هرتزل، كما هو معروف مؤسس الحركة
الصهيونية، أما السلطان عبد الحميد فهو آخر خليفة عثماني، في عهده وتحت ناظريه
تشكلت النواة الأولى للدولة الإسرائيلية، وقد التقى الرجلان خمس مرات .. فما الذي
جرى بينهما ؟ وإلى أي مدى يتحمل كل منهما مسؤوليته التاريخية عن نكبة فلسطين ؟
في الوقت الذي كان فيه هرتزل قد بدأ
بدراسة القانون، كان السلطان عبد الحميد يسير في موكبه المهيب نحو قصره الجديد،
لتولي العرش. كبر الرجلان في عالمين مختلفين، بل متناقضين؛ الأول مات مبكرا بعد أن
نجح في بعث الشتات لجموع يهودية متناثرة مضطهدة وتشكيل شعب منها، ومن ثم بناء دولة
له، بينما الثاني أخفق في الحفاظ على إمبراطورية مترامية الأطراف، ورثها عن أجداده
في الفترة التي كان يسميها الغرب "الرجل
المريض"، ويراقب احتضارها تمهيدا لوراثتها.
عاش الصحافي اليهودي النمساوي 44 سنة فقط، وتوفي
قبل أربعة سنوات من خلع السلطان عبد الحميد، لكنه قبل وفاته كان قد أسس الحركة
الصهيونية، وأنجز اللبنات الأساسية التي قامت عليها دولة إسرائيل .. بدأ نشاطه
السياسي بمقالة عن قضية "دريفوس" التي قال إنها هزت مشاعره، ونبهته
لتنامي ما أسماه "اللاسامية"، وفي نفس السنة (1895) أصدر كتابه الأول والأهم "الدولة
اليهودية"، وبعد سنتين جلب 250 شخصية يهودية إلى "بازل" لعقد المؤتمر
التأسيسي للمنظمة الصهيونية، والتي أخذت على عاتقها مهمة ترجمة أفكار "هرتزل"
وتحويلها إلى واقع، أي حل "المشكلة اليهودية" بإنشاء دولة لليهود في
فلسطين (أو في اي مكان آخر).
في السنوات القليلة التالية كرس "هرتزل"
جهوده بالاتصالات مع ملوك ورؤساء العالم وقياداته السياسية والاقتصادية، وفي تأسيس
الأذرع التنفيذية للمنظمة الصهيونية، وجمع التبرعات، وإقناع يهود العالم بمشروعه،
ودفعهم للهجرة إلى "الأرض الموعودة" .. وبعد خمسين سنة من انطلاقة
المؤتمر الأول كانت دولة إسرائيل قد أصبحت أمرا واقعا، تجثم فوق الأرض العربية.
تولى "عبد الحميد" الحكم مدة
ثلاث ثلاثين سنة (1876 ~ 1909)، بعد سنتين من جلوسه على العرش قام بحل البرلمان وإلغاء الدستور الذي
مضى على إقراره عامان فقط، وخلافا لسلفه "بايزيد الثاني"، الذي كان
قد أصدر فرمانا يقضي بتحريم المطبعة ومنع دخولها أراضي الدولة العثمانية واعتبارها
رجس من عمل الشيطان؛ فإن "عبد الحميد" تلقّف اختراع التلغراف، وعمّمه
على كل الولايات، وجعل منه أداته في تثبيت المركزية، والتأكيد على مرجعية الخليفة
في كل صغيرة وكبيرة.
إذا كانت حياة "هرتزل" تبدو
كقصة ملهمة في السردية الإسرائيلية، أضاف عليها الإسرائيليون فيما بعد الكثير من
مبالغاتهم، وأضفوا عليها من خيالهم الخصب، وجعلوا منه أبو "القومية
اليهودية" .. فإن قصة "عبد الحميد" في السردية العربية الإسلاموية
تأتي في نفس السياق ولنفس الغرض؛ فاليهود كانوا بأمس الحاجة لشخصية ملهمة تُحاط
بهالات من القداسة، يُسند إليها مهمة بعث "الشعب اليهودي"، وتخليصه من
عذاباته، لتبرير الأبعاد الاستعمارية في المشروع الصهيوني، وإقناع العالم بِ"عدالة
القضية اليهودية" وووو .. في المقابل فإن الإسلام السياسي كان بحاجة أيضا
لشخصية تاريخية يسند إليها مقولة أن الأيديولوجية الإسلاموية هي الوحيدة القادرة
على ضمان سلامة الأوطان وصد الأعداء ... لذلك فقد جعل خطاب الإسلام السياسي من
السلطان بمثابة السد المنيع الذي وقف في وجه التهديدات والإغراءات الصهيونية،
رافضا التنازل عن شبر من فلسطين .. فإلى أي مدى تتطابق هذه المقولات مع حقائق
التاريخ ؟؟!!
شهدت
السنوات العشرين الأخيرة من عهد السلطان عبد الحميد ذروة النشاطات التأسيسية
للحركة الصهيونية، حيث تضاعف عدد اليهود في فلسطين ثلاث مرات، من أربعة وعشرين ألف
عام 1882 إلى أكثر من ثمانين ألف عام 1908، حتى
وصلت نسبتهم إلى 11%
من عدد السكان، وازداد عدد المستعمرات من مستعمرة
واحدة (بتاح تكفا) عام 1878، حتى 33 مستعمرة إلى جانب (68) مستعمرة زراعية وتجارية في العام 1908. كما تواصلت الاستثمارات
اليهودية في فلسطين وازدادت كمّا ونوعا، وتواصلت
عمليات تسريب ملكية الأراضي لليهود، حتى تجاوزت الأربعمائة ألف دونم في نفس العام.
وهذه المنجزات والأرقام كانت في غاية
الأهمية والحساسية بالنسبة للمشروع الصهيوني، وقد شكلت الأساس المادي له.
في علم المنطق، من السذاجة الربط بين
حدثين وقعا في نفس الحقبة ولا تجمعها روابط حقيقية، كأن نربط بين حصول المرأة على
حقها في الانتخاب وبين انتشار الأسلحة النووية. ولكن يمكننا الربط بين حدثين
متتاليين زمنيا أو وقعا في نفس الزمان، ولكن تجمعها علاقات السبب والنتيجة، كأن
نربط الحرب العالمية الأولى مع وباء الأنفلونزا الإسبانية (التي قتلت ما يربو عن
العشرين مليون إنسان في بداية العشرينات من القرن الماضي) وكانت بسبب الحرب، فالعلاقة
بين الحدثين ليست زمنية وحسب، بل علمية وعملية.
فهل كان عبد الحميد مسؤولا عن تغلغل
النشاطات الصهيونية في فلسطين، لمجرد أنها حدثت في عهده ؟ وهل سياساته المترددة
والبراغماتية هي التي أدت عمليا إلى ضياع فلسطين، وتسربها تدريجيا إلى المنظمات
الصهيونية ؟؟!
الحقائق التاريخية تؤكد بأن السلطان كان
متابعا لأدق التفاصيل لما يحصل في فلسطين، وكان على دراية تامة بالمخططات
الصهيونية، وفي ذلك الوقت كانت فيه الحركة الصهيونية طفل يحبو، ولا تتمتع بالقوة
والنفوذ التي هي عليه اليوم؛ وبالتالي فإن الأرقام ودلالاتها التي تحققت في عهده تعني
أن هناك تسهيلات في الهجرة اليهودية، وغضٌ للبصر عن بناء المستوطنات والنشاطات
التهويدية الأخرى، وتسامح إزاء عمليات تسريب الأراضي لليهود، والتي ساهم فيها السياسات
الضريبية الظالمة بحق الفلاحين الفلسطينيين، رغم أن موقفه الرسمي واللفظي المعلن
والمضمر كان التشدد في رفض التنازل عن فلسطين مقابل المال اليهودي. وعدم التفريط
بها, لكن سياساته العملية على الأرض افترقت واختلفت مع ذلك الموقف، وأتت بنتائج
معاكسة.
وحتى نكون منصفين في المقاربة بين
الرجلين، لا بد من التذكير بأن القوى الاستعمارية الكبرى قد وضعت كل ثقلها لإنجاح
المشروع الصهيوني، وكل ثقلها لهدم الدولة العثمانية وتقاسم أراضيها .. ما يعني أن
الظروف الموضوعية كانت تعمل بقوة باتجاهين مضادين. ولكن ومع ذلك، فإن هذا لا يلغي
ولا يقلل من أهمية البعد الشخصي في تحمل المسؤولية التاريخية للنكبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق