أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 29، 2025

مدخلات ومخرجات


انتهينا في مقالة سابقة إلى أن المفاوضات وشروطها تأتي استجابة لنتائج الحرب الفعلية وما تحقق على الأرض، يتفاجأ بها فقط من لم يدرك حقيقة ما دار في الحرب واكتفى بتغطية "الجزيرة".. وأنَّ السياسة تحكمها قوانين تشبه تماماً قوانين الطبيعة والفيزياء والمعادلات الكيميائية.. وهذه القوانين لا تعبأ بالصور الافتراضية التي نخلقها لأنفسنا، ولا يهمها مدى رضانا أو رفضنا لها، أو جهلنا بها.. 

للتوضيح لنأخذ مثالا علميا، ثم نستعرض أمثلة من التاريخ الحديث لتدعيم الفرضية.

لو أن شخصاً ما قام بتصنيع سيارة (سنسمي مرحلة تجميع القطع والأجزاء "المدخلات"، ومرحلة التشغيل والقيادة "المخرجات").. لو أن هذا الشخص ارتكب أي خطأ في المدخلات؛ كأن يهمل قوة المكابح، أو كفاءة الموتور، أو ينسى برغيا أو صماما أو يركب قطعة في مكانها الخطأ.. بكل تأكيد بمجرد تشغيلها ستظهر تلك الأخطاء، ربما فورا أو بعد أيام.. قد يهوي في واد سحيق، أو يصطدم بجدار، أو تتركه وحيدا في منطقة مقطوعة.. ستحصل الكارثة حتماً، بغض النظر عن حجم المديح والثناء الذي تلقاه من أصدقائه أثناء اشتغاله على تصنيعها.. وبغض النظر عن مدى قناعته ورضاه بما صنعت يداه..  

سنكتفي بثلاثة أمثلة من تاريخنا المعاصر، فهي كافية للتوضيح لمن أراد أن يفهم:

قبيل العام 1948 كانت المدخلات: جيوش غير كفؤة، قيادات مرتهنة، أسلحة متخلفة، تحالفات سياسية مشبوهة، تقدير الموقف كان خاطئا من الأساس، لا توجد إستراتيجية مشتركة. في الإعلام: هؤلاء مجرد عصابات، شذاذ آفاق.. المخرجات: النكبة والتشريد.

قبيل العام 1967 كانت المدخلات: الجيوش العربية غير مستعدة (اكتفى عبد الناصر بعبارة عبد الحكيم عامر "كل شي تمام")، الأسلحة متخلفة، الخطة غير جاهزة وضبابية، لا توجد إستراتيجية، ولا تنسيق، تقدير الموقف خاطئ، القرارات المصيرية بيد شخص واحد، لا يوجد نقد ولا اعتراض ولا مساءلة، الجماهير مغيبة ومقموعة، الإعلام مضلل، ثقافة التسحيج والقطيع.. المخرجات: النكسة والهزيمة.

أثناء أزمة الخليج الأولى 1990-1991 كانت المدخلات: اختلال فادح في موازين القوى، تخلف تكنولوجي ومعرفي، فرد مستبد وحده من يخطط ويقرر، جماهير مغيبة ومقموعة، إعلام حزبي أيديولوجي، غياب النقد والمراجعة، تغييب الكفاءات وانعدام الحوار، الترويج لفكرة أن الجيش العراقي رابع جيش في العالم، المدفع العملاق والكيماوي المزدوج والقائد الملهم، الموت لأميركا، تحالف صليبي، شعارات، مظاهرات.. المخرجات: هزيمة الجيش وتفككه، وتدمير العراق، وتمزق الموقف العربي، ودخول أميركا إلى المنطقة، وبداية مسلسل الهزائم والتراجعات.

لنأتي إلى العام 2023 والحرب العدوانية على غزة:

المدخلات: رهان على محور المقاومة، رهان على قوة حزب الله وتدخله، رهان على زحف الشعوب العربية والإسلامية واختراقها الحدود، رهان على تدخل الملائكة في الحرب، رهان على صواريخ القسام والأنفاق وتشكيلات حماس العسكرية التي صورتها الجزيرة نسخة عن كوريا الشمالية.. رهان على الموقف الدولي، وتغير الموقف الأميركي، رهان على ضعف إسرائيل وأنها لا تستطيع خوض حرب طويلة، ولا تستطيع الدخول بريا، وسينهار اقتصادها، وستنهار حكومة نتنياهو. إعلام يعتمد على الدويري وجوقة الجزيرة وغابات الزيتون..

من الأسابيع الأولى للعدوان تبين أن كل تلك الرهانات خاطئة وفاشلة ولم يتحقق منها شيء، ببساطة لأنها كانت مجرد أوهام وتمنيات..

طوال السنتين وجرائم إسرائيل مستمرة في القتل والتشريد والهدم واحتلال المدن، وأعداد الضحايا في ازدياد مستمر ومعالم الهزيمة واضحة للعيان.. دون اتحاذ أي خطة لوضع حد للهزيمة، أو لوقف الكارثة وتدارك الأمر..

كل تلك الأخطاء بنيت أساسا على أخطاء سابقة تشبه تماما أخطاء النكبة والنكسة وسائر الهزائم العربية: القرار بيد شخص واحد، وحده من يخطط ومن يقرر ومن ينفذ.. لا توجد ثقافة النقد والمراجعة والاعتراض والمساءلة والمحاسبة، بل ثقافة التسحيج والتقديس والمباركة وغض الطرف عن كل الأخطاء والممارسات.. لا توجد قيادة جماعية ولا تخطيط جماعي ولا إستراتيجية مشتركة، كل فصيل يريد أن يتفرد بالقضية الفلسطينية ويعتبر تاريخ انطلاقته هو تاريخ بدء المقاومة، وقد توجنا ذلك بالانقسام وسلخ غزة عن الضفة، والارتهان للعبة المحاور الإقليمية، والتجند للأجندات الإيرانية، أو الأميركية..

لا توجد مراكز دراسات وتفكير إستراتيجي وتقدير موقف.. ما كان موجودا ثقافة غيبية تعتمد على حسابات الإعجاز العلمي، ونبوءات موعد سقوط إسرائيل، ووعد الآخرة.. ثقافة أصحاب الأخدود، التي لا تقدر قيمة الحياة والإنسان ومستعدة للتضحية بملايين البشر مقابل الأيديولوجيا.. ولديها أمثلة الجزائر وفيتنام حاضرة في كل وقت، وتسقطها حتى دون دراسة وفهم.. ثقافة حزبية ضيقة تضع الحزب قبل الشعب وقبل القضية، وتخوض مراهقات سياسية بحسابات مرتجلة.. ينجم عنها شيوع نظريات المؤامرة وأن الغرب كله عدو، والأنظمة عميلة، والجميع خذل المقاومة..

قرارات مصيرية تُتخذ دون بناء تقدير موقف شامل لقوة العدو وإمكانياته، وبجهل لدوره الوظيفي ولمكانته في المعادلة السياسية الكونية، وفي النظام الدولي، وحجم الدعم الجاهز دوماً من حلف الناتو وأميركا ومنظومة الدول الغربية.. تقدير موقف مرتجل لم يقدر مدى ضراوة الرد الإسرائيلي، ولا أهمية الفرصة السياسية التي حصل عليها للتو..

كل تلك المدخلات الخاطئة لا بد أن تنتهي بهذه المخرجات: تدمير قطاع غزة واحتلاله، وقتل وجرح وتشويه وتشريد سكانه وتهيأة ظروف التهجير..

قبل أن تُفجع وتتفاجأ وتنصدم ويصيبك الإحباط وتوزع اتهاماتك شرقا وغربا وتحمّل جميع الأطراف المسؤولية وتبرئ نفسك.. تذكر أن العالم والكون والسياسة والحروب والدول والنظم تقوم على أسس موضوعية: مدخلات ومخرجات.. ولا مكان للأوهام والرغبات..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق