ذكريات، ليست خاصة أبدا

صبيحة ذاك الأحد الأسود في أول أيارٍ من العقد الأخير من القرن الماضي، فتحَ مستوطنٌ رشاش حقده على مجموعة من العمال أتوا إلى "عيون قارة" لجمع أثمان وجبات الفطور لأطفالهم، فقتل على الفور سبعة منهم، ومساء ذلك اليوم الحزين، وبعد أن انتصف الليل بساعة، اقتحم جنود المخابرات شقتنا الصغيرة بين الدوار الثاني والثالث، ليعثروا على أسلحة ووثائق تكفي أي قاضي ليحكم علينا نحن الثلاثة (أنا وأنيس ويونس) خمسة عشر عاما، خفّضها رأفة بشبابنا إلى النصف.

- مَن مِن الشخصيات "الثورية" تراه قدوة لك ؟ أراد المحقق بسؤاله هذا قراءة ردة فعلي.

- إنه نيلسون مانديلا. (كان قد خرج للتو من معتقله). كلفتني هذه الإجابة ثماني صفعات على خدٍ واحد.

- يعني إنت من فتح، ولازم تعرف إنه "فتح أبو نضال" ممكن تروح فيها مؤبد، و"فتح أبو موسى" بتوخذلك عشر سنين على الأقل .. حتى لو ما اعترفت ..

- بس أنا "فتح أبو عمار" ومالي علاقة بالقنابل ..

- طيب، شو علاقتك مع "بشير نافع" ؟

- مجرد جار طيب ..

بعد أشهر ثقيلة جاء مندوب الصليب الأحمر ليكسر عزلتي الانفرادية، وأخبرني أن الدنيا مقلوبة، ويمكن تصير حرب عالمية ثالثة، فسألته بفضول عمّا جرى، فقال: لا يعقل أن تكون آخر إنسان على وجه البسيطة يعلم أن صدام حسين أمر جيشه باحتلال الكويت.

حينها، لم نكن نعلم ماذا تخبيء لنا الأقدار، تضاعف عمري منذ ذلك اليوم، وها أنا أشارف على الخمسين، وخلال هذه المدة أشياء كثيرة تغيرت .. جيش العراق حلّه بريمر، وصدام أعدمه ملوك الطوائف، أبو موسى مات منسيا، أبونضال قتلته المخابرات العراقية، بشير نافع قضى في تفجير إرهابي من صنيعة الزرقاوي، أبو عمار اغتالته إسرائيل، مانديلا رحل عنا بعد أن أنهكه المرض .. المحقق صار نائبا في البرلمان، ويتحدث بفصاحة عن العروبة وينتقد التسوية، أما الإرهابي الذي قَتَل سبعة عمال فلسطينيين فقد تزوج في سجنه مرتين ..

طبعا الحرب العالمية الثالثة لم تقم، لكنها تفتت إلى مئات الحروب .. أما أسئلتي، فستظل معلَّقة في فضاء القادم من الأيام: ماذا بقي من فتح ؟ ومن فلسطين ؟ ومن شعارات ذلك الزمن البعيد ؟