أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 05، 2013

قبل أن نرحل


كانت آخر أيام تشرين، وفي هذا الوقت من السنة يتزامن غروب الشمس مع طلوع القمر من الشرق في آن معاً. بينما "لمياء" وزوجها يشربان قهوتهما في شرفة البيت، كانت نسمة خفيفة البرودة تداعبهما، جعلتهما يرتديان بعض الملابس الإضافية، تنظر "لمياء" من شرفتها صوب الغرب؛ كان المشهد ساحرا على نحو خرافي، بالرغم أنها اعتادت الجلوس في العصارى وانتظار مشاهدة الغروب، إلا أن الشفق كان استثنائيا هذه المرة. بيتها يقع على تلة مشرفة غرب رام الله تطلُّ على سهل الرملة، ويمكنها من هناك رؤية أضواء مطار اللد في المساء، وفي الصباحات الصافية يمكنها أن تلمح زُرقة بحـر يافا .. في أيام الخريف تهبط الشمس خلف آخر تلة تقع قبالة شرفتها، أما في الربيع فيزيغ مهبطها قليلا نحو الشمال، فتغطيه بناية أبو نعيم ..
بدأت الشمس تنزل رويدا رويدا، وكلما نزلت أكثر يكبر حجمها، ويبدأ لونها بالتحول من الأبيض المشع للأصفر الحارق، ثم إلى الأصفر النحاسي ثم تصبح برتقالية اللون، فتتوهج كجمرة، من فوقها مباشرة تباعدت غيمات متناثرة كاشفة عن سماء زرقاء أخذت تقترب من الكحلي المسود، وإلى الأعلى قليلا بضع سحابات طولية رمادية اللون تتغير ألوانها كل دقيقة من الأرجواني للمشمشي، حتى تستقر على لوحة متدرجة الألوان تبدأ من ألوان الشفق الحارة إلى البنفسج، ولكن هذه الألوان سرعان ما تخسر نزاعها المحدود مع الأسود، الذي سيغطي المشهد كله بعتمة خفيفة.
في الجهة المقابلة كان "ربيح" يراقب طلوع القمر، كانت عتمة خفيفة تغطي المكان، ونفس الغيوم تسبح في فضاء رام الله من شرقها لغربها، من هذه الجهة يرى "ربيح" أجزاء من حي الطيرة، وبعض بنايات شارع الإرسال، ومن هناك بدأ طرف القمر يبزغُ بلون الحنطة، يصعد ببطء .. يبدو كبيرا بلون الحليب .. تحيط به هالة مضيئة، يواصل صعوده، لكن حجمه يصغر، يتوارى خلف سحابة رمادية، ثم يظهر من جديد .. مستدير تتخلله خرائط سكنية عشوائية، يلوّن السماء بزرقة خفيفة مشوبة بسمرة داكنة .. يصل عنان السماء .. ضياءه يخفي وهج النجوم من حوله، فيبدو وحيدا .. لكنه مدهشا ..
يتبادل الزوجان نظراتهما .. يهمُّ كل واحدٍ منهما بمدح ما رأى .. تقول "لمياء": أين يمكن لك أن تشهد موت الشمس وميلاد القمر في مساء حالم كهذا ؟! يصمت "ربيح"، يشربان القهوة، ويواصلان جدالهما في نفس الموضوع كما يفعلان منذ شهرين: نرحل أم نبقَ ؟!
تبدأ "لمياء" بالحديث: هل تذكُر "رأفت" الذي سافر للمكسيك، وضاع في صحرائها وهو يهمُّ بدخول أمريكا، فوجدوه بعد أسبوع .. ميتا من الجفاف والجوع .. و"مهند" الذي سرقه سماسرة التهريب، وغدروا به وتركوه تائها في براري رومانيا، فانتهى به الأمر في سجون بوخارست !! أم "غازي" الذي اضطر للعمل عند أتراك في برلين، لمدة سنتين مقابل أكلهِ ومنامته فقط، وبدون أجر، لأنه ظلَّ خائفا أن تكشفه شرطة البلدية فتقوم بتسفيره على أول طائرة، فيعود إلى بلده بخفي حنين !!
يجيبها "ربيح" بلهجة معاتبة: هؤلاء حصلتْ معهم تلك النهايات المأساوية لأنهم مهاجرين غير شرعيين، أما نحن فسوف نسافر بالطائرة، وندخل المطار محترمين، وهناك فرص كثيرة تنتظرنا ..
ترد عليه بعصبية: طيب، و"سعيد" الذي سافر بالطائرة لجلب بضاعة من تايوان، فاعتقلته السلطات بتهمة تهريب مخدرات، وهو حتى لا يدخن، وقضى هناك بقية عمره غريبا في بلد لا يعرف لغته .. في سجن لا يزوره أحد .. و"مروان" الذي كان حظه أسوأ، حيث اعتقلته الشرطة الكولومبية وهو في طريقه إلى البرازيل لمجرد الاشتباه به، وأودعته في أخطر سجن في العالم، ولم تسمح لأحد بزيارته، ولم يعرف كيف يدافع عن نفسه، فمات بعد شهرين .. ربما مات من القهر، أو من الخوف .. و"ماجد" .. هذا الطالب المسكين، الذي تغرّب في أوكرانيا لدراسة الهندسة، وعندما تأخر أهله بإرسال الأموال له، وجدوه ميتا في شقته، ولا نعرف إذا مات من البرد، أم قتلته المافيا ؟؟ و"باسم" الذي هاجر للعمل مع شركة نفطية في نيجيريا، وقُتل هناك في الحرب الأهلية، قبل أن يتسنى له الانحياز لأي فريق ضد الآخر !! و"يحيى" الذي لم تكتفي عصابات السود في شيكاغو بسرقة تحويشة عمره، بل وقتلته بدم بارد .. و"هيثم" الذي ....
يقاطعها صارخا: كفى، كفى .. هل من المعقول أن كل من سافر للخارج إما قُتل أو سُجن ؟!! هناك الملايين من الذين عاشوا قصص نجاح في الغربة، وتميزوا، وعادوا لبلدانهم بثروات، أو صاروا مواطنين هناك؛ يعيشون بحرية وسعادة ..
تجيب بهدوء مصطنع: حسناً، لن أذكر لك قصص القتل والسجون .. هل تذكر "عبدالرحيم" الذي عمل في السعودية أربعة سنوات، ولم يقبض خلالها سوى بعض الدراهم التي بالكاد كانت تطعمه، ولما رفع قضية على صاحب العمل، جُلد ثمانين جلدة بتهمة قذف المحصنات !! وهل تذكر "فتحي" الذي افتتح مطعما في دبي، وبعد أن أخذ قرضا من البنك، أغلقت البلدية الشارع لمدة سنة، بحجة بناء برج، مما تسبب في إفلاسه وغرقه في الديون !! وهل تذكر "أمجد" المهندس المتفوق، الذي سافر إلى كندا للعمل، وعاد بعد سنة يجر أذيال الخيبة، محطما يائسا !!
يحاول "ربيح" أن ينهي الجدال: فعلاً، أمركِ غريب يا امرأة !! لا تذكرين إلا قصص الموت والسجون والنصب والاحتيال !! لماذا كل هذا التشاؤم ؟! لو كل الناس يفكرون بطريقتك السوداوية لما خرج أحد من بيته ..
تدخل لمياء البيت، لتفقّد منامات الأولاد، فيما يصفن "ربيح" في صحن السماء .. في الجهة الشمالية، كانت النجوم قليلة ومتناثرة، تكاد تذوب في ضياء البدر، أما في الجهة المقابلة فكانت كثيفة متشابكة تسبح في بحر لجي من العتمة، ومن بينها كانت "الزُّهـرة"، متألقة، تتلألأ بضوء أصفر يخفت ويشتد مع حركة الريح.
بعد دقائق من الصمت المطبق يستغرق في أفكاره تماما، وينعزل عن المكان، فلا يعود يرى من السماء سوى طيف أفكاره وهواجسه، ولا يسمع سوى صدى مخاوفه وأحلامه .. 
تعود "لمياء" تحمل إبريق الشاي على صينية فيها بعض البسكويت، ترفع الإبريق عاليا وتصب في الفنجان، وتقول دون أن تزيغ ببصرها عنه: هناك لا أقلق إذا تأخر المطر، وعندما يأتي لن أفرح له، هناك لن أربّي زيتونة، ولن انتظر شهر اللوز، ولن أجد صخرة تخبّئ تحتها عروق الميرمية، ولن تهبط عليّ مساءات تعبق بالريحان .. تصمت لبرهة، ثم تعاود الحديث بلهجة شاعرية: هناك الناس لا يرون الندى وهو يغسل حبات التين، ولا القمر وهو يوزع ضياءه على شرفات الجيران بالتساوي .. هناك لا يفطرون على الخروب بعد صيام يوم قائظ، ولا يزورون قبور أحبتهم في الأعياد .. هناك لن أجد تسع جارات يتشاركن فنجان قهوة، ويضحكن على العاشرة لأنها تأخرت في النوم ..
يجيبها بشيء من السخرية: بدلا من هذا الانتظار المشبع بالأسى؛ هناك يهطل المطر طوال العام، والزيتون والتين يأتون مطبخك في علب جاهزة، ولن تحتاجي الزعتر والريحان، لأن المساء مخصص للسينما، والصباح لانتظار القطار، وأنوار المدينة ومصابيح السيارات ستنسيك القمر وضياءه، والجارات سيكنَّ مشغولات بمكاتبهن .. وفي الأعياد سنشوي ديكا روميا .. وسنشرب الجعة، وسنترك أسلافنا يهنئون بنومتهم الأبدية، وسنجد ألف شكل للاحتفال ..
ترد بلهجة استنكارية: هناك لن أجرؤ أن أوبّخ صغيري، وعندما أعاتب ابنتي ستُحضِر لي شرطي يأخذني بملابس النوم، أو موظف الشؤون الاجتماعية ليأخذها إلى حيث لا ندري ..
يجيبها محاولا بث الطمأنينة في قلبها: ولكن، هناك سيجد أولادنا حديقة ألعاب، وشارع نظيف، ومدرسة فيها مختبرات علمية، وصالة موسيقى، ومدرب رياضي، ومرشد نفسي بلا عُقَد، وفي العطلة الأسبوعية سنذهب لمتنزه جميل، أو لمتحف، أو لمشاهدة عرض ..
ترد خائفة: هنا نحن بين جيراننا وأقاربنا، يسألون عني إذا تأخرت، يهدوني صحن مفتول فأعيده لهم مملوءً بالحلبة، تقول لي أم محمد صباح الخير، فأسألها عن زوج ابنتها، ولماذا ترك العمل، وعندما تفرغ أسطوانة الغاز من مطبخي يأتي جارنا عبود ويركّب لي واحد جديدة، قبل أن يحل موعد غدائك .. وعندما أكبر ستكون لمسة ابنتي أحنّ عليّ من أوامر الممرضة .. هنا سأعيش وسأشعر بحرارة الحياة، وعندما أموت سأكون في غرفتي بين أولادي .. ولن أقلق بشأن الجنازة ..
يرد بحزم: ومن قال لك أن الناس هناك لا تعرف الحب والزيارات ؟؟ على الأقل الناس هناك لا تعرف الكذب، ولا المجاملات الفارغة، وهناك الوقت شيء ثمين.
تقول بصوت مشبع بالحنين: هنا ندافع عن أرضنا، نبني مستقبلنا، نحلم، ننعم بدفء العلاقات، نتشارك مع الناس آلامهم .. ويشاركونا أعراسنا ..
يجيب مستنكرا: لكنّا تعبنا من الحروب والاحتلال، ومللنا من السياسة، تعبنا من صورة البطل التي ألبسونا إياها؛ أريد أن أكون إنسانا عاديا، أريد أن أعيش حياتي .. أنْ لا أقلق بشأن الحواجز، أنْ ألبس معطفا في الصيف دون أن يؤنبني أحد، وأن أحمل كيسا مغلقا لا يثير فضول الجيران، وأن أرقص على قارعة الطريق، أن أسهر دون خوف .. هناك دولة قانون ومؤسسات، ليس هناك اعتقالات عشوائية، وحروب أهلية، وفتن طائفية، وحقول ألغام ..
بنفس الصوت الشجي: ولكن هنا ماضينا، هنا مسقط رأسنا، وذكريات المدرسة، هنا شهداؤنا لفظوا أنفاسهم الأخيرة، وهنا مشينا في المظاهرة، وصفّقنا لخطابات القائد .. وصدّقنا كتب البلاغة ..
صارخاً: لكنا شبِعْنا من التاريخ، نريد بلادا لا يحفظ التلاميذ ألوان علمها، يمشي الرئيس في شوارعها بلا موكب، وصحفها تقول الحقيقة، وأحزابها تهتم بشأن النفايات.
بلهجة مستنكرة حاسمة: أنتَ تحكم بشكل غير موضوعي، لا ترى من المشهد إلا ما تود رؤيته !!
بنفس اللهجة: وأنتِ مزاجية، ومتشائمة، وانتقائية .. وكأن الشمس والقمر لا يطلعان إلا في سماء رام الله !!؟
تسود حالة من الصمت، ويلوذ كل واحدٍ منهما بأفكاره، يحسّان بشيء من التعب، يتفاجآن بأن الوقت قد تجاوز منتصف الليل، وقد صارت النسمات أكثر برودة، والسماء أشدّ حلكة، يتبادلان الأماكن؛ لأن مقعد "ربيح" أكثر دفئا، و"لمياء" تشعر بالبرد .. يتفقد "ربيح" قمره الذي بدأ يتهيأ للغياب وقد صار في غرب السماء، في طريقه لمهجعه على صفحة البحر؛ فيقول: غداً موعد رحلتنا، ستقلع الطائرة بعد الظهر، ويجب أن ننام الآن استعدادا للرحيل.  تتثاءب "لمياء" ثم تقول بصوت ناعس: بعد ساعتين، ستطلع الشمس، لم أرى الشروق منذ سنوات بعيدة، وقبل أن نرحل أريد أن أحظى بهذه الفرصة.
يقول "ربيح" بصوت قلق: ولكني أخشى أن نتأخر عن موعدنا، كما حصل في المرات السابقة، فأنا أعرفك: كل مرة تجدين عذرا مختلفا، وسببا لتأجيل السفر.
تقول "لمياء" بصوت يفيض بالرجاء المشوب باليقين: انتظر معي موعد الشروق؛ فربما تُغيِّر رأيك .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق