في الثالث من
أيلول الجاري، وفي رسالة مُوجّهة للنظام العالمي، وبحضور أكثر من 20 زعيم دولة،
نظمت الصين استعراضا عسكريا هو الأضخم من نوعه في تاريخها الحديث، بمناسبة مرور 80
عاما على هزيمة اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية.
تضمن العرض
الذي دام نحو 80 دقيقة الكثير من الرسائل الضمنية المليئة بالرمزية والدعاية
الموجهة، ليست كلها عسكرية وسياسية، الأهم منها تطمينات للعالم بأن الصين حريص على
السلام والأمن الدولي، حيث تم إطلاق 80 ألف حمامة سلام وبالونات ملونة.
الاستعراض لم
يكن عسكرياً وحسب؛ بل حمل طابعاً سياسياً ودبلوماسياً؛ إذ مثَّل مشهد الرئيس
الصيني وهو يصعد نحو منصة تيانانمين محاطًا بالرئيس الروسي "بوتين"، وزعيم
كوريا الشمالية "كيم جونغ" رسالة واضحة للوحدة بين الزعماء الثلاثة،
الذين يتشاركون رؤيةً لنظام عالمي بديل لمواجهة الهيمنة الأمريكية وحلفائها الغربيين. كما حرصت الصين
على استقطاب حضور أجنبي واسع، أرادته بمثابة تصويت بالثقة في الدور الصيني الصاعد
بقوة، وتأكيدا على مكانتها في قيادة الجنوب العالمي، وأنها لم تعد مجرد دولة معزولة
وخصم للغرب.
حضور غالبية
دول جنوب شرق آسيا معناه أن تلك الدول تفضل التعاون مع الصين على مواجهتها، أو حتى
أنها تنحاز إلى جانب الصين في مواجهة أميركا، أهمية هذه الرسالة أنها في قلب
البقعة الأهم في العالم؛ حيث الموارد والممرات والعقول والتكنولوجيا والاستثمارات
والثروات الباهظة والصراعات الساخنة، والنزاعات في بحر جنوب الصين، وقضية تايوان،
وحلفاء أميركا في المنطقة؛ اليابان، الفيليبين وغيرها. باختصار حيث يُصنع مستقبل
العالم.
بالنسبة
لموسكو، بعد ثلاثة أعوام من حربها على أوكرانيا، وتعرضها لعقوبات وعزلة دولية، فقد
شكّل حضور بوتين وترحيب الرئيس الصيني به بحفاوة نافذة شرعية ورسالة سياسة مفادها أن
روسيا ليست وحدها. وهذا أيضاً تجسيداً حيّاً للثقة الإستراتيجية بين البلدين،
وبيانًا سياسياً معناه أنهما تتجاوزان حدود اللحظة الراهنة نحو تنسيق أوسع، وتعزيز
التعاون في مجالات عديدة أهمها الطاقة (مد أنبوب للغاز بين سيبيريا وبكين).
في جانب
استعراض القوة العسكرية شاركت تشكيلات تمثل كافة قطاعات الجيش الصيني، وكأنَّ
الجيش حاضر بكامل قوته وعتاده؛ حيث تم عرض معدات عسكرية في غاية التطور، منها أجهزة
ليزر للدفاع الجوي وللاستخدام البري والبحري، والطائرات المقاتلة الشبح، والصواريخ
المضادة للسفن والغواصات، وأحدث صاروخ باليستي عابر للقارات، وطائرات بدون طيار يمكن
إطلاقهما من تحت الماء.
أما ذروة
القوة العسكرية فقد ظهرت فيما يُعرف بـ"الثالوث النووي" الصيني، وهي
صواريخ عابرة للقارات قادرة على حمل رؤوس نووية والوصول إلى أي مكان في العالم،
وقادرة على تنفيذ ضربات نووية من البر والبحر والجو في آن واحد، الأمر يضع الصين
في مصاف القوى النووية الكبرى.
كما استعرضت الصاروخ
الباليستي "موجة المحيط 3"، المصمم للإطلاق من الغواصات النووية. هذا
الصاروخ قادر على تنفيذ ضربات خفية من أعماق البحار، بما يضيف عنصر المفاجأة إلى
إستراتيجيتها النووية ويعزز مناعة الردع، ويضمن قدرة على الرد حتى في حال تعرضت
الصين لهجوم مفاجئ. إلى جانب الطائرات المقاتلة من الجيل الرابع،
ومركبات مضادة للطائرات دون طيار، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، والكثير من
مظاهر القوة التي تحتاج مختصين لشرحها.
عموما،
الاستعراض العملي للقوة الصينية ظهر في تلك الحرب الخاطفة التي اندلعت في أيار
الماضي بين باكستان والهند، وقد استخدمت فيها باكستان أسلحة متطورة استوردتها من
الصين، أظهرت تفوقا كاسحا على أسلحة الهند التي جلبتها من أميركا ومن إسرائيل.
الأهم من كل
ذلك، أن قوة الصين الحقيقية ليست فقط في ترسانتها العسكرية؛ فالصين لم تخض أي حرب
منذ استقلالها قبل أكثر من سبعة عقود، العنصر الأهم في القوة الصينية هي الموارد
البشرية، وميزة التعداد السكاني ليست في العدد الهائل، بل بقدرة القيادة على
التحكم به، فالصينيون (وربما سائر شعوب شرق آسيا) يمتازون بالانضباط والالتزام
والولاء تجاه العمل والدولة.
إضافة إلى
قدراتها الضخمة والمتطورة في مجالات التصنيع والزراعة والسياحة والتكنولوجيا
الحديثة، وتفوقها في مجالات الاتصالات والإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، وامتلاكها
الاقتصاد الأضخم في العالم، ولكونها الشريك التجاري الأهم لأغلب دول العالم، بما
فيها الولايات المتحدة.
رغم كل عناصر
القوة التي استعرضنا جانبا منها، لم تتمكن الصين من استرجاع تايوان التي تعتبرها
جزءا منها.. عسكرياً تستطيع ذلك خلال أيام، ولديها عشرات الخطط لاسترداد الجزيرة،
ما يمنعها حسابات عقلانية حكيمة تأخذ بالحسبان العديد من المحددات، أبرزها أنها
تريد استرجاع تايوان كما هي: بقوتها المالية والتكنولوجية والعلمية والبشرية وبدون
إراقة دماء، وبدون تدمير، وبحيث لا تهرب رؤس الأموال.. إلى جانب محددات السياسة
الدولية وحساباتها المعقدة، وخشيتها من نشوب حرب إقليمية مدمرة قد تتحول إلى حرب
عالمية كارثية.
الصين صارت قوة
عالمية وتنافس على المراتب الأولى، دون طلقة واحدة، دون حروب، دون أيديولوجيا..
وإذا ضمت تايوان واستردتها ستتضاعف قوتها، وستسيطر على العالم دون منازع تقريبا.
ولأنها تنتهج سياسة النفس الطويل بصبر وثبات وتقدم حثيث وبحكمة خلاصة تاريخ الصين
الطويل ربما نكون على موعد مع عالم تهيمن عليه الصين وترسم ملامحه.
الصين تواصل
بث رسائلها للعالم منذ عقود، والأمثلة والدروس التي قدمتها ماثلة أمامنا بكل وضوح
منذ بدأت نهضتها الحديثة.. ومع ذلك لم تصل رسائلها لمنطقتنا، ولم نتعلم منها شيئا،
وفوق كل إخفاقاتنا وهزائمنا وتخلفنا ما زلنا نتصرف ونفكر كقوة نووية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق