أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 30، 2012

في شهر يناير


في يناير انطلقت الثورة، وفي يناير سقط شهداء كُثر .. وما زالوا يسقطون كِسفا من السماء، ينيرون لنا بقية الأشهر، يزنّرون أرواحهم بأكاليل الياسمين، ويقدمونها لنا هدية، دون أن يعبئوا بما سنفعله من بعدهم .. أولهم كان اسمه "أحمد موسى" وآخرهم لم يأتِ بعد .. ها هو يتفيأ نخلته، ويتحضر لليلته الأخيرة ..
في الأول من يناير، قدح "أحمد موسى" شرارة الفتح، معلنا بداية الزمن الفلسطيني الجديد. وفي نفس اليوم، وبعد خمسة ثلاثين عاما دشّن "ثابت ثابت" بدمه عهدا مختلفا من الشهادة .. كان "ثابت" طبيبا ونقابيا وقائدا شعبيا، زاوجَ ببراعة قل نظيرها بين مداواة المرضى والكفاح المسلح، وبين نتاجه الأكاديمي وعطائه السياسي، وبين دعواته الأكيدة للتوحد والوحدة، وكونه كادرا فتحويا لا يتكرر بسهولة.
 كان ثابتا على العهد كطلعة الشمس كل صباح، ومتجذرا في أرض كرمته كزيتونة رومية .. لهذا اغتالته إسرائيل على بعد مائة ياردة من بيته، بينما كانت زوجته "سهام" تغسل فنجان قهوته الذي شربه قبل دقائق .
قبل "ثابت"، بأربعة سنوات، وبينما شعبنا يتحضر لأول انتخابات عامة، نفّذت إسرائيل جريمتها باغتيال القائد القسّامي "يحيى عياش" .. الذي لقّبه "رابين" بالمهندس، وقال عنه: ماذا نفعل مع قائد يريد الشهادة ؟ وبماذا ســنخوّفه ؟؟
كان في طفولته مؤدبا أكثر من اللزوم، كما قال عنه من عايشوه، وفي مدرسته ظهرت عبقريته مبكرا؛ فقد كان يهوى الرياضيات، ويبرع في حل أعقد المسائل .. وفي جامعته في بير زيت، لم يكن تفوقه ونبوغه في الهندسة وحسب؛ بل وفي أخلاقه، وتواضعه .. في إيمانه ويقينه، وحركته الدؤوبة الحذرة .. وحرصه على سرية العمل، وترفعه عن الخلافات الحزبية، وقوله الدائم: لنا عدو واحد، نعرفه جميعا .. لنتجه صوبه فقط ..
بعد أن أقدمَ المتطرف "جولدشتاين" على ارتكاب جريمته الجبانة في الحرم الإبراهيمي، ضد أناسٍ سجود، وهم بين يدي ربهم في دار عبادته، أخذ "يحيى" على عاتقه مهمة الثأر لهم .. فابتدع شكلا جديدا للكفاح، ما زال مثار جدل للآن؛ حيث يحدد المجاهد ميقاتا لموته لا ريب فيه، فيحمل حقيبته ويخرج، وهو موقن أنه لن يعود أبدا.
وهكذا خطّط لسلسة من العمليات الاستشهادية، في داخل الخط الأخضر، أودت بحياة ستة وسبعين إسرائيليا، بدأها بعد شهرين من مذبحة الخليل، الشهيد "رائد زكارنة" في العفولة، وآخرها كان بعد ستة عشر شهرا في حافلة صهيونية للركاب في حي رامات أشكول في مدينة القدس.
حاصر الجيش الإسرائيلي قريته "رافات" شهورا طويلة، اعتقلَ كل شباب القرية، وشيوخها، واستجوبَ النساء، وحقّقَ مع الجميع، حتى مع الأطفال، مع القرى المجاورة، مع عابري الطريق .. كان جوابا واحدا على لسانهم: نعم، "يحيى" بيننا .. ساكن في حيّنا، نراه كل صباح يروي حدائقنا، يقلّم لوزنا، يرسم لأطفالنا قوس قزح .. وفي آخر الليل ينام في حجرات قلوبنا، وحتى تصلوه عليكم استئصالها أولاً ..
ظلَّ "المهندس" متخفيا لست سنوات؛ يرى العدو من حيث لا يراه، يضربه في مواجعه، ثم يعود إلى عرينه، تنقل بين المدن والقرى كطيفٍ خفي، كصقر لا تصله حجارة الصغار .. كان يطارد دولة الاحتلال، ودولة الاحتلال تطارده، ولكن براعة المهندس تفوقت؛ إذْ تجلت عبقريته في المراوغة والإفلات من الكمائن؛ فخصصت إسرائيل آلافاً من جنودها المختارين، وفِرقا من حرس الحدود، والشرطة، والشاباك، في أوسع حملة مطاردة تنظمها الدولة العبرية في تاريخها، جعلت ملاحقيه يطلقون عليه لقب "العبقري" و"الثعلب" و"الرجل ذو الألف وجه"، وينسبون إليه صفات الرجل الخارق، والإنسان الذي يمتلك سبعة أرواح، وهي أمور حاولت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية إخفاء عجزها وراءها.
وكعادتها، لا تستطيع إسرائيل أن تنفذ للأبطال، إلا عبر عملائها .. كان "يحيى" قد وجد ملاذه الآمن في غزة .. فسكن شقة صغيرة في عمارة من طابقين، يملكها صديق قديم له، درس معه الجامعة، وكان له خال عميل .. أرادت إسرائيل أن تنتقم منه بأي طريقة؛ وحددت لذلك توقيتا مريبا، أرادت من خلاله أن تشعل الفتنة، وأن تحبط بناء أول أسس الدولة الفلسطينية (الانتخابات)؛ فأعطت للعميل هاتفا نقالا يحتوي على عبوة ناسفة.
في صبيحة يوم الجمعة، اشتاق الأب لابنه، فناداه الحنين للاتصال به؛ سمع صوته، شعر بدفئه، أحس بلهفة اللقاء تتراكض بين الكلمات القليلة، وتسقط عند آخر حرف، كان آخر ما سمعه: "كيف حالك يا أبي ؟ دير بالك على صحتك، ولا تظل تتصل على الهاتف". ثم انقطع الاتصال فجأة. سُمع دوي انفجار هائل، كان وجهه قد تهشم تماما، ويده اليمنى تهوي إلى أسفل، ودخان كثيف يغطي الغرفة، فيما كانت روحه تعانق أبواب السماء.
بعد أسابيع، جرت الانتخابات التشريعية والرئاسية، كنتُ أتابع في أحد المراكز الانتخابية، وكان الشخص المكلف بفرز الأصوات، يُخرج بين الفينة والأخرى ورقة بيضاء عليها اسم واحد: يحيى عيّاش.
في شهر يناير، ترجّلَ أحمد موسى، ثابت ثابت، ويحيى عياش؛ فأطلق اسم الشهيد ثابت على المستشفى الذي كان يعمل فيه في طولكرم، وفي رام الله أطلق اسم الشهيد يحيى عياش على الشارع الذي تقع فيه رئاسة الوزراء، أما أحمد موسى .. فيكفيه من المجد أنه أول شهداء الثورة الفلسطينية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق