أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 01، 2011

من الهواء المقنع إلى القوقعة - يوميات سجين عربي

في نهاية الثمانينات وقبل أن أدخل المعتقل، قرأت رائعة الشاعر الراحل "محمد القيسي" والتي حملت عنوانا غريبا: "الهواء المقنع"، وهي عمل أدبي في منتهى الروعة جسّد فيها الكاتب قصة القائد الفلسطيني "أبوعلي شاهين" في المعتقلات الإسرائيلية على امتداد خمسة عشر عاما بالتمام والكمال، وقد أبدع القيسي في وصف معاناة وصمود أبو علي شاهين الذي مثّل رمزا لآلام وتضحيات الأسرى الفلسطينيين، وكان طوال فترة أسرِه نموذجاً فذاً لشخصية تحطمت على عظامها هراوات السجان، ولم تتحطم روحها، فقد كان بطل القصة ممثلاً لجيل كامل ولمرحلة تاريخية بالغة الأهمية والتأثير شهدت انكسار الحلم العربي في حزيران، وصعود الأمل الفلسطيني في ثورة المستحيل.

وقد ظللت الصورة التي جسدها "شاهين" ورفاقه ماثلة في مخيلتي في السجن وسكنَتْ وجداني بعده طويلا، إلى أن أتيحت لي فرصة الاستماع لتفاصيل التجربة القاسية من صاحبها،
 وعرفت حينها معنى "الهواء المقنع"، إذ قادت غطرسة وعنجهية الاحتلال إلى وضع الأسرى في معتقل "نفحة" الصحراوي الذي لا تتوفر فيها أبسط الحاجات البشرية وهي الهواء، الأمر الذي كان يدفع بالأسرى للانبطاح أرضا والالتصاق ببلاط السجن - خصوصا وقت الظهيرة عند ارتفاع درجات الحرارة إلى حد اللامعقول - بهدف التقاط الأوكسجين الذي يظل قريبا من سطح الأرض بسبب كثافته، ولنا أن نتخيل معاناة الأسير عندما يعـزُّ الأوكسجين ويصبح التقاطه عملية تتطلب الكثير من المشقة والضنك.

بعد خروجي من المعتقل صرت شغوفا بقراءة كل ما يتصل بمعاناة المعتقلين، ليس فقط في سجون الاحتلال بل أينما كانت هناك معاناة وقهر، ولعل من أروع وأفظع ما قرأت، معاناة سجين سياسي في أحد السجون العربية جسّدها الأديب العربي الراحل "عبد الرحمن منيف" في كتابه "الآن •• وهنا" والذي يعتبر نسخة منقحة ومطولة لروايته السابقة "شرق المتوسط" التي صدرت في بدايات السبعينات، في كلتا الروايتين يصور "منيف" مشاهد مرعبة ومقززة للسجون السياسية في عالمنا العربي. وعن هذه الرواية كتب الأديب سعد الله ونوس: "حين فرغت من الرواية، أحسست حلقي جافاً وغمرني شعور مذهل بالعار".

ولكن الشعور بالصدمة يتولد عندما تقرأ رواية حقيقية تجسد قصة واقعية لأحد الناجين من المعتقلات، بأشخاصها وأحداثها وزمانها، فتعيش في أجوائها المرعبة، وتتخيل أن كل سطر في الرواية يعادل سوطا على جلد كاتبها، ومع نهاية كل فصل يكون بطل الرواية أو أحد رفاقه قد خسر نتفا من لحمه على جدران السجون، بالمعنى الحقيقية لا المجازي للكلمة، كما فعل الكاتب والمخرج السوري "مصطفى خليفة" في رواية "القوقعة"، والكاتبة المغربية "مليكة" في رواية "السجينة"، التي حاولت من خلالها أن تروي قصة عقدين من الألم والعذاب لأسرتها في سجون النظام .

إذْ لم يشفع للجنرال المغربي "أوفقير"، علاقته الوطيدة بالملك، ودوره الخفي في اختفاء المهدي بن بركة قائد المعارضة المغربية في أواسط الستينات، حيث أن المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 1972 أدت به وبأسرته إلى نهاية مفجعة، فقُتل في ظروف غامضة فيما ادعت الرواية الرسمية أنه انتحر بخمسة طلقات !! بينما تروي لنا "مليكة" ابنته الكبرى قصة معاناة أسرتها في المعتقل بعد مقتل أبيها والتي استمرت قرابة العشرين عاما، إذ اعتقلت السلطات المغربية الأسرة بكاملها، الأم مع ستة من أطفالها أكبرهم في التاسعة عشر، بينما لم يتجاوز عمر أصغرهم العامين، وقد رافقتهم في تلك الرحلة البائسة اثنتان من مرافقاتهم المخلصات، الرواية حملت في طياتها الكثير من مشاهد الرعب والعذاب الذي رأى فيه البعض مبالغة كبيرة وتضخيما مفتعلا بهدف الإثارة، ولكن من يطلع على واقع السجون العربية يدرك أن ما خطته "مليكة" في روايتها وتجربتها القاسية في السجن ما هي إلا مجرد نزهة مقارنة بما حدث ويحدث في أغلب المعتقلات العربية.

أما الفاجعة الكبرى والمفاجئات الصادمة فقد دوّنها المخرج السوري "خليفة" في يومياته التي عاشها في السجون السورية لمدة ثلاثة عشر عاما دون أن يعرف تهمته، والتي حملت عنوان "القوقعة"، سَرَد فيها ما جرى معه من أحداث حقيقية بأدق تفاصيلها الواقعية، ووصف واقعا أليما ظل مجهولا لعموم الناس يتجاوز ببشاعته وخسته كل ما خطر على بال الشيطان من خيال مريض ومن حقد دفين عبّر عنه سجانو النظام السوري وجلاوزته في عقد الثمانينات تجاه خصومهم السياسيين في مرحلة من أسوأ المراحل التي شهدتها سوريا، منذ أن زرعت بيوت دمشق ورد الجوري قبل آلاف السنين، وحتى تتخلص من آخر حثالات البشر وتعود دولة طبيعية تحترم آدمية الإنسان.

ولعل من بين أشد القصص التي رواها قسوة قصة الأب الذي أعدمت السلطات أولاده الثلاثة أمامه، حيث أن سابقة اعتقال الأسرة بكاملها تتكرر على نحو أكثر خسة في رواية "القوقعة"، ولكنها قصة تفطر القلب وتثير الغثيان، فقد اعتقلت السلطات شيخ سبعيني مع أبناءه الثلاث، ثم أخبروه أنهم سيعدمون ثلاثة من هذه العائلة وعليه أن يختار من يبقَ، فاختار الأب أصغرهم لأنه لم يرى شيئا من الحياة بعد وأمامه مستقبل طويل، ولكن لسبب ما وحتما يرتبط بأحد أسوأ الأمراض النفسية اختار الجلادون الأولاد الثلاث وأبقوا على الأب ليشهد إعدامهم ويشرب حسرتهم.

إن ما جاء على لسان " شاهين" و "مليكا" و "خليفة" و "منيف" وغيرهم في رواياتهم عن واقع السجون وانتهاك الحريات واغتصاب آدمية الإنسان في عالمنا العربي يعتبر شأناً عاما يمسّنا جميعا، فكل مواطن على امتداد الوطن العربي معرض لأن يصبح يوما ما جزءا من ذلك الواقع المرير البشع، طالما أمعن المجتمع في تجاهله وإنكاره أو عدم تصديق حيثياته، فهذه الروايات لا تروي أحداثا جرت في كوكب آخر، وشخوصها ليسوا أشباحا، وإنما هم وبكل أسف جزء من الواقع العربي، الذي صار مع الأيام والجهل والاستبداد واقعا مخيفا ومقززا. صحيح أنّ تمثُّل معاناة الأسير وتقمص دوره و الإحساس بمدى ألمه مسألة ليست هينة، ينجح فيها أكثر من اختبر تجربة السجن، ولكن هذا لا يمنع أي إنسان من معرفة هذا العالم المجهول، ومعرفة الأهوال التي تجري في سراديبه وزنازينه.

وفي هذا الصدد ليس مهما إجراء أي مقارنة بين سجون الاحتلال الإسرائيلي في تجربة "أبوعلي شاهين"، وبين أي سجن آخر سواء في عالمنا العربي أم خارجه، فالإنسان هو الإنسان والسجان هو السجان، وبينهما حالة من العداء والتناقض، وفي كل سجن هناك مئات القصص التي فيها من القسوة والمرارة الشيء الكثير، بحيث تصبح كل رواية منها مواجهة سياسية كاملة مع النظام، سواء أكان النظام احتلالا إسرائيليا يستولي على أراضي الغير، أم كان نظاما "وطنيا" يقسم مساحة الوطن ويقطعه إلى دوائر صغيرة، بعضها لمن هو مرغوب، والبعض الآخر لمن هو مرفوض. وويلٌ فيه للمرفوضين.

في المعتقل تتجلى لحظات الصدام بين الإنسان وسجنه. وحيث يمثل السجن الصورة البشعة للنظام، ويصبح كل نَفَسٍ للسجين عبارة عن برنامج مقاومة كامل، وتصبح كل ساعة يمضيها جهادا لمنع ذاكرته من النسيان، وتجسيداً لحقيقة وجوده ضد الغياب، وصمودا أسطوريا للروح ضد محاولات صهرها وإذابتها، وضد محاولات السجان لتغيير ملامحها وتشويه شكلها الإنساني المعهود، ولسلخ الإنسان فيه عن علاقته بالمكان والزمان اللذان كان ينتمي إليهما قبل أن تتصاعد محاولات خنقه وتغييبه، وقتل فكرة التمرد والرفض فيه، في هذا الجانب من حياة السجين، حيث يواجه محاولات السجان لإسقاطه في حضيض الذل والاستسلام، من خلال خلق لغة تهبط في دونيتها وخستها مرتبة دون مستوى الوحوش، وحصره في زوايا من الهوان والقهر المطلق، يظل الأسير متحفزا في سعيه الدؤوب للخروج من هذا الاختناق، ومد جسور وجَعِهِ مع العالم، لكي يرى كل الناس جرحه النازف، هناك في السجن امتحان الإنسان القاسي وحصوله على أول علامة تنكسر فيها علاقته بالوطن.

يظن البعض أن هذه الروايات وما تضمنته من أساليب مروعة من القمع والتعذيب، ما هي إلا أسلوب رمزي فني، أبدع فيه المؤلفون وأطلقوا العنان لخيالهم، ولكن الحقيقة تظل أكثر بشاعة من كل ما كُتب، ومهما تعاطفنا مع شخوصها فلن يخفف ذلك من لسعات السياط على ظهورهم، ولا من إهانات الجند لهم، ولكنها تظل شاهدة على فجور النظام العربي وانحطاط أخلاقه وغياب حقوق الإنسان فيه وامتهان كرامته، ودليلا على بشاعة المشهد داخل وخارج السجن، فهذا الكم الهائل من التعذيب والعذاب لم يحد من حالة التمرد، بل أخرج كل ما هو مرعب ومخيف: "العنف والعنف المضاد" الذي أصبح عنوان المرحلة وشيطانها، وجنونها العاصف الذي سيدمر كل شيء.
في هذه المطالعة سأركز على رواية واحدة هي "القوقعة"، قد يكون السبب في ذلك أنها آخر ما قرأت، أو أنها أفظع ما قرأت، أو لأنها لم توزع على نطاق واسع في البلدان العربية، فأحببت أن أنقل هذه الشهادة الحية، مع تذكر واحترام كل آلام ومعاناة الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية والعربية على حد سواء.

لم يكن "خليفة" المخرج السينمائي الواعد إلا حالة واحدة للكثير من الشبان العرب الذين حلموا بالتغيير وانكسروا عند حدود الوطن، فكل أحلامه ومشاريعه التي فضلها على محبوبته الباريسية تحطمت في لحظة واحدة عند تخوم الفاجعة والصحوة المؤلمة، التي جسدتها أجهزة النظام الأمنية، فبدلا من أن يرسم تصوراته عند بوابة الوطن، فاجأه الجلاد "أبو رمزت" بفلقة مهينة، كانت مدخله البائس إلى عالمه الجديد الذي سيعيشه بكل قسوته وفظاعته.

ولكن الفاجعة الكبرى التي كسرت زمن "خليفة" وأطاحت بأحلامه ودفنت أجزاء عزيزة من إنسانيته، لا تكمن فقط في السجن والخوف والعذاب والسياط والبرد والجوع والجرب وكل أشكال الامتهان، بل في سنوات طويلة عاشها منبوذا محتقرا ممن هم معه في نفس السجن ويقاسون نفس المعاناة، والسبب في ذلك أن حظه العاثر قاده لأن يُسجن مع مجموعة من المتشددين الإسلاميين الذين حاربوه وعزلوه وهددوه بالقتل مرات عديدة، لأنه "مسيحي وملحد"، ولكن "خليفة" المخرج والفنان والمرهف أدرك أن السجن قد ينتصر عليه ويهشم كل ما هو جميل في داخله، فجاهد بكل قوته ليحول دون ذلك، فعزل عقله عن واقعه وعاش عالمه الخاص، ولأنه لم يحمل قلما طوال سنين سجنه فقد ظل يخـزّن في ذاكرته يومياته أولاً بأول، ويدوّن عليها آلامه وأحلامه في محاولة منه للتغلب على جبروت السجان والحيلولة دون الانهيار النفسي، أو احتراق صفحات حياته بلا مقابل، وقد ظل مؤمنا بأن الكتابة هي فعل حضاري وشاهد تاريخي على المرحلة، ولأنها تبقى الذاكرة التي لا تقهر، لهذا كتب روايته كمخطوطة بعد تحرره، وأراد لها أن تمزق جدار الصمت، وتعلن الفضيحة على الملأ.

بعد قراءة الرواية لا بد أن تثور الأسئلة: كيف سنعيش حياتنا اليومية بجانب هذا الرعب الذي يبعد عنا أمتار قليلة ؟ وأي جدار سميك سيحجب عن آذاننا صرخات المقهورين وأنينهم ؟ وأي مجد زائف وأي انتصار وهمي وأي ديمقراطية كاذبة تتيح لنا أن نتناسى آلاف الأسرى والمعتقلين، ممن تسفك أيامهم على عتبات السجون، وتذوي أجسامهم دون أن تتاح لهم فرصة تقبيل أطفالهم، أو توديع أمهاتهم اللواتي متن شوقا وانتظارا، هذا عار يصل حد التواطؤ. عار علينا لأن سلبيتنا هي التي غزلت للجلاد سياطه، وصمتنا هو الذي بنا سور السجن.

لقد كان "خليفة" واحدا من ضمن عشرات الآلاف ممن أمضوا شطرا من حياتهم أو جلها في غياهب السجون، ولأِن تحدثت تجربته الشخصية عن جوانب معينة من مرحلة فظيعة عاشتها سورية، فقد شاركه نفس الآلام وربما أكثر منها معتقلون إسلاميون وشيوعيون وعرفاتيون، صبية وشيوخ، عمال وفلاحين وأطباء ومهندسين ومفكرين وأميين، كان أكثرهم من جماعة الإخوان المسلمين، الذين خاضوا معركة كسر عظم مع النظام السوري، ومهما كانت أسباب الخلاف فإن لا شيء يبرر تلك القسوة والسادية التي تعامل بها السجانون مع المعتقلين. فقد كان ممنوعا على المعتقلين الصلاة أو قراءة القرآن الكريم، حمل أي ورقة أو قلم، أو قراءة كتاب، حتى الجريدة كانت ممنوعة، وكذلك التلفاز والراديو، العلاج، الرياضة، غسل الأسنان، إخراج النفايات خارج المهجع، الطعام كان رغيف واحد في اليوم وأحيانا أقل من ذلك، لا زيارة للصليب الأحمر أو حتى الأهل، المرة الوحيدة التي سمح فيها الزيارات كانت نوعا من الفساد، إذْ كانت تتطلب زيارة الأهل تقديم كيلوغرام كامل من الذهب الخالص لزوجة مدير السجن، ويؤكد المساجين أن مجموع ما تلقاه مدير السجن من رشاوى بلغ 665 كيلو غرام من الذهب !!

يصف الكاتب السجن الذي استقبله أول مرة فيقول: "ضم هذا السجن بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، وكان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، ولم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً - أية ورقة أو قلم". ويضيف في موقع آخر: " كان عدد أفراد دفعتنا 91 شخصاً، قُتل منهم ثلاثة في الساعة الأولى أثناء الاستقبال، وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي والتي دامت بضعة أيام مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة من جراء التعذيب، واثنان من نفس الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه".

ولكن الرواية لا تتحدث عن أساليب التعذيب فقط، بل تصف كيف يعمل النظام على قتل الإنسان في نفس السجان وكيف يتحول خلال مدة قصيرة إلى جلاد عديم الشفقة، ويذكر حالتين في هذا السياق، الأولى عن فئة من المسجونين يطلق عليهم تسمية "البلديات" كانت إدارة السجن تستخدمهم في تعذيب المعتقلين السياسيين، وهم حسب وصف الكاتب: "سجناء، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، والسياسة لا تعني لهم شيئا ... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة ؟!، كنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! كان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها !! الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا ؟ لماذا هو لئيم بهذا القدر؟ ما هي دوافعه النفسية ؟ هل القسوة والسادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى ؟ أم هي روح القطيع ؟!".

الحالة الثانية يجسدها أحد المجندين وكان يشبه شقيق الكاتب واسمه سامر، ما يعني أنه من المفترض أن يكون إنسانا طبيعيا، وهو بالفعل كان في البداية كذلك، إذ يصف الكاتب التحول في شخصيته قائلا: "فعندما شاهد أول عملية إعدام لم يتمالك نفسه وراح يتقيأ بشدة، حتى كاد أن يخرج أمعاءه، وقد غطى عينيه بيديه حتى لا يرى الإعدامات، ولكن في آخر حفلة إعدام حضرها كان نشيطاً جداَ، بيده عصا طويلة، يمازح زملائه وعلى وجهه ابتسامة دائمة، عند الانتهاء من آخر وجبة إعدام وقف أمام أحد المشنوقين وأخذ يؤرجحه، وضع العصا على الأرض آخذاً وضعية الملاكم جاعلاً من الجثة المعلقة كيس رمل، أخذ يوجه لها اللكمات، صاح شوف هـَ الكلب ... صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسه ما مات !!".

أما عن غياب القانون والاستهتار بحقوق الإنسان وانعدام المحاكمات العادلة فيصف حالة تدل على نوعية العقلية التي كانت تتحكم بمقاليد الأمور وعلى حجم الفساد المستشري في المؤسسة الأمنية، يقول الكاتب: " دخل مدير السجن، أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية. ركبني الفضول ونظرت بزاوية عيني خلسة إلى المقدم. رأيته، شاب ثلاثيني، مشيته فيها الكثير من التوتر، وكذلك كلامه، يتكلم وكأنه يحادث نفسه بعبارات لم أستطع فهمها أو الربط بينها:
أنا.. أنا أتهدد !! .. سأحولها إلى جهنم ... شعرة واحدة يروح ألف مجرم مقابلها .. ثم صاح بصوت شديد الاحتقان: ولا كلاب .. مجرمين.. انتو لسه ما بتعرفوني منيح .. والله لادبحكن دبح الغنم. بعدها صاح بمجموعة من السجناء، وانطلق صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشتُ على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب. كان هناك أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل ما يحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، وقف واحد من فرقة الفدائيين، وقرأ ورقة كتب عليها: مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداً ! إذا مست شعرة من رأسي أو رأس شخص يخصني سيكون المقابل مائة، إذا حصل أذى أو مات أحد من أقربائي فإنني لن أبقي على أحد حياً !!. ولم يرد بعدها أي تهديد".

أما عن المحاكمات - إذا صحت تسميتها بهذا الاسم – فيصف الكاتب المشهد: "تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:
- شو .. لساتوا ميبس راسه ؟!
- لا سيدي .. اعترف بكل شي.
- إعدام .. طالعوه لبرّه.

أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، أغلب السجناء لا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم.كانت الإعدامات تتم كل اثنين وخميس .. ثمان مشانق منصوبة وجاهزة، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض حتى لا يهتفون قبيل موتهم (ألله أكبر) " !!!"

أما عن مجزرة سجن تدمر وهي معروفة، فيروي الكاتب على لسان أحد الناجين: "كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً، جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع ".

ومن بين القصص التي تدل على مدى سادية وهمجية السجان، كتب "خليفة": "منذ أكثر من سنة وخلال فترة تنفس أحد المهاجع، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري، معست الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة، ابتلع السجين الفأرة !! منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره "إبداعه" عائد لأول رقيب قام بهذا العمل".

وعن إحدى حفلات التعذيب يروي الكاتب ما حدث ليلة رأس السنة وهي بالطبع تأتي في أشد أيام السنة برودة: "بلّلونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وبأيدهم الكرابيج والعصي، بدأ المساعد خطبة طويلة، ثلاثة أرباعها شتائم، صوت اصطكاك الأسنان مسموع بشكل واضح الجميع يرتجف برداً، أنا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً، ثم صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، الخدر يزداد وينتشر، الألم يتعمم ويتعمق، تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف، يسقط أحدهم قبلي، وينطلق بضعة عناصر ويجرون السجين الذي سقط إلى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء، تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه، يسقط آخر ... يجر إلى حيث التدفئة والضرب، وآخر ... وآخر .. لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي ... لكن أن تُجلد بالسياط في البرد وأنت مبلل ... أمر لا يمكن وصفه، وقبل الصباح كان ثلاثة منا قد ماتوا في هذه الحفلة" .

لن أصف المزيد من حفلات التعذيب، وأعتذر للقراء عن ساديتي في الكتابة، ولكن ما حـدث مع "خـليفة" ورفـاقه – الذين قاطعوه ونبذوه – حدث ويحدث في معظم سجون الأنظمة الشمولية في العالم العربي وخارجه، ومن حق هؤلاء المعذبين أن نعرف حجم آلامهم، وعدد السياط التي كوت ظهورهم، ونوعية الإهانات التي هشمت دواخلهم، وأسماء من قضوا منهم، وأن نمسح دمعة أطفالهم، من حقهم علينا أن نصرخ عاليا بدلا عنهم، لأن أفواههم مكممة .. ونحن من المفترض أننا أحرار .. ونعيش في القرن الحادي والعشرين !!!!!!!
من حقهم علينا أن نجعل على رأس أولويات ثوراتنا الشعبية - التي بدأت تكنس بعضا من هذه الأنظمة الشمولية – إغلاق ملف الاعتقال السياسي كليا، وأن يكون تبييض السجون أول عمل يقومون به، وأن تصبح كل قصص الاعتقال والعذاب جزءً من ماضي بعيد وذكريات مؤلمة .. نريد أن ننساها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق