يمكن ملاحظة علامات وجود الأعفان نفسها، وإزالتها لا تمنع
الإصابة.
وتكمن خطورتها أيضا
أنه لا يمكن القضاء عليها بإيه درجة حرارة (أي أن الطبخ والغليان والتعقيم لا يؤثر
عليها) وبالتالي فإن السبيل الوحيد للوقاية منها هو التخلص من الأغذية الملوثة بها
إتلافها، وتجنب ملامستها لليدين أو خلطها مع بقية الأغذية.
الدكتور "أمجد
عز الدين" مدير مختبرات جامعة النجاح الوطنية يشير إلى وجود أربعة أنواع
رئيسية من الأفلاتوكسين، وأكثر
مرحلة تنتشر
فيها الفطريات المنتجة للسموم هي ما قبل الحصاد، وتستمر تحت الظروف السيئة في
المخزن، وأثناء الشحن للتصدير؛ أي بوجود الرطوبة والحرارة العالية، حيث تتكون
أعداد كبيرة من الأعفان.
ويعتمد ظهور
الأفلاتوكسين إلى حد كبير على الموقع الجغرافي، فتزداد في المناطق الحارة والرطبة،
وعلى الممارسات الزراعية والمحصولية، كما يعمل تفشي الحشرات والقوارض على تسهيل
غزو الفطريات المنتجة للأفلاتوكسين.
يدخل الأفلاتوكسين
إلى جسم الإنسان، إما بطريقة مباشرة بالتغذية، أو عن طريق غير مباشر من خلال
التغذية على منتجات حيوانية ناتجة من حيوانات سبق تغذيتها على أعلاف ملوثة بالسموم
الفطرية، ويعتبر الطريق غير المباشر هو الأخطر، خاصةً على الأطفال. وقد أظهرت
الدراسات مدى التلازم بين التعرض للأفلاتوكسين والإصابة بإلتهاب
الكبد الوبائي، وتليف
الكبد. إلى جانب هذا، للأفلاتوكسين دور في الإصابة بسرطان الرئة، وإحداث سرطان
المعدة والأمعاء.
ماذا عن فلسطين...؟؟؟
تشير تقارير منظمة
الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) بأن 25% من الغذاء على مستوى العالم مصاب
بالسموم الفطرية (الأفلاتوكسين)، وهذه السموم تشكل نسبة 19% من عوامل تلف الغذاء،
وانطلاقا من هذه الإحصاءات، وبالقياس عليها، فإن الأغذية والأعلاف في فلسطين لن
تكون بعيدة عن هذه النسب، بالرغم من عدم وجود إحصاءات فلسطينية دقيقة في هذا
المجال.
وتبدو المشكلة في
فلسطين مضاعفة، من غياب الإحصاءات والدراسات إلى ضعف الرقابة والفحص على المنتجات
الغذائية والأعلاف للتأكد من خلوها من الأفلاتوكسين، وذلك بحسب مل توصلنا إليه من
خلال التحقق والبحث الذي قمنا به خلال تحقيقنا.
فحتى المنتجات التي
يُشَك بوجود سموم فطرية بها، أو ظهور علامات تلف بسبب وجود أعفان؛ فإنها لا تُفحص
بالشكل المطلوب، (عادة يتم إتلافها) بمعنى أنه لا تتم عمليات سحب عينات وإجراء
فحوصات مخبرية لقياس وجود (أو خلو) المنتجات الغذائية من الأفلاتوكسين، وإذا ما
كانت هناك فحوصات مخبرية؛ فإن عددها أقل بكثير مما ينبغي، بل تكاد تكون معدومة.
مديرة الرقابة
والتفتيش في دائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني "هزار أبو
بكر" أوضحت أن غالبية الأغذية في الأراضي الفلسطينية مستوردة من الخارج، وليس
لدينا فكرة واضحة عن مدى خلوها من الأفلاتوكسين.
أما القائم بأعمال
مدير عام حماية المستهلك بالوزارة المهندس "إبراهيم القاضي" فقد أكد على
عدم وجود سيطرة أمنية للسلطة الفلسطينية على المعابر والحدود، وبالتالي فإن ضمان
خلو المنتجات الغذائية المستوردة من الملوثات والسموم الفطرية يعتمد بشكل رئيسي
على شهادة المنشأ التي يقدمها التاجر المستورد، لكن شهادة المنشأ لا تضمن خلو
الأغذية من السموم الفطرية في مرحلة ما بعد التصدير. وأضاف: "طالما
أن السلطة الوطنية لا تملك سيطرة على حدودها، فإن هذا الأمر يسهّل نسبيا مسألة
تهريب البضائع إلى الأسواق الفلسطينية، وهذا يزيد من احتمالية وجود منتجات غذائية
ملوثة بالأفلاتوكسين وغيره من الملوثات بالطبع".
وهذا ما أكد عليه
المهندس "محمد قلالوة حيث قال: "بعض مخازن الحبوب ومخازن الأغذية
والمخازن المبردة التابعة للقطاع الخاص، وحتى في البقالات الصغيرة لا تتوفر فيها
الشروط الصحية، ما يعني أنها قد توفر ظروفا ملائمة لتكوين سموم
الأفلاتوكسين".
وترى أبو بكر أن
بيانات حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد فإن عدد العينات التي تم سحبها خصيصا
لغرض فحص الأفلاتوكسين محدود جدا، وغالبيتها من الأعلاف، بل أنه في السنتين 2013 ~
2014 لم يتم سحب أي عينة بهدف فحص الأفلاتوكسين، وهذا ما أكده "القاضي"،
حيث قال: "تكتفي الوزارة بما تسحبه وزارة الصحة من عينات، باعتبارها جهة
الاختصاص، ولا يوجد لدى وزارة الاقتصاد برنامج متخصص لفحص الأفلاتوكسين". موضحا
أن وزارة الاقتصاد الوطني لا يوجد لديها مختبر.
ومن جهته أوضح مدير
صحة البيئة في وزارة الصحة "إبراهيم عطية"، أنه "حسب بيانات صحة
البيئة في وزارة الصحة فإن عدد العينات التي تم سحبها خصيصا لغرض فحص الأفلاتوكسين
يتراوح من 100 ~ 150 عينة في السنة، وأنه لا يوجد لدى وزارة الصحة برنامج متخصص
لفحص الأفلاتوكسين، ولكن تنشط عمليات الرقابة أكثر في مواسم الأعياد، أي حين يزداد
الطلب على المكسرات". موضحاً أن الفحوصات التي يجريها مختبر الصحة المركزي
التابع لوزارة الصحة (في مجال الأفلاتوكسين) هي فحوصات نوعية وكمية، وتتسم بالدقة".
وللإطلاع أكثر على
دور وزارة الزراعة، قمنا بزيارة المركز الوطني للبحوث الزراعية التابع لوزارة
الزراعة (وهو المركز العلمي الأول والوحيد الحكومي على مستوى الوطن المتخصص في
فحوصات الأفلاتوكسين، ويقع في بلدة قباطية)، ووفقا لبيانات المركز فإن عدد العينات
التي تم سحبها خصيصا لغرض فحص الأفلاتوكسين بلغ 90 عينة للعام 2013، وكانت جميعها
من الأعلاف؛ حسب ما قال الباحث في المركز د."إياد بدران"؛ مضيفاً بأنه
لا يوجد لدى وزارة الزراعة برنامج متخصص لفحص الأفلاتوكسين، وأن الفحوصات التي
يجريها حاليا هي فحصوصات نوعية فقط، تؤكد أو تنفي وجود الأفلاتوكسين من
عدمه".
ونوّه "بدران" إلى أن "الخضروات
والفواكه والبقوليات والحبوب المنتجة محليا، تدخل إلى الأسواق الفلسطينية مباشرة
وفي أغلب الأحيان بدون رقابة ولا فحص مخبري، وتحديدا في موضوع الأفلاتوكسين".
فقد أكد "بدران" أن المركز لم يتلق أي عينات مواد غذائية بهدف فحص
الأفلاتوكسين. وبدوره أشار م. "مدحت ولد علي" مدير قسم الفحوصات السمية
في المركز، إلى تأخر المنتجات الغذائية في الموانئ الإسرائيلية يعرضها للتلوث
بالأفلاتوكسين، وأضاف: "وبإلقاء نظرة سريعة على أسواق الخضار المركزية في
مختلف المدن الفلسطينية سنجد أنواع عديدة منها تظهر عليها علامات تلف وفساد، ما
يعني احتمالية وجود أفلاتوكسين فيها، وهذه الأسواق لا يتم أخذ عينات منها لفحصها
والتأكد من خلوها من الأفلاتوكسين".
ولمزيد من التوضيح
حول عدد العينات وأنواعها ومعرفة إذا ما كان هذا يفي بالغرض، قمنا بزيارة
المختبرات المعتمدة في الضفة الغربية التي تستطيع إجراء فحص الأفلاتوكسين، وهي
مختبرات وزارة الصحة، مختبرات وزارة الزراعة، مختبرات جامعة بير زيت، مختبرات
جامعة النجاح، وتبين لنا أن عدد العينات المفحوصة (أفلاتوكسين) محدود جدا.
فحسب معطيات هذه
المختبرات قام مختبر جامعة بير زيت بفحص 30 عينة للعام 2013، وسبعة عينات منذ
بداية العام 2014. أما مختبر جامعة النجاح، فقد قام بفحص ما بين 20 ~ 30 عينة في
السنة. مختبرات الزراعة 90 عينة (أعلاف)، مختبرات الصحة 100 ~ 150 عينة. بمعنى أن
مجموع العينات المفحوصة (أفلاتوكسين) في كافة مختبرات الضفة الخاصة والحكومية
يتراوح ما بين 200 ~ 300 عينة، وإذا استثنينا عينات الأعلاف فأن عدد عينات المواد
الغذائية لا يتجاوز 150 ~ 200 عينة فقط.
وبعد الاطلاع على
واقع عمليات الرقابة والتفتيش لدى الجهات الرسمية اتضح لنا أن جميع الجهات
الرقابية الحكومية تركز عمليات الرقابة والتفتيش في مجال الأفلاتوكسين على
الأعلاف، حتى يكاد يكون مقتصرا عليها.
القمح مثلا، وهو من
أهم الأغذية الإستراتيجية في فلسطين وفي العالم، تبين لنا أن عدد عينات القمح
المفحوصة أقل بكثير مما ينبغي، وهناك تقصير حكومي بهذا الشأن، في حين أن القطاع
الخاص أفضل بكثير، فلدى زيارتنا إلى مطاحن القمح الذهبي في قرية "برهام"
إلى الشمال الغربي من رام الله، تبين لنا أن إدارة تأكيد الجودة في المطاحن تقوم
بإجراء فحص الأفلاتوكسين بشكل دوري منتظم، حسب ما أشار إليه " قلالوة"
مدير تأكيد الجودة، حيث ترسل المطاحن شهريا عينات إلى مختبرات جامعة بير زيت
للقيام بهذا الفحص.
ومن جهته أكد
"العموص" مدير المختبرات أن عينات الطحين ومشتقاته المنتجة من مطاحن
القمح الذهبي خالية تماما من الأفلاتوكسين. لكن مطاحن القمح الذهبي لا تغطي عمليا
سوى نسبة محددة من حجم الاستهلاك الكلي للطحين في فلسطين، إذا تبلغ حصتها من السوق
بحدود 10%. ما يعني أن بقية الطحين المستورد وخاصة من إسرائيل لا نعلم على وجه
اليقين مدى خلوه أو إصابته بسموم الأفلاتوكسين.
المعلومات التي
حصلنا عليها من المختبرات مع مقارنتها مع العدد المطلوب للعينات يظهر مدى المشكلة
التي تواجه المستهلك الفلسطيني من مادة القمح فقط، حيث توضح "أبو بكر"
من وزارة الاقتصاد أنه ومن أجل ضمان خلو القمح من الأفلاتوكسين يتوجب فحص عينة
واحدة على الأقل لكل ألف طن، أي ما يعادل 450 عينة قمح على الأقل طوال أيام السنة".
الأمر الذي لا يحدث
حاليا بدليل حجم العينات المتواضع الذي تفحصه كافة مختبرات الضفة الغربية. وهذا
الأمر ينسحب تماما على مجمل الاستهلاك الفلسطيني من كافة أصناف المواد الغذائية
الأخرى التي من الممكن أن تتلوث بسموم الأفلاتوكسين.
وأضافت:
"وبالقياس، وحسب كميات الأغذية المستهلكة سنويا، والتي يحتمل تلوثها
بالأفلاتوكسين فإنه يتوجب سحب ما لا يقل عن 10 عينات بشكل يومي لمختلف الأصناف،
وبالتالي ما يعادل 3500 عينة سنويا، يضاف إليها 1500 عينة أعلاف، المجموع 5000
عينة سنويا". لكن الواقع شيء مختلف تماما، حيث تشير إحصاءات المختبرات أن عدد
العينات المفحوصة بلغ 300 عينة مفحوصة مقارنة بِ 5000 عينة مطلوبة؛ أي نحو 5 ~ 10
% فقط مما هو مطلوب، وهذا ما أكد عليه "القاضي"، حيث قال: "عدد
العينات المطلوب فحصها يجب أن يتناسب مع حجم الاستهلاك الكلي، ولكن لا نحن ولا
وزارة الصحة بمقدورنا فحص كافة العينات، إلا أن مجمل العينات المفحوصة سنويا من
كافة المواد الغذائية لجميع الفحوصات لا يتجاوز الألف عينة، وهو رقم قليل
جدا".
المهندس
"عطية" مدير صحة البيئة أشار قال أننسبه العينات التي يتم فحصها ويتبين
وجود أفلاتوكسبن فيها، تتراوح من 10 ~ 15%. بينما النسبة في مختبرات جامعة النجاح،
وحسب ما أوضح " عز الدين" فهي تتجاوز ال 50%، ولكن هذا لا يعني أنها فوق
المعدل المسموح به دوليا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق