أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 10، 2011

عصر الثورات العربية، الأسباب والتداعيات

مقدمــة

بعد عقود من السكون والجمود، وعلى غير المتوقع، اندلعت في أكثر من بلد عربي ثورات شعبية أسقطت أنظمة، وهزت عروش أنظمة أخرى، وخلقت واقعا جديدا على المستوى السياسي والاجتماعي لم تكن سرعة تشكّله وعمق تحولاته لتخطر على بال أكثر المراقبين تفاؤلا، وهي ما زالت في بداياتها وأمامها الكثير، كما أن المنطقة العربية برمتها تموج اليوم بالأحداث الجسام والتغيرات الجذرية، بإيقاع خرج عن سيطرة الأنظمة، وتجاوز ما هو قائم من تشكيلات سياسية نخبوية، البعض شبّه ثوراتها الشعبية بالثورات التي أطاحت بالمنظومة الاشتراكية في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، والبعض اعتبرها نموذجا آخر للثورات الكبرى التي غيرت وجه العالم
كالثورة الفرنسية والأمريكية والبلشفية، والبعض شبّه المرحلة التي تمر بها الشعوب العربية في الوقت الراهن، بالمرحلة التي مرت بها أوروبا قبيل الثورة الصناعية، ومع مراعاة الاختلافات التي تفرضها خصوصية الواقع العربي، وسماته وخصائصه، والأخذ بعين الاعتبار تأثيرات ونتائج الثورة الصناعية والحقائق التي بنيت على الأرض منذ قيامها قبل نحو قرنين من الزمان، ليس فقط على صعيد الوطن العربي بل على امتداد العالم كله، يمكننا المجازفة بالقول أن الأمة تمر اليوم بمرحلة تشكُّل تاريخية في غاية الخطورة، والمقبل من الأيام سيكون له بصماته البينة في تاريخ المنطقة ولأمد طويل.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا ثارت الشعوب العربية في هذا الوقت بالتحديد ؟ ما الذي تغير وجعلها تخرج عن صمتها ؟ إذا أردنا أن نبسط الإجابة ونختصرها، نقول أن التراكمات التي كانت تعتمل تحت السطح وفوقه قد بلغت مداها، وأن عوامل التفجير وصلت حدها الأقصى الذي لا يقبل مزيدا من التأخير، وصار من المحتم أن تعبر عن نفسها على هذا النحو الذي بدأ في تونس ثم انتقل بسرعة إلى مصر لينتشر في المنطقة انتشار النار في الهشيم.

سمات وخصائص مرحلة ما قبل الثورة

ثمة ثلاثة عوامل كان لها التأثير المهيمن على الواقع العربي طوال العقود الماضية، أي منذ أن تحررت الدول العربية من الاستعمار ونالت استقلالها السياسي، قد تبدو هذه العوامل متناقضة فيما بينها، إلا أنها متفقة ضمنيا على تكريس واقع التجزئة والتخلف والاستبداد الذي رسم ملامح الحقبة الماضية برمتها، وحرمت الشعوب العربية من استثمار طاقاتها وثرواتها، ومن تحقيق وحدتها ونيل حريتها، حرمتها حتى من بناء دولة مدنية ديمقراطية ينعم فيها المواطن بحقوقه الكاملة، هذه العوامل هي الأنظمة العربية، الأحزاب الشمولية ومنها تيارات الإسلام السياسي، وأخيرا العوامل الخارجية:

الأنظمة العربية:

كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية تشكل نظام دولي جديد حُددت معالمه في اتفاق يالطا بين الحلفاء المنتصرين، وبموجب هذا النظام نالت الدول العربية استقلالها، إما من خلال الثورات الشعبية والتي أفرزت الأنظمة الجمهورية التي كانت تحمل لواء الثورة والاشتراكية ومقارعة الاستعمار، أو من خلال تسلم السلالات الحاكمة مقاليد الحكم، كما هو حال الممالك وأميريات الخليج العربي. ولكن في الحالتين كانت النخب الحاكمة تستمر بحكمها عقود طويلة دون أي تداول للسلطة، ومع طول فترة الحكم وبدون دستور حقيقي كان من الطبيعي أن يحدث الزواج التقليدي بين السلطة والثروة، مما يؤدي بهذه النخب للاستيلاء على مقدرات البلاد وتحويلها إلى ممتلكات خاصة، وحتى تحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ لإفساد قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وأيضا وسائل الإعلام وبقية القوى المؤثرة على الرأي العام ورجال الدين، بالمال والامتيازات، كما كانت تسعى لإنتاج نخب جديدة مستفيدة من السلطة القائمة لحمايتها، وهي على الأغلب نخب عائلية أو طائفية، وبالتالي تنشأ علاقة مصلحة متبادلة ما بين الطرفين، ويصبح الهدف الرئيسي للسلطة والنخب التابعة لها الحفاظ على امتيازاتها ومصالحها، حتى أنها تكون مستعدة للدخول بحرب أهلية دفاعا عن مصالحها، أو دفاعا عن الوطن الذي صنعته بأيديها ضمن مواصفاتها ومعاييرها وصار متماهيا معها، حتى أنه صار وطن السلطة وليس وطن الشعب.
إذا كان متوقعا من الأنظمة الأميرية والملكية أن تعمل بمبدأ التوريث، فإن ما لم يكن متوقعا أن تتحول الجمهوريات التي أسمت نفسها بالتقدمية والوطنية وخاصة تلك التي جاءت كبديل للملكية، أن تتحول إلى نظم استبدادية تعمل بمبدأ التوريث، وأيضا لم يكن متوقعا أن تؤدي الديمقراطية الصورية التي انتهجتها بعض الدول إلى تكريس سيطرة الحزب الواحد والرئيس الأوحد .

ومع غياب الديمقراطية وانعدام أي شكل من أشكال تداول السلطة – باستثناء الانقلابات العسكرية – ومع تفشي الفساد وسيطرة زوجات الرؤساء وعائلاتهم على ثروات البلاد، وتعثر مشاريع التنمية، وفشل السياسات الاقتصادية، وانتشار البطالة والأمية والفقر في صفوف الجماهير، وغياب المشاركة الشعبية وانسداد الأفق السياسي نتيجة أعمال تزوير الانتخابات المتكرر على نحو بائس ومضحك، أدى هذا كله إلى تآكل شرعية الأنظمة، واتساع الفجوة بينها وبين الشعب، وبناء سور عالي يفصلها عن همومهم ومصالحهم وتطلعاتهم، وفي المحصلة باتت هذه الأنظمة مع الجماهير على طرفي نقيض.

على المستوى السياسي أدى انتكاسة الوضع في مصر منذ عهد السادات ومبارك على كافة المستويات إلى تدهور الوضع العربي كلّه، بل حتى في تدهور وضع العالم الثالث وحركة عدم الانحياز، بعد أن كان لمصر دورا محوريا في زمن عبد الناصر في حركة التحرّر العربية والعالمية، ودوراً أساسياً في استقلال عدد من الدول العربية كالجزائر واليمن، وحتى في إفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى درجة أنه يمكننا المجازفة بالقول أن الأمة العربية بعد عبد الناصر دخلت في مرحلة الثورة المضادة ودخلت عهدها المظلم.

الأحزاب الشمولية وتيارات الإسلام السياسي

استلمت الأحزاب الشمولية السلطة في أكثر من بلد عربي، وفي بلدان أخرى هيمنت على الحياة السياسية فيها دون أن تتبوأ السلطة، إما في صفوف المعارضة أو متحالفة مع النظام، وفي كل الأحوال السابقة أدى النهج الشمولي ألإقصائي لتلك الأحزاب إلى إسكات وقمع القوى الديمقراطية والتقدمية الأخرى، وإلى إرساء دعائم الدكتاتورية والاستبداد، ولكن تحت شعارات ثورية وقومية.

أما تيارات الإسلام السياسي فقد ظهرت لأول مرة في العصر الحديث في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، معبرا عنها بجماعة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة التي توصف بأنها معتدلة، والتي تفرع عنها تيارات عديدة معظمها متشددة ومتطرفة، وكان بروز هذه الجماعات وتعاظم قوتها في بداية الثمانينات، متأثرا ومستفيدا من الزخم الإعلامي والشحن العاطفي الذي أطلقته الثورة الإيرانية، ومع هذا فإن المراقبين يعتبرون أن صعود هذه الأصوليات كان نتاجا حتميا لحالة التراجع الثقافي العام، ونتيجة إخفاق القوى التقدمية في تحقيق أهدافها، فقد أدى فشل النخب الثقافية والقوى الثورية وانكفائها على ذاتها إلى خلق المناخات المواتية لنمو الحركات المتشددة والتي تسمي نفسها بالجهادية، ولكن هذا ليس السبب الوحيد لنموها، فهي لم تكن ناتجا عرضيا جاء في ظل ظروف سياسية معقدة، بقدر ما كانت أيضا نتاج جهد ذاتي لشرائح اجتماعية معينة دأبت على التعبير عن نفسها وعلى بث أفكارها وتنشئة الأجيال الطالعة على مفاهيمها، فإذا كانت قوى الإسلام السياسي في بداياتها حركات سياسية اجتماعية تعاني القهر وتكابد الظلم وتبحث عن فرصتها في التعبير عن ذاتها، إلا أن خنق صوتها وإغلاق أبواب الأمل أمامها، كان سببا كافيا لصدامها المسلح والعنيف مع السلطة، ومع تفشي العنف والاستبداد والقمع السلطوي، ومع توالي الهزائم والانكسارات وسقوط النماذج الكبرى، كان حتميا أن يتولّدَ العنف المضاد، وأن تكتمل دورة العنف السياسي لتهيمن على الحياة العامة، ولتأتي نتائجه المدمرة.

بمعنى أن بذرة العنف بدأت في أحضان النظم الاستبدادية، ونَمَتْ مع الخيبات والهزائم التي منيت بها الأمة، وكبرت مع الأزمات السياسية والاجتماعية، وقد رعتها دول وجماعات وقيادات تحمل مشروعا أمميا صار يعرف باسم مشروع الإسلام السياسي، تمثله قوى رجعية ترتبط بالماضي أكثر من ارتباطها بالحاضر، ويقوم فكرها على مبدأ الولاء والبراء ومعاداة كل ما لا يشبهها، والتصادم مع كل من يختلف معها، وله أهدافا وغايات تختلف كليا عن المضمون الذي يحمله مشروع النهضة والحداثة القومي الوطني التقدمي.
وأيديولوجيا هذه القوى بشكلها الحالي مناهضة للحداثة ومعرقلة للتطور، وشعاراتها ضبابية ودوغمائية، ورؤيتها للحكم تقيد الحريات العامة وتحد من حرية التعبير، لأنها مقيدة بالنصوص الجامدة ومسكونة بهاجس التحريم، وتعترف صراحة في كثير من أدبياتها بأنها ترفض الدولة المدنية ولا تقر بالديمقراطية وتعتبرها بضاعة غربية، ولا تؤمن بالفكر القومي، ولا بالنـزعة الوطنية، ولا تدعو لحقوق المواطنة بالمفهوم الحديث، وتحارب العلمانية بوصفها لها شكلا من الكفر والتعدي على الدين، ولا تنظر للمسيحيين وللطوائف الأخرى كمواطنين بل كذميين يتوجب عليهم دفع الجزية، وتطرح منظومة فكرية دينية شمولية تعتقد أنها متكاملة ومطلقة وتصلح لحل كافة القضايا، ويتفرع منها نظريات اقتصادية واجتماعية وسياسية تؤدي في النهاية إلى أسلمة كل ما هو في طريقها بمنهجية تركز على القضايا الاجتماعية والشكلانية، وتتجاهل القضايا الكبرى والمصيرية.

العوامل الخارجية

كما كانت طبائع الاستبداد واضحة في تركيبة الأنظمة، وملامح الحكم الثيوقراطي الشمولي واضحة في نظريات قوى الإسلام السياسي، كانت علامات التخلف في المجتمع العربي واضحة في كثير من مناحي الحياة، وقد برزت طوال فترات تاريخية متعاقبة، وتعزى أسبابه لعوامل عديدة متشابكة تتداخل فيها الأسباب مع النتائج ويتبادلان خلالها الأدوار، ومن أبرز ملامح هذا التخلف الركود والفقر والأمية، وسيادة الأنماط الغيبية في التفكير، والأساليب البدائية في الإنتاج، والعلاقات والولاءات القبلية والطائفية، والنظرة إلى العمل والزمن، وعدم مشاركة المرأة، والانعزال والخوف من التغيير ... ولابد من التأكيد على أن العوامل الخارجية كانت سبباً مهماً في تثبيت وتعميق واستمرار هذا التخلف، منذ أن غرس المشروع الاستعماري في جذور هذه الأرض أولى مداميكه، وحتى بعد أن خرج وترك وراءه ركائزه وأدواته وحلفائه.

وبسبب النفط وارتباطه الوثيق بالمشروع الاستعماري، ما كادت الحرب العالمية الأولى تنتهي حتى أُخضعت مناطق النفط والمضائق المؤدية له إلى سيطرة استعمارية مباشرة، وكان من نتيجة هذا الإخضاع أن تعرضت تلك البلدان إلى جملة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تقف وراءها شركات عابرة للقارات بهدف حماية المصالح الغربية .

ولكن العامل الخارجي الأبرز كان متمثلا في غرز الكيان الإسرائيلي في قلب المنطقة العربية، وخطورة هذا العامل تكمن في طبيعة الدور الوظيفي لإسرائيل، وفي طبيعة تحالفاتها الدولية، وفي تبعات وتداعيات الصراع نفسه، فبسبب الصراع العربي الصهيوني عانت المنطقة من ويلات الحروب ومن الآثار السلبية للصراع، واستنـزفت طاقاتها العسكرية والبشرية والاقتصادية، وطبعا دون إستراتيجية حقيقية للمواجهة.

فإذا كانت فلسطين القاعدة الجغرافية الاستيطانية للمشروع، فإن الوطن العربي هو المجال الحيوي الذي سيمارس فيه دوره الوظيفي، من خلال منع تحقيق الوحدة العربية، وتكريس حالة التجزئة والتخلف، والسيطرة على كافة المسارات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية في العالم العربي، والتحالف مع بؤر الثورة المضادة، وتغذية النـزاعات الحدودية والقلاقل الداخلية، وتنظيم الجواسيس، وتطويع العقل العربي في محاولة لتدجينه وتيئيسه.

وفي المقابل، وتحت شعار التحرير والجهاد والمقدسات المغتصبة رفعت الأحزاب والأنظمة شعارات كبرى، وفي ظل هذه الشعارات وبقوتها المعنوية نشأت أنظمة استبدادية قتلت كل التوجهات الديمقراطية في مهدها، وألغت الحريات العامة، وانتهكت حقوق الإنسان، بحجة وجود هدف أهم وهو التحرير. وتحت ذريعة هذا الهدف حوّل المتاجرون به، والمستفيدون منه، الشعوب العربية إلى قطعان، طالما أنهم يفكرون نيابة عنها.

وهنا لم يكن مهما ما إذا كانت هذه الشعارات صادقة أم لا، المهم أن من لم يصدقها يصبح خارجاً على الشرعية المستمدة منها، والتي تمثلها الدولة أو الحزب، بمعنى آخر يصبح في صف الأعداء والمتآمرين والمتخاذلين، وبهذا الشكل جرى وأد الديمقراطية وخنق الحريات وإغلاق الباب أمام المشاركة الشعبية في الفعاليات السياسية، التي احتكرتها تلك الأنظمة وتقاسمتها مع أحزاب تدعي أنها معارضة.

وكما اختطفت الأنظمة والأحزاب القضية الفلسطينية وجعلت منها مادة للشعارات والخطب، وتاجرت بها لتحقيق مآربها ومصالحها الذاتية، ولأسباب مختلفة وفي وقت لاحق اختطفت قوى الإسلام السياسي الإسلام نفسه، لتجعل منه وبنفس الآليات مادة للشعارات والنيل من الخصوم ووسيلة للظفر بالسلطة، وكان أكثرها نجاحا في هذا المجال من استطاع أن يجمع الكنـزين معا ( الإسلام والقضية الفلسطينية ).

وفي العقد الأخير الذي سبق اندلاع الثورات الشعبية العربية، جرى التحام مريع بين هذه الاختطافات. إذ يقول الكاتب الفلسطيني حسن خضر: "تم اكتمال اختطاف فلسطين والإسلام من جانب الأصوليين، والمضاربين في سوق السياسة، والمغامرين، ودول النفط. ولم يجد هؤلاء صعوبة في المزاوجة بين شعارات كبرى متأسلمة جديدة، وشعارات قومية عتيدة. وكانت النتيجة عقد كامل يعج بالأحداث والتناقضات والحروب وصعود قوى وانسحاق أخرى. كان ذاك عقد الزرقاوي، وبن لادن، والانتحاريين، والتوريث والمورّثين، وحروب الطوائف والميليشيات، والجزيرة، وجورج بوش، وفقهاء الفضائيات، ورجال الأعمال، وناطحات السحاب في دبي، والمافيا السياسية والمالية، والفقر وامتهان الكرامة الإنسانية في كل مكان، مقابل الثراء الفاحش المبتذل والمريض في كل مكان أيضاً. وأصبح الإرهابيون ورجال القبائل مجاهدين في سبيل الحرية، وأصبح القتلة والمجرمون الطائفيون أبطالاً في مقاومة الاحتلال" .

وفي خلفية هذا المشهد جرى تغييب اللاعب الحقيقي، فالمواطن العربي صاحب المصلحة الحقيقية كان مجرد أداة يجري التلاعب به بل وسحقه في معمعان الصراع على السلطة، بين أنظمة ادعت الديمقراطية وأحزاب تغنت بالمقاومة، وكيان مغتصب يهيمن على كل شيء. والنتيجة كانت انسحاق الديمقراطية نفسها ما بين مطرقة الأنظمة والأصوليات من جهة، وبين سندان الغرب الذي اخترع مصلحات "الإسلاموفوبيا" و "الفوضى الخلاقة" من جهة ثانية، وهي المصطلحات التي ستكون عماد إستراتيجيته في المرحلة المقبلة.

ولهذا لم يكن مستغربا أن الثورات الشعبية العربية التي اندلعت في مستهل هذا العام 2011 أنها جرت خارج نطاق كل تلك الشعارات، أي خارج شعارات التحرير، والجهاد، وفسطاط الكفار والمؤمنين. وأنها رفعت عوضا عنها شعارات من نوع مختلف: لا للحاكم الأوحد الذي يبق مدى الحياة، لا لتوريث الحكم، لا لهيمنة الحزب الحاكم، لا لقانون الطوارئ، لا للفساد والتوزيع غير العادل للثروة، ولا لتكميم الأفواه. بمعنى آخر: حملت هذه الثورات مضامين ديمقراطية وتقدمية. دون أن يعني ذلك أنها فرطت بقضية فلسطين، أو تناست وجود عدوها المركزي، ولكنها على ما يبدو أرادت إعادة ترتيب الأولويات على نحو جديد، وبرؤية ومنهج مختلفين هذه المرة، وهذا هو مفتاح المستقبل.

مرحلة الغليان واشتعال الفكرة

في لحظات معينة تحت وطأة عوامل خارجية وبعد نضوج ظروفها الذاتية، تشعر فيها المجتمعات الإنسانية بحاجتها الجماعية لإعادة النظر في طريقة حياتها، وفي علاقتها بكل ما يحيط بها. وفي ضرورة صياغة أشكال جديدة في التعامل معها، وهي ما يمكن اعتبارها باللحظة التاريخية، التي تؤسس لأحداث حاسمة من بعدها، تؤدي إلى بزوغ حقبة تاريخية جديدة. الكاتب المصري "كمال حبيب" يسمي المرحلة التي تمر بها المنطقة العربية بمرحلة "المابعديات"، ويقول أننا نعيش زمن «ما بعد الحداثة»، ويعرف ما بعد الحداثة بأنها "تيار فلسفي ينقد فكر الحداثة الذي هيمن على العالم الغربي، ويبشر بسقوط النظريات الكبرى، ويفتح الباب أمام الأنساق الفكرية المفتوحة، ويركز على الهوامش الاجتماعية والسياسية، ولا يهتم بالتركيز على المتون. وهو تيار فلسفي أصبحت له آثار سياسية بالغة العمق." ويضيف بأننا نعيش أيضاًَ زمن «ما بعد الشيوعية»، وخصوصاً بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، ونهاية الحرب الباردة، ما يعني نهاية الأنظمة الشمولية إلى الأبد . ويعتبر أننا نعيش عصر العولمة، حيث تكشف الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن مدى تأثرها وتأثيرها على بعضها ليس على المستوى المحلي أو الإقليمي، بل على المستوى الكوني الكلي، بمعنى آخر ظهور مرحلة جديدة تسمى «العولمة» التي هم سماتها هيمنة التكنولوجيا وثورة الاتصالات والمعلوماتية، وعولمة المشكلات المحلية والإنسانية، وهذه هي اللحظة التي يطلق عليها الزمن العالمي. وبالتالي فإن الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها شعوب الأرض في هذه المرحلة ناجمة عن أزمات العولمة، وأن الثورات التي تخوضها الشعوب المظلومة تأتي في زمن العولمة، وبالتالي لا بد لها أن تفكر بطريقة العولمة وأن تستخدم أدواتها، أي بجملة واحدة عليها أن تقتحم الزمن العالمي.

الكاتب إبراهيم إبراش وصف حالة الأمة العربية في مرحلة ما قبل عصر الثورة، ويقول أن الشعب العربي كان يعيش حالة من الركود واللامبالاة واليأس، حتى أن بعض المراقبين اعتبروا هذا الوضع استمرارا للحالة العربية التي دخلت طور السكون منذ عصر المماليك، أي من أن خرج العرب من التاريخ وأصبحوا عالة على الحضارة الإنسانية. المتشائمين منهم كانوا يرون أن أقصى ما يمكن للعرب أن يقدموه للعالم، هو النفط لينفقوا مردوده على بذخ ملوكهم ورؤسائهم، وفي صفقات أسلحة ليست لها أي ضرورة، وفي بناء أجهزة أمنية وظيفتها قمع الشعب، أو أيدي عاملة رخيصة في الغرب، وحديثا أضيف لهم دور جديد هو الإرهاب الذي بات يضرب في كل بقاع الأرض بدون هدف مقنع، وبهذا المعنى يرى الكاتب أن العرب لم يستوعبوا مفردات العصر الحديث وبقوا خارجه، أخذوا من الديمقراطية شكلها وطبقوها بطريقة مشوهة، تأخروا كثيرا عن قطار العولمة والتكنولوجيا. وقد هيمنت في الأوساط الغربية وحتى العربية نفسها فكرة أن العرب لن يتغيروا إلا بوصاية قوة خارجية تسيرهم بالريموت كنترول.

اليوم انقلب المشهد كليا، إذ يمكن القول دون تردد أن الثورة التونسية كانت إشارة البدء لتدشين عصر الثورة العربية الحقيقية، الثورة التي تشعلها وتقودها الجماهير، متجاوزة لأي دور للنخب العسكرية أو الحزبية، تلك النخب التي لم تقدم في تاريخها سوى الانقلابات، التي غالباً ما كانت تتحول إلى نظم حكم مستبدة مارست الحكم من خلال قمع الجماهير والفساد ونهب موارد الدولة. هذا الدور الريادي للجماهير الشعبية يعني أن ظاهرة الثورة العربية نجحت في تغيير طبيعة الزمن العربي، الذي اتسم في المراحل السابقة بكونه سكونياً جامداً ويسوده التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، في مقابل الزمن العالمي الذي كان يتسم بالحيوية والتدفق والإيقاع السريع. فإذا كان الزمن العربي سابقا لا علاقة له بالزمن العالمي، فإن ثورة تونس ومن بعدها مصر وما تلاهما من حركات شعبية ثورية قد أحدثت قطيعة تاريخية كاملة مع الزمن السابق، الذي ظل جاثماً على صدور العرب وعقولهم عقوداً طويلة، وأنها دفعت بالعالم العربي إلى مجال الزمن العالمي بكل تدفقاته وحيويته، لتعلن نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد، تاريخ أصبح الشعب فيه سيد نفسه.

أي أن الأمة العربية تمر الآن بمرحلة تاريخية انتقالية على غاية الأهمية والخطورة، تخوض من خلالها صراعا حضاريا ومواجهة شاملة بين قوى متناقضة: قوى التغيير ضد القوى المسيطرة المحافظة، قوى الطبقات الشعبية ضد الاستغلال، قوى التحرر ضد قوى الكهنوت، وهي بهذه المواجهة الشاملة إنما تعبر عن عملية انتقال بين عصرين تاريخيين: مرحلة العصور الوسطى ومرحلة القرن الحادي والعشرين، وبهذا المعنى فهي تجاهد للانتقال من عصر الإقطاع والعشائر إلى عصر الدولة المدنية، ومن عصر الأنظمة الاستبدادية السلطانية وحكم الحزب الواحد والقائد الملهم إلى عصر الديمقراطية وتداول السلطة، ومن التخلف إلى الحداثة. عملية التشكل التاريخي التي تمر بها الأمة العربية بما فيها من تحولات جذرية أو بدايات في عمليات التحول، سيصيبها كل ما يصيب كل المجتمعات الإنسانية خلال مراحلها الانتقالية، بحيث تتميز بمظاهر الفوضى والعنف وحدية التناقض بين الأجيال، وبين الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة. وطبعا دون ضمانات لنجاح هذه العملية.

وهنا لا يمكننا الفصل ما بين انطلاقة هذه الثورات بمضامينها الديمقراطية وبين أزمة غياب الديمقراطية التي شهدها العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية. صحيح أن العديد من الأنظمة العربية قد شهدت بدايات تحول ديمقراطي، إلا أن هذه التحولات كانت شكلانية ولم تصب إلا القشرة الخارجية، ولم تؤد لإحداث تغييرات بنيوية في ثقافة واقتصاد المجتمعات العربية، ولم تنجح بإحداث قطيعة مع المرحلة السابقة، ذلك لأنها جاءت نتيجة ضغوطات خارجية، أو أنها كانت تعبيرا عن إرادة نخب معينة وجدت في الديمقراطية شكلا يمنحها بعض الشرعية، أو يعوض ما فقدته من شرعيات دستورية أو دينية أو ثورية، التي تآكلت بفعل الزمن، وبفعل ممارساتها التي أبعدتها عن الجماهير وتطلعاتها، أو كانت وسيلة للأنظمة لتطويعها بما يخدم مصالحها.

وثمة أسباب أخرى دفعت بهذه الأنظمة إلى تبني ما يشبه النهج الديمقراطي دون الإيمان به، خاصة بعد أن سقطت كل ذرائعها التقليدية برفض الديمقراطية وكبت الحريات تحت حجة التفرغ لمواجهة إسرائيل والتصدي للمؤامرات الغربية، وأهمها تزايد الوعي الشعبي بحقوقها ومطالبتها بالحرية، بعد أن أدركت حقيقة أوضاعها المتردية، ويعود الفضل في ذلك لما راكمته الحركات التقدمية والديمقراطية الحقيقية في سنوات نضالها، وللفضائيات وشبكات الانترنت وتقارير منظمات حقوق الإنسان. وقد تزامن ذلك مع مأزق الأنظمة وانكشافها أمام جماهيرها، ورغبتها بتجديد شرعيتها، مع تغيير واضح في إستراتيجية الولايات المتحدة التي تبنت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. بعد أن آمنت بأن الدعم المباشر للأنظمة الاستبدادية يضر بمصالحها في المنطقة، ويعمق من حجم كراهية الشعوب لها، ومن هنا رأت أهمية الدخول للمنطقة من بوابة أخرى، فبدأت بالحديث عن حق الشعوب في التعبير وبضرورة تسريع الانتقال نحو الديمقراطية، مع التركيز على الانتخابات.

هذه الديمقراطية الشكلانية التي جاءت تساوقا مع توجهات الغرب، جرى اختزالها بالعملية الانتخابية فقط، دون التركيز على جوهر الديمقراطية، وبالتالي كرست الانتخابات - التي كان يتم تزويرها - سيطرة الحزب الحاكم والرئيس الأبدي وأنتجت برلمانات بدون معارضة، وأعادت إنتاج نفس النخب المسيطرة، بل أنها كانت تؤدي إلى الفتنة والفوضى، وإلى تعزيز واستنهاض الطائفية والقبلية، وزيادة بؤس ومعاناة الشعب، وفي هذا تأكيد ومؤشر على انحراف الانتخابات عن وظيفتها، وعن ردة ديمقراطية. كانت بحد ذاتها أداة لوأد الديمقراطية وتهميش الديمقراطيين الحقيقيين، ووسيلة للتغطية على القضايا الكبرى للأمة.

انطلاقة عصر الثورات العربية

على ضوء التحليل السابق يمكننا المجازفة بالقول أن ثلاثة أسباب رئيسة كانت وراء اندلاع الثورات الشعبية في البلدان العربية، وهي باختصار: غياب الديمقراطية، والذي كان يعني سيطرة الحزب الواحد والرئيس المخلد الذي يورث الحكم لابنه من بعده، وانسداد الأفق السياسي الذي كان يحرم الجماهير من حقها في المشاركة السياسية، مع ممارسة القمع والتنكيل وتكميم الأفواه، وثاني الأسباب هو تردي الأوضاع العربية على نحو خطير في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان يعني انتشار البطالة والفقر والتخلف واتساع الهوة بين العالم العربي والعالم الخارجي حضاريا وتقنيا، السبب الثالث كان فساد الأنظمة وغياب العدالة الاجتماعية، بشكل غير مسبوق وغير محتمل، حيث نشأ تحالف طبقي حاكم دأب على امتصاص دماء وعرق الشعوب واستغلالها، في الوقت الذي كان ينهب ويسرق ويراكم الثروات، بينما الناس تتضور جوعا وقهرا.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، ألم يكن هذا الواقع قائما منذ زمن بعيد ؟! فلماذا تأخرت الشعوب العربية في التعبير عن رفضها لهذا الواقع الجائر ؟! وقبل الخوض في تفاصيل الإجابة، لا بد أن نتفق على أن الدول العربية وبالرغم من وجود العديد من السمات المشتركة فيما بينها، وتشابه ظروفها في ملامحها العامة، إلا أن لكل بلد خصوصيته وطابعه المميز والكثير من التفاصيل الصغيرة التي قد لا توجد بنفس القدر أو بنفس الكيفية في بلد آخر، وبالتالي من الخطأ أن نسقط نموذج ثورة ما في أي قطر عربي على أي قطر آخر، فإذا كانت العوامل التقليدية لاشتعال الثورة موجودة في أكثر الأقطار العربية، إلا أن الثورة كانت تحتاج عامل الزمن لتنضج ظرفها الذاتي والموضوعي.

الفقر والبطالة لوحدهما لا يشكلان دافعا للثورة، إلا إذا اقترن وجودهما بحالة من الوعي، أي عندما يحس الناس بفقرهم ويدركوا أن الفقر ليس قدرهم، وأن هناك من يستغلهم. فساد الطبقة الحاكمة لم يكن مكشوفا للجماهير بهذا الوضوح وعلى هذا النحو السافر والمستفز. الجماهير المغلوبة على أمرها كانت مأخوذة بشعارات التحرير والإعداد للمعركة، ومصدقةً لما يقال عن دول الصمود والمقاومة والممانعة والمؤامرات الخارجية، ومن كان غير مصدق لتلك الشعارات، وأراد أن يعبر عن ذلك، فإن سجون النظام وجلاوزته تكون له بالمرصاد. الديمقراطية وحقوق المواطنة كانت في نظر الكثيرين مجرد بضاعة غربية ولا تصلح للشعوب العربية، وهذه المفاهيم كان يتم تغذيتها على يد الأحزاب الشمولية والأنظمة الحاكمة. محطات التلفزة والإذاعة والصحف الرسمية - وهي الأشكال الوحيدة المتاحة للجمهور - كانت مقيدة ومرتهنة بأيدي النظام ومجرد بوق له.

ولكن بعد عقود طويلة من التزييف وإسكات صوت الناس وهضم حقوقهم، مياه كثيرة جرت تحت الجسر، وأحداث كثيرة جرت، ومتغيرات جذرية قلبت كل لموازين، وتغير العالم كليا، ولم تكن البلدان العربية بمعزل عن هذه المتغيرات، ولم يعد المشهد كما كان.
صحيح أن الأحزاب التقليدية والقوى الثورية لم يكن لها دور مباشر في انطلاق الثورات الشعبية، إلا أنه يجب أن لا ننسى أنه خلال العقود الماضية خاضت تلك القوى نضالا مريرا ضد أنظمة الاستبداد، ربما لم تكن الديمقراطية عنوانها الأبرز، ولم تكن الانتخابات وسيلتها المعتمدة لمقارعة السلطة الحاكمة ولاختبار مكانتها الجماهيرية، ولكن نضالها كان يصب في جوهر الديمقراطية، لأنه كان من أجل الحرية وضد الاستبداد، فقد قامت بالمظاهرات والاعتصامات وحملت السلاح أحيانا ودخل الكثير من أبنائها السجون وقدمت شهداءها، ورغم أنها لم تحرز نصرا، إلا أنها راكمت إنجازات مهمة وساهمت في إثارة الرأي العام وخلقت حالة من الغضب والوعي الجماهيري، ودفعت بتضحياتها الأنظمة للاقتراب أكثر من مأزقها ولمواجهة أزمتها التاريخية.

ولا شك أن ثورة المعلوماتية وتقنيات التواصل الحديثة وانتشار الفضائيات وشبكات الإنترنت والمدونات وغيرها قد سهلت الأمر على الشعب وعلى المناضلين، للتواصل على نحو أسرع وأوسع بعيدا عن رقابة السلطة وأجهزتها الأمنية، ومن ناحية ثانية ساهمت في تعميق الوعي السياسي وإدراك ما يدور من حولها في العالم، وإدراك حقوقها، وحقيقة أنظمتها التي بدأت تتكشف فضائحها شيئا فشيئا. ومع تراكم الكم كان لا بد من حصول تغيير نوعي في الكيف، بمعنى أنه مع تفاقم الأوضاع وتدهورها على كافة الأصعدة، وزيادة الوعي الجماهيري وتراكم غضبها وسخطها، وضعف القبضة البوليسية للأنظمة نتيجة تكشف عوراتها وظهور آثار ضعفها وانحلالها وشيخوختها، كان من الحتمي أن يكون الانفجار بعد أن بلغت الأمور مداها ونضجت كافة ظروفها.

ومع انطلاقة الثورات الشعبية بدءً من تونس وامتدادها في الأرض العربية، يتكرر السيناريو . حيث تتصرف الأنظمة بنفس الأسلوب بالفجور والعنف وقتل المتظاهرين، وتوجيه الاتهام للمتآمرين والخونة الذين يريدون النيل من صمود البلد وتقويض سلمه الأهلي !! وأن هناك أيدي خارجية ومؤامرة دولية .. ثم تتصاعد الاحتجاجات، ويؤدى مزيد من القتل إلى تضاعف الثورة، فتستخدم الدولة قدرا أكبر من القوة، وهكذا حتى نصل إلى حد اللاعودة، ثم يطل الرئيس ليعلن عن مبادرة للحل وعن فهمه المتأخر لمطالب الشعب، وبسبب فقدان الشعب ثقته بالنظام وبكل مخلفاته تُرفض المبادرة، وهكذا يجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مُر، هل يستمر في الحرب وبالتالي يعرّض بلده لخطر الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، أم يخضع للضغوط ويترك الحكم كارها، وفى كل الحالات يتعين عليه مواجهة مصير مجهول، لأنه بمجرد أن أمر بفتح النار على المتظاهرين فقد أوصل نفسه إلى هذه النهاية المفجعة.

سمات الثورات الشعبية العربية

1. الطابع السلمي:
شكلت الثورات الشعبية العربية نقلة نوعية في أسلوب وتكتيكات الجماهير المطالبة بحقوقها، إذ أنه منذ العصور القديمة ارتبط مفهوم الثورة بالعنف والدماء، سواء من جانب الجموع الثائرة، أم من جانب السلطة الحاكمة، لكننا اليوم نشهد شكلا جديدا للثورات العربية، بعيدا عن أسلوب الانقلابات العسكرية، وبعيدا أيضا عن عنف الثوار تجاه السلطة – باستثناء ليبيا - فعلى ما يبدو أن الجماهير العربية اختارت هذا الأسلوب الراقي بعد أن أيقنت أن الثورة السلمية أجدى من العنف العبثي الذي مارسته جماعات الإسلام السياسي، حيث مرت على المنطقة فترة عصيبة عانت خلالها من دوامة العنف ودوائره المغلقة بين السلطة ومعارضيها، كانت نتيجته مقتل الآلاف من المواطنين وتدمير البنية التحتية، وإثارة الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وتشويه صورة العرب والمسلمين، ومنح الغرب الذريعة والمبرر ليعيد هيمنته على المنطقة، وفي مقالته اعتبر الكاتب "إبراهيم إبراش" أن هذا العنف المدمر بدلا من أن يؤدي للتخلص من الأنظمة القائمة، أدى لتشديد قبضتها الأمنية، وإرجاع الأمة سنوات للوراء. أما خروج الجماهير اليوم بطريقة سلمية وحضارية فقد أسقط أنظمة خلال شهر واحد، وأكد أن قوة الشعب تكمن في إجماعه على أهداف واضحة وقابلة للتحقيق، وفي قوة تنظيمه، وفي الطابع السلمي والحضاري لتحركه. وبيّن أن الشعب العربي ليس مجرد جموع تهيمن عليها النـزعة الدموية والتخريبية، بل هو شعب يمكنه التصرف بحضارة .

2. المحتوى الديمقراطي:
دلت مجريات الأحداث أثناء الثورة وبعدها أن الجماهير المحتشدة في الساحات والميادين في المدن العربية هم في أغلبهم من الجيل الصاعد، ومن خارج التنظيمات السياسية، وأن مطالبهم واضحة ومحددة، جوهرها لا يدور حول أيديولوجية تدعي أنها الأفضل، كما لا تدور حول سلطة تريد الحلول مكان سلطة أخرى. صحيح أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو بحد ذاته عمل سياسي، إلا أن السياسة بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه كانت شبه غائبة عن أجواء الثورات الشعبية، فلم يحرق المتظاهرون علما لأي دولة معادية كما جرت العادة في المظاهرات التي كانت تشارك بها دعما للفلسطينيين وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي أو بالاحتلال الأمريكي، فقضايا السياسة الخارجية لم تكن ضمن أولويات المتظاهرين، ولم تكن سببا في إسقاط الأنظمة. إذ كانت مطالب الثورة وشعاراتها في إطار المطالبة بإسقاط النظام لأنه جرَّ على البلاد الخراب والفقر ولأنه نظام فاسد، وحتى في الحالات التي لا تطالب بإسقاط النظام بل بإصلاحه، فإن مطالب الجماهير هي حصولها على حقوق المواطنة الكاملة، بكل ما يعني هذا من حق التعبير وحق المشاركة السياسية وتداول السلطة ومحاربة الفساد وتوفير فرص العمل والتعليم والمساواة والعدالة الاجتماعية .. وهي كلها مضامين النظام الديمقراطي.

3. الطابع الشعبي الحضاري:
لا يخفى على أي مراقب أن كافة فئات وشرائح المجتمع قد انخرطت في فعاليات الثورة منذ يومها الأول، صحيح أن فئة الشباب كان لها حضورا مميزا، إلا أن كافة أبناء الشعب كان لهم دورا هاما، وقد اختفت النـزعات الطائفية والقبلية والمناطقية، وحلت محلها روح التوحد والوحدة، وهذه المرة الأولى في التاريخ الحديث يمثل الشعب العربي نفسه بنفسه، ساحباً البساط من تحت أقدام أولئك الذين حكموه طوال عقود، والملفت للنظر في هذا المشهد الفريد هو نبذ مبدأ التراتبية ( المبدأ المؤسس للاستبداد والفاشية ) في تنظيم فعاليات الثورة. حيث لم تظهر قيادات ذات شخصية كاريزمية. واختفى الناطق الرسمي والقائد التاريخي، وأسقطت فكرة التبعية لمرجع موجِّه سواء كان حزبا أو مؤسسة دينية، بمعنى آخر التخلص من الأبوية التي هيمنت على الثقافة والتربية العربية منذ زمن سحيق، ليظهر محلها مرجعية أخرى تستمد شرعيتها من روح الفريق والعمل المشترك، ومن روحية علاقات وتجمعات جديدة قائمة على الحوار الحر الواسع النطاق عبر قنوات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية. وهذا ما يمهد جدّياً لاستقلال المجتمع المدني، ورفض أي حكم شمولي بعد اليوم. بمعنى آخر فإن هذه الثورات الشعبية بأسلوبها الجديد تقترح عتبة جديدة للتاريخ، تطيح أولاً بفكرة الطاعة العمياء لأولي الأمر لصالح فكرة الحرية المسؤولة، وبفكرة الراعي الصالح والرعية التابعة الخاضعة، لصالح فكرة المواطنة الكاملة. وبفكرة الاستئثار بالسلطة لصالح تداولهما الحر. وبهذا يمتزج الشباب العربي بروح العصر، وطالما أن الديمقراطية وحقوق المواطنة واحترام حقوق الإنسان وحرياته من الشعارات الأساسية للعولمة، فمعنى ذلك أن الثورات الشعبية العربية، قد نحّت الزمن العربي جانباً والتحقت بالزمن العالمي.

4. غياب الأحزاب:
كان الغياب المدوي للأحزاب التقليدية واضحا، ولكنه ليس محيرا، لأن منطق التاريخ يخبرنا بأن الجماهير الشعبية كعادتها، تكون هي السباقة في خلق الحدث، وغالبا ما تكون متقدمة على قياداتها. الأحزاب لها حساباتها وتحالفاتها وفهمها للمعادلات السياسية وتقييمها لموازين القوى، وقراراتها تخضع لرؤية الأمين العام أو القائد والمرشد ... أما الجماهير الشعبية فلها حدسها السياسي الذي لا يعبأ بالحسابات، وإحساسها بكرامتها وإدراكها لمصالحها، ومتى ما حانت لحظة الانفجار تهب بجموعها الغفيرة غير آبهة بالنتائج، دون أن تنتظر موافقة أحد، وهي ككرة الثلج تبدأ بمجموعات ريادية صغيرة ما تلبث حتى تكبر وتجمع أعدادا متزايدة أكثر فأكثر، إلى أن يلتف كل الشعب من حولها. ولكن غياب الأحزاب السياسية في لحظة الانفجار أو في تسيير دفة القيادة لا يعني أنها غير موجودة وغير مؤثرة، ولا يلغي إنجازاتها وتضحياتها التي كان لها أثرا هاما في خلق حالة الوعي السياسي لدى الجماهير المنتفضة وفي تحريضها على الخروج.

ولما كانت أهداف وشعارات الثورات الشعبية ذات محتوى ديمقراطي تقدمي بدون أي مضامين أيديولوجية، فإن هذا يعني أنها جاءت استمرارا لنضالات الأحزاب والقوى الوطنية التقدمية في العقود الماضية، رغم أنها فاجأتها بسرعتها وبقوة هديرها، ويعني أيضا أنها جاءت على خلاف ما تريد وترغب حركات الإسلام السياسي، وربما غير متصالحة مع منطلقاتها ومبادئها، وقد تكون متفقة معها على هدف إسقاط النظام. فحركات الإسلام السياسي لم تكن في السابق جزءا من الحركة النضالية الشعبية التقدمية والديمقراطية المتصادمة مع الأنظمة العربية. حيث أن بعضها كان متحالفا مع الأنظمة ومتعايشا معها، وبعضها الآخر خاض صراعا مسلحا ضدها، ولكن هذا الصراع لا يندرج ضمن النضال الديمقراطي، بل كان أقرب لمحاولات الانقلاب على السلطة للهيمنة عليها وتطبيق إيديولوجيتها، والتي هي أساسا متعارضة مع الديمقراطية وتنظر إليها بريبة، ولها مفاهيمها الخاصة والمختلفة مع القوى الوطنية في مواضيع القومية والهوية والمواطنة والحريات العامة وطبيعة نظام الحكم.

5. إمكانيات التغيير وآفاق المستقبل:
ليس بالإمكان الإدعاء أن الثورات الشعبية ستأتي أُكلها عمّا قريب، وأنها ستصيب كل أهدافها المعلنة، وأنه بمجرد أن نجحت بإسقاط بعض الأنظمة تكون طريق التغيير قد فتحت أمامها بدون عناء ومن غير خسارات. ذلك أنه هنالك العديد من الأسئلة المربكة والمحيرة لم تتم الإجابة عليها، وهناك احتمالات مقلقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار. كل الثورات والانعطافات الكبرى في تاريخ الشعوب احتاجت إلى بعض الوقت كي تحقق غاياتها. وغالباً ما كانت تحدث ردة أو انتكاسات وفوضى قبل أن يستقر الأمر في النهاية لصالح قوى الثورة. وليس صحيحا أن التغييرات الجذرية تحدث فورا بعد الثورات الكبرى، أو من خلال الانقلابات الدموية، فالثورة في التاريخ الإنساني لم تقتصر على هذا الشكل من التغيير، بل إن أهم التغيرات التاريخية حدثت من خلال تراكم تغييرات هادئة عبر سنوات طويلة، لتؤسس لتغيرات عميقة فيما بعد، بَـيْد أنه علينا التأكيد بأن التغيير قد حصل فعلاً، أو بكلمة أخرى قد بدأ فعلا، وأنه من المستبعد، العودة إلى حالة ما قبل العام 2011. وأهم معطى لهذه الثورات، هو أنها جعلت العرب يستعيدون الثقة بأنفسهم مرة أخرى، لينـزعوا عنهم، رداء اليأس والإحباط، وليفكروا بجدّية بمشروع المستقبل، وليحلموا بحياة حرة كريمة.

10 نيسان 2011


الهوامش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق