أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 19، 2011

1 مقابل 1000 - من المنتصر في صفقة شاليط

بمجرد أن يسمع أي شخص أن صفقة عُقدت بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تم بموجبها مبادلة ألف أسير مقابل أسير واحد، سيتبادر إلى ذهنه سؤال محير: من المنتصر في هذه الصفقة ؟ من المتوقع أن تبرز إجابتان: الأولى تدعي أن إسرائيل منتصرة، لأنها انحازت لقيمة الإنسان وقدّست الحياة واعتبرت أن حياة مواطنها تعادل حياة ألف إنسان آخر ( من الأغيار أو الجوييم ). وفي المقابل سيقول آخرون أن الفلسطيني هو المنتصر، لأنه أجبر إسرائيل على القبول بهذه المعادلة غير المتوازنة، وأرغمها على دفع ثمن باهظ وهو ألف أسير مقابل جندي واحد.
وإذا أردنا أن نحلل الإجابتين لا بد أن نتساءل: هل إسرائيل فعلاً تقدّس الحياة، وتهتم بمواطنيها، ومستعدة لفعل أي شيء مقابل حمايتهم ؟! أم أن ذلك مجرد دعاية إعلامية نجحت فيها ببراعة ؟! إسرائيل تعتبر نفسها جزء من الحضارة الغربية، وهي إلى حد كبير تتساوق مع قيمها وتتمثل مفاهيمها، وتحاكيها في الكثير من تفاصيل حياتها، وتعتمد من أجل إبراز ذلك على الإعلام، تماما كما تفعل دول الغرب المتحضر. ولكن الحقيقة شيء مختلف كليا.
أمريكا مثلا، مستعدة لشن حرب على أي دولة مستضعفة إذا ما تعرض فيها مواطنا أمريكيا للخطر أو حتى للإهانة، لأن ذلك يخدم الصورة الإعلامية التي تسعى لرسمها في المخيال العالمي، بينما لا تفعل شيئا إزاء العشرات الذين يموتون يوميا في شوارع المدن الأمريكية على يد العصابات، فذلك من وجهة نظرها شيء مختلف، بالرغم أن الإنسان هو نفس الإنسان في الحالتين. ومن المفترض أن تكون حياته شيئا ثمينا ومقدسا. وإسرائيل تدفع بمواطنيها للحروب دون أن تعبأ بقدسية حياتهم، وترفض أن تستجيب لمطالب السلام الذي سيجلب لمواطنيها الأمن والحياة، لأنها دولة ذات دور وظيفي يقوم على الحرب بشكل أساسي. وللتغطية على هذا الدور تقوم ماكينتها الإعلامية، فتقيم الدنيا ولا تقعدها إذا ما قُتل أحد جنودها،  وتفعل كل ما بوسعها لاستعادة جثمانه أو للحيلولة دون وقعه في الأسر. لأن ذلك ضروري جدا في تربية النشء، ولمعنويات الجنود، وصورتها في الإعلام المحلي والعالمي كدولة قوية مسيطرة ذات رسالة، وبدون ذلك سيتقاعص الجنود عن الذهاب إلى جبهات القتال، وستبرز التناقضات الداخلية إلى السطح، وبالتالي ستفقد الدولة هيبتها، وستنهار صورتها، وستعجز عن أداء دورها الوظيفي.
وإذا ما حللنا السلوك الإسرائيلي الرسمي والإعلامي تجاه قضية الجندي شاليط، سنجد تطابقا كاملا مع هذا التحليل: فقد نجحت إسرائيل في توظيف قضية شاليط لصالحها منذ بدايتها وحتى نهايتها المفتوحة، فعند وقوعه في الأسر رسمت له صورة خارجية مزيفة، فتحوّل بفعل إعلامها من جندي في مهمة حربية يقصف المدنيين في غزة - وربما يكون قد قتل بالفعل أطفالا ونساء - إلى الجندي المسكين ضحية الإرهاب الفلسطيني، ثم حولت أنظار العالم كله إلى منـزل أسرته، الذي صار محجّا للمتضامنين مع دولة إسرائيل، ورسمت له صورة الابن الذي يحنُّ للرجوع إلى حضن أمه، وعند عودته سوّقت له صورة مُغايرة تستهدف هذه المرة الجمهور الإسرائيلي بجيشه ومواطنيه: صورة البطل المحارب العائد من الأسر بزيه العسكري الأنيق، فما إن تسلَّمه قادة الجيش حتى أعادوه إلى حالته الأولى، وأدخلوه إلى دبابته لاستعادة صورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
علماً بأن هذا الجندي كان قد استجاب لضعفه الإنساني حين باغته رجال المقاومة، وتقول الرواية أنه هرب مع خاطفيه - ربما ظنهم جنودا إسرائيليين – لكنه على أية حال آثر الاستسلام على الموت، ولم يدافع عن زملائه، كما تفترض تعليمات جيشه، وجعل إسرائيل تدفع ثمنا باهظا لتفديه من الأسر. وهذه هي الصورة الحقيقية لشاليط التي يخفيها الإعلام الإسرائيلي.
وفي حقيقة الأمر فإن إسرائيل لم تبذل جهدا حقيقيا وكافيا لتحرير شاليط، وكانت تماطل في عقد صفقة الإفراج عنه، لأنها كما استفادت إعلاميا من أسره، استفادت سياسيا، واستخدمته ذريعة لمواصلة عدوانها على غزة، وحُجّة لشن الحروب، ولم تكتفي بذلك بل أنها وظّفت صفقة الإفراج عنه لإنقاذ حكومة نتنياهو من خطر الإطاحة بها من الشارع الإسرائيلي. لو أن حكومة إسرائيل كانت حريصة بالفعل على حياة شاليط، ومتأثرة كما تدعي بمعاناة أسرته، لما خاطرت بحياته حينما شنت عدوانها على غزة في شتاء 2009، وقصفت حينها البيوت والمنشآت بلا تمييز، ولما أخّرت عقد الصفقة كل هذا الوقت. فهي على سبيل المثال عقدت صفقة مع حزب الله مقابل رفاة جنود في فترة تقل عن السنتين، وأفرجت حينها عن سمير القنطار وعدد آخر من الأسرى.
على أية حال، حتى لو كان اهتمام إسرائيل بمواطنيها هو فقط مسألة إعلامية ودعائية، فإننا نتمنى أن تبدي الدول العربية اهتماما مماثلا بحياة مواطنيها – حتى لو كان ذلك مجرد دعاية – فلو أجرينا مقاربة بين الحالتين، ستكون النتائج فاجعة وصادمة بكل معنى الكلمة، وما فيها من حقائق مُـرّة أليمة. حيث يُقتل في البلدان العربية في كل يوم المئات من المواطنين الأبرياء، الذين كل ذنبهم أنهم أرادوا التعبير عن آرائهم، أو أنهم مختلفون عن قتَلَتهم بالإنتماء الديني أو الطائفي أو السياسي. في تونس مثلا قُتل 219 مواطن في بضعة أسابيع أثناء الثورة، في مصر قُتل في شهر واحد 365 مواطنا بعدد أيام السنة، في سوريا قُتل خلال الأشهر الستة الماضية أكثر من ثلاثة آلاف مواطن، وأعتقل أكثر من مائة ألف، في اليمن لا  تتوفر إحصاءات دقيقة لأن القتل ما زال مستمرا وقد تجاوز الآلاف بدون شك، في ليبيا تجاوز عدد الضحايا الخمسين ألف ( على يد الناتو وعلى يد النظام وعلى يد الثوار )، في إقليم دارفور في السودان قتل خلال عامين أكثر من 300 ألف مواطن، في العراق يصل عدد القتلى بعد الاحتلال الأمريكي إلى الملايين - معظمهم ضحايا الإرهاب الداخلي – في الصومال يموت يوميا المئات من ضحايا الإرهاب والمجاعة، والحال مشابه في دول عربية أخرى عديدة، أما المعتقلين والجرحى والمشوهين نفسيا فهم أضعاف أضعاف هذه الأرقام.
وبالإضافة للمعتقلين السياسيين من معارضي الأنظمة، هنالك الآلاف من الأسرى العرب الذين تحتجزهم دولا عربية أخرى، فمثلا سورية "الشقيقة" تحتجز مئات الأسرى الأردنيين منذ عشرات الأعوام، فضلا عن الآلاف من الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين, وهناك مئات الأسرى بين المغرب وجبهة البوليساريو. وهؤلاء الأسرى انقطعت أخبارهم نهائيا عن ذويهم، وصاروا نسيا منسيا منذ زمن طويل، دون أن تطالب بهم حكومات دولهم، حرصا منها على الروابط القومية !!
كل هذا يحدث فعلا في البلدان العربية، دون أن يكترث أحد بهذه الأرقام المرعبة، ليس لأن الإعلام الغربي يتعامى عنها، ولا لأن الأنظمة دكتاتورية وفاسدة ولا تعبأ بحياة الناس، بل لأن الإنسان العربي في داخله يشعر أنه بلا قيمة، فهو أحيانا يكون أسوأ من الأنظمة التي تجلده صبح مساء، لأنه أدمن على استبدال الفساد بالدكتاتورية، واستبدال طاغية بآخر، ولأنه يستسهل الموت، إما لأنه ينتظر الجنة الموعودة، أو لأن حياته بائسة ولا تستحق أن تُعاش، أو لأنه تربى على ثقافة لا تقدس الحياة، وتعتبر التضحية بالفرد لصالح المجموعة أو النظام مسألة عادية جدا.
بالعودة إلى سؤالنا، سنجد أن الفلسطيني يضحي بحياته (سجينا أو شهيدا) لأنه اختار الحرية، ولم يستطع أن يستوعب حياته مسلوبة الكرامة في ظل الاحتلال، فكان خياره إنسانيا بامتياز، لأنه ثار على الظلم والعدوان، ولم تكن تضحيته في سبيل سلطة أو منصب، ولأنه حُشر في الزاوية، ولم يبقَ خلفه إلا الجدار، وليس أمامه إلا أن يدافع عن نفسه، وعن مستقبله. فهو بالتالي لن يعبأ بالأرقام ( ألف أم عشرة آلاف أم مليون )، فجميع الأسرى مظلومين، ويستحقون الحياة والحرية، وعندما يقبل الفلسطيني أن يبادل ألف من مواطنيه بجندي إسرائيلي أو أكثر، فهذا لا يعني أبدا أن حياتهم تعادل حياة ذلك الجندي، بل تعني أن كل من في الأسر يجب أن يتحرر، وبأية وسيلة. وتبا للأرقام.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق