الحراك الشعبي في الضفة
الغربية لا يقل أهمية عمّا تفعله المقاومة المسلحة في غزة، ليس فقط لأنه يخفف
الضغط عن الجبهة المشتعلة في الشق الثاني من الوطن، أو لأنه تعبير صادق عن مشاعر
التضامن والتوحد، بل لأنه يعيد المعادلة الفلسطينية الشعبية والرسمية إلى نصابها
الصحيح في طريقة إدارة الصراع، وباعتباره خطوة مهمة لاستعادة واستنهاض روح المقاومة
الشعبية في الشارع الفلسطيني.
ورغم سخونة الدم النازف في
القطاع، أجد من الضروري الكتابة عن المسيرات الشعبية التي تجري في مدن وقرى الضفة
الغربية، لعل في ذلك ما يفيد في تسليط الضوء على بعض الأخطاء، وتطوير الأداء
الشعبي المقاوم ليرتقي إلى المستوى المطلوب، وربما تكون هذه أيضا شهادة حية من قلب
الميدان.
بداية أجد من الضروري
الاعتراف بأن الحراك الشعبي في الضفة ما زال أقل من مستوى الطموح، رغم الهبات
الشعبية العظيمة التي شهدتها مختلف المدن والقرى أكثر من مرة، والتي بلغت أحيانا
أكثر من خمسين نقطة اشتباك في اليوم الواحد، سقط فيها شهداء وجرحى كثيرون، ومع
أهمية ذلك، إلا أن ما يجري لا يدل على إستراتيجية واضحة ومعروفة، بقدر ما هي
استجابات تلقائية من قبل الجماهير الغاضبة.
كثيراً ما تنتابني مشاعر
الألم والغيظ وأنا أشاهد مسيرة شعبية تخترق شوارع المدينة، بينما مئات المواطنين
يصطفون على الرصيف، منهم من يلتقط الصور، ومنهم يعلق باستخفاف، كما لو أنهم يرقبون
حدثا يجري في نيكاراجوا، ولا يعنيهم !!
ومن الظواهر المحيرة، أن
حدثا مهما ما، لكنه لا يختلف عن أحداث مشابهة سبقته، ولا عن أحداث مشابهة ستلحقه؛
يشهد تفاعلا جماهيرا صاخبا، يفاجئ الكل، حتى أن الصحافة لا تكون مستعدة لتغطيته ..
بينما حدثا آخر ربما أكثر أهمية، تغيب عنه الجماهير بصورة مدوية، وأحيانا يأتي
عشرات الصحافيين لتغطية مظاهرة متوقعة، فلا تجد سوى حفنة من الشبان والفتية،
فيحملون كاميراتهم ويغادروا وفي فمهم سؤال كبير !
لست هنا بموقع تصنيف
للناس، ومنح شهادة وطنية لمن يشارك، أو تقريع من لا يشارك .. ولا يحق لأي أحد كان
المزاودة على الشعب الفلسطيني، أو التقليل من حجم تضحياته، أو التشكيك بشجاعته
وانتمائه، أو تجاهل تاريخه النضالي الطويل .. أعرف أناس وطنيين ولا أشك أبدا
بشجاعتهم لا يشاركون في المسيرات الشعبية .. علينا أن نلتمس العذر لكل شخص، الفلسطيني
أولا وآخرا هو إنسان، مواطن عادي .. ومن الخطأ النظر إليه على أنه عسكري أو مقاتل،
ولا يحق له أن يحيا حياة طبيعية .. الناس لها حاجات ومتطلبات لا غنى عنها ,,
وأحيانا ترهقهم كثرة المسيرات، في السنة الواحدة تمر عشرات الأحداث التي تتطلب
مشاركات جماهيرية ومظاهرات واعتصامات وإضرابات ومواجهات .. وهذا الأمر يتكرر منذ ستين
عاما وأكثر .. لذا من الظلم جلد الذات، ومطالبة الناس بما هو فوق طاقتها.
اللوم الأكبر يقع على حركة
فتح، صاحبة القوة الجماهيرية الهادرة، والتي تضم في صفوفها الآلاف من المنتسبين
رسميا، ومئات الآلاف من المناصرين والمؤيدين .. فأين هذه الجموع ؟ ولماذا لا نرى
قيادات الصف الأول تتقدم المسيرات ؟ وأين هي خطة فتح للمقاومة الشعبية ؟ ونفس
اللوم يقع على حركة حماس في الضفة.
تحظى المسيرات الشعبية
التي تجري في رام الله بتغطية إعلامية كبيرة، بينما تندلع مواجهات عنيفة وتنظم
مسيرات حاشدة في مدن وقرى أخرى، ولا يسمع بها أحد، وقد ارتبط في ذهن البعض أن
الحراك الشعبي مقياسه ما يجري في رام الله فقط !!
تشهد المسيرات التي تنظمها
قوى اليسار والمنظمات غير الحكومية حشدا جماهيرا أكبر ودرجة أعلى من العنف
والجرأة، خاصة حين تكون موجهة ضد السلطة !! وهذا لا ينفي مشاركتهم في مواجهات عنيفة
ضد الاحتلال.
من يحمل علم فصيل أو حزب
معين بدلا من العلم الفلسطيني، إنما يريد أن يقول بلغة واضحة أن حزبه وفصيله أهم
لديه من فلسطين، وأن نضاله من أجل إعلاء شأن حزبه وفصيله، لا من أجل قضيته
الوطنية، وغني عن القول أن في هذا إضعاف للحراك الشعبي، وشرذمة للجهود الوطنية،
وتمترس في مربع التنافس الحزبي البغيض.
تصدت الشرطة الفلسطينية
لمسيرات شعبية أكثر من مرة، وحالت دون وصولها لنقاط احتكاك مع العدو، وهذا أمر
غريب ومستهجن، لا أفهمه، ولا أريد أن أفهمه .. ولكن القول بأن السلطة هي التي تقمع
المظاهرات، وتحول دون اندلاع انتفاضة شعبية، أو تمنع تصعيد الحراك الشعبي هو قول
واه ومتهافت، ومجرد حجة لمن لا يريد التحرك، وذلك للأسباب التالية:
قبل بيان القيادة الفلسطينية التي دعت فيه إلى
أوسع حراك شعبي، كانت هناك ثلاث نقاط بالتحديد تمنع فيها الشرطة الفلسطينية
المتظاهرين من التقدم أكثر، هي بالقرب من بيت إيل في رام الله، وأمام حاجز الجلمة
في جنين، وفي الخليل .. وهذا الواقع تغير بعد بيان القيادة.
ومع ذلك، لنفترض أن السلطة
تمنع المظاهرات في بعض المواقع التي تسيطر عليها، والتي لها حساسية خاصة (وهذا أمر
مرفوض) لكن هنالك عشرات أو مئات المواقع الأخرى التي لا وجود للسلطة فيها، مثل معظم
القرى والكثير من المخيمات، بالقرب من المستوطنات، الشوارع الالتفافية، الحواجز
العسكرية الإسرائيلية، وعلى سبيل المثال، إذا منعت السلطة المظاهرات من أمام بيت
إيل؛ فهنالك في رام الله تحديدا نقاط اشتباك أكثر أهمية مثل عوفر، وحاجز قلنديا،
وحتى حاجز بيت إيل يمكن مهاجتمه من قبل مخيم الجلزون .. وغني عن القول أن اشتعال
هذه المواقع يكفي لاندلاع انتفاضة كبرى، فيما لو توفرت الإرادة والظروف. ولكن على
ما يبدو أن هذ الحجة يسوقها البعض لأغراض ثأرية، ولتصفية حسابات حزبية وسياسية.
الشعارات التي يرددها
المتظاهرون، تقريبا مكررة، وهي تعبر بدرجة كبيرة عن وعي شعبي متقدم، وعن توجهات
الشارع الفلسطيني. ومن الغريب أنها في كل مرة توجه اللوم والعتاب للعرب، وتصب اللعنات
ضد الأنظمة العربية، ما يدل على أن الفلسطينيين لم يفقدوا إيمانهم بعروبتهم، وما
زالوا ينتظرون شيئا من الدول العربية. بعض الشعارات كُتبت على عَجل، ربما للزوم
القافية واللحن، أو لمجرد أن من يرددها هو من يمتلك الصوت الأعلى، ولا يعني هذا أن
الجميع موافق عليها ..
أساليب وأشكال التظاهر لم
تتغير منذ عشرات السنين، وهذا أمر بحاجة لدراسة، وإعادة نظر، ومن الضروري
الاستفادة من تجارب "بلعين" وغيرها من القرى المحاذية للجدار؛ حيث أن
تجربة هذه القرى رائدة ومهمة، فقد كانت في كل مرة وعلى مدار سنوات، تجترح أساليب نضالية
جديدة، وتخترع أشكال متطورة ومذهلة من أشكال التعبير والتظاهر .. تفاجيء العدو
والصديق .. ومن الضروري تكرار نماذج إبداعية أثبتت نجاحها، كما حصل في قرية باب
الشمس، ودير حجلة، وغيرها.
نجاح المسيرة الشعبية لا
يقاس بتقديمها لشهداء وجرحى .. وعلينا أن نكف عن تقديم قرابين مجانية في نقاط
الاشتباك المكشوفة، وأيضا لا بد من منع كافة مظاهر عسكرة الحراك الشعبي، ومنع
مشاركة المسلحين في المسيرات الجماهيرية .. الاشتباكات المسلحة لها عناوينها
وأماكنها .. وهي معروفة لدى الكتائب المسلحة.
المقاومة الشعبية ليست
دوما سلمية وناعمة، وهي لا تتوقف عند الهتافات وإشعال الشموع ورفع اليافطات .. رغم
أن هذه الوسائل مشروعة ومهمة جدا .. لكن هناك أشكال أخرى من النضال الجماهيري تتسم
بالعنف والاشتباك المباشر مع الجيش والمستوطنين .. وقد كتب الصديق صالح مشارقة عن
هذا الموضوع بدقة وشجاعة مدهشة.
لا يجب أن يتوقف الحراك
الشعبي عند نصرة أهلنا في غزة .. هذا مطلوب الآن وبدرجة كبيرة من الأهمية، لكن من
المطلوب استمراره وتصعيده في مواجهة مخططات الاحتلال، وسياسات الاستيطان والجدار والمستوطنين،
وعلينا تعميم المقاومة الشعبية بكافة أشكالها، وأن لا نجعل منها هبات موسمية، بل
فعل دائم ومستمر؛ لأنها الخيار الأنسب في هذه المرحلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق