كل دعوات
الاستسلام مرفوضة ومدانة؛ فشعبنا يخوض المقاومة منذ أكثر من قرن، لم ولن يُهزم،
ولن تُكسر شوكته، ولن يوقف مقاومته، ولن يعلن استسلامه.. لكن هذا لا علاقة له
بتسليم حماس ملف المفاوضات لمنظمة التحرير، أو لجامعة الدول العربية، فشعبنا خاض
المقاومة قبل حماس وبدونها، وسيظل يخوضها حتى لو اختفت حماس ومعها فتح وكافة الفصائل..
كما أن تسليم
السلاح مرفوض، لأنه نوع من الاستسلام، لكن سلاح الشعب الفلسطيني الحقيقي والفاعل
والأقوى هو صموده وثباته فوق أرضه، أما تصريحات قادة حماس بشأن تسليم سلاحها فهي
مثيرة للتعجب، خاصة أخذ مثال بيروت 82 ومذبحة صبرا وشاتيلا، وحجة حماية الشعب من
العدوان.. ومجرد التفكير لثوان معدودات ولكن بعقل سليم كاف لدحض وتفنيد تلك
المقولات الساذجة.. التي يتم تسويقها في إطار تبرير الفشل.
منذ زمن
اختراع السيوف والخناجر ارتبط السلاح في الذهنية الشرقية بالشرف والرجولة والهيبة،
وبكل معاني العصابية الذكورية.. وفي الفكر التحرري الوطني ارتبط بالقوة والصمود
والتحدي.. لذا مسألة تسليم السلاح تظل مرفوضة، لأنها ستعني المذلة والاستسلام.. كل
هذا صحيح، وفي صميم الوعي الوطني الجمعي، إذا كان بشكل عام أو بالمعنى المجرد لمقولة
"تسليم السلاح".. لكنه ليس قانونا مطلقا، وعند الحديث عن تسليم حماس
لسلاحها، كشرط من شروط إنهاء الحرب يتم توظيف المقولة في سياق ديماغوجي، وباستخدام
أمثلة تاريخية لا علاقة لها بالحدث الآني، أو باستخدام مقولات لاإنسانية ولا
أخلاقية مثل القول بأن شنق أطفال غزة أهون من تسليم السلاح..
هذا خلط متعمد
بين حق الشعب بالمقاومة وبحمل السلاح، وبين استخدامه بشكل غير مسؤول، تماما كما تم
إحداث الخلط وبشكل متعمد ومدروس بين مفهوم المقاومة وإعلان الحرب. فللمقاومة
شروطها وأدواتها وأسلوبها المختلفة كليا عن خوض الحرب.. والمقاومة حق طبيعي ولا
خلاف عليه، ولا أحد يدعو لإيقاف المقاومة أو لإدانتها من حيث المبدأ، وكل
الانتقادات والاعتراضات كانت على شكل وأسلوب المقاومة التي خاضتها حماس، التي
تجاوزت الأساليب المعهودة للمقاومة، وبشكل مختلف عن منهج حركات التحرر، لتصبح
إعلان حرب، تخوضه بقوى ميليشياوية شبه نظامية وبنفس أسلوب الحرب النظامية.. والمفارقة
بأن حماس والشعب الفلسطيني كله يطالب بإيقاف الحرب، ومنذ يومها الأول، فلو كانت
الحرب الشكل الصحيح للمقاومة فلماذا نطالب بوقفها؟
ومن حيل
الدفاع والتبرير الأخرى مهاجمة إسرائيل إعلامياً وخطابياً، من خلال ذكر جرائمها
وتعدياتها ومخاطرها وضرورة لجمها ومحاربتها، وهذا طبعا لاخلاف عليه، لكن الحيلة
هنا إيهام المتلقي بأن كل من يعادي إسرائيل هو بالضرورة في الموقف الوطني السليم؛
وبالتالي كل ما يقوم به، وما يقوله، وما يخطط له بالضرورة صحيح، ولا تجوز معارضته،
أو انتقاده، بل إن من يعارضه خائن، أو في صف العدو وإلى جانبه.. بكلمات أُخرى: بعد
أن يتفق الجميع على تشخيص العدو بأنه شرير وخطر ومتوحش، سيصبح تلقائيا كل من يتصدى
لهذا العدو يمثل الحق والخير والسمو، ويغدو قديسا، يتوجب إتباعه وطاعته، وهنا
تتماهي شخصية الجهة التي تخوض المقاومة وقياداتها مع الوطن والشعب والقضية العادلة،
وطالما أنه يقاوم العدو سيكون من الصعب على عامة الناس إدراك الفروقات بين ما
يمثله القائد واجتهاداته ومصالحه الشخصية والحزب ومكاسبه الفئوية وبين مصلحة الوطن
والقضية العليا التي يناضل من أجلها الشعب. رغم أن التاريخ يزودنا بأمثلة لا حصر
لها لجهات وقيادات مقاومة ارتكبت أخطاء قاتلة، وكانت أجنداتها خارجية، وتسببت بكوارث.
واستمرارا
لنفس الحيلة تتم مهاجمة الآراء المعارضة ووجهات النظر المنتقدة باتهام صاحبها بأنه
يردد مقولات العدو، فمثلا إذا انتقدت حماس أو غيرها على موقف معين سيقولون لك أنت
تردد ما يقوله مردخاي، وبالتالي أنت بوق للاحتلال، ومتفق معه، وتخدم أهدافه.. أو يتم
اتهامه بأن "سحيج" للسلطة، ومنتفع منها.. فبدلاً من مناقشة الفكرة يتم
شخصنة الموضوع ومهاجمة الشخص المتحدث، أو مهاجمة السلطة وفتح ومنظمة التحرير، أي
حرف موضوع النقاش باتجاهات أُخرى، وكأنَّ فساد السلطة أو أخطاء فتح تبرر لحماس أن
تفعل ما تريد، ويعفيها من مسؤولية كل ما حدث.. عموما، هذه من المغالطات المنطقية
الشائعة في أي حوار.
وأيضا من الحيل المتبعة تبرير الفشل، أو الإخفاق، أو
الهزيمة بذريعة تفوق العدو الكاسح (وكأنَّ قدرات إسرائيل وتفوقها كان أمرا سريا)،
أو التحجج بالدعم الأميركي (وكأنَّ العلاقة بين إسرائيل وأميركا جديدة ومفاجئة)، أو
الإدعاء بأن سبب الهزيمة والإخفاق خذلان الحلفاء، وتخاذل الدول العربية وتقاعص الشعوب
الإسلامية، أو المؤامرة الكونية.. وليس سوء الإدارة وانعدام التخطيط والحسابات المرتجلة
والمراهنات الخاطئة. وهذا أيضا تهرب من تحمّل المسؤولية..
ما أود قوله أنّ صراعنا مع المشروع الصهيوني ليس سجالا
بين الحق والباطل ومن يمتلك الحجة والبرهان واللغة والخطابة سينتصر في المعركة..
هذا ينجح لو كان خلافا فكريا وساحته الكتب وميادينه الندوات الثقافية، ولو كان
مجرد خلاف قانوني وساحته المحاكم.. هذا صراع حضاري شامل، بكل مضامينه وأبعاده
السياسية والتاريخية، وحتى لو كنا مؤمنين بحقوقنا، ونمتلك كل الحجج الأخلاقية والقانونية،
لا يكفي.. لا يكفي لأن ننتصر.. ولا يكفي أن تكون صاحب حق، الأهم أن تعرف كيف تطالب
بهذا الحق وكيف تمارسه؛ لأن هناك واقع سياسي واقتصادي، ونظام عالمي، وتحالفات
دولية، وعلاقات ومصالح متشابكة بين الدول، وهناك دكتاتورية الجغرافيا، ومصالح
الشعوب والحكومات، ووقائع متغيرة ومعقدة، وحركة تاريخ لا تتوقف.. ونحن في قلب ذلك
كله، ومع هذا الواقع لا تنفع الحيل ولغة الخطابات والشعارات الثورجية والعواطف المندفعة
والإدعاءات بتحقيق الانتصار الرباني والتاريخي، لأنه سرعان ما سيكشفه.. هذا الواقع
لا يخدم إلا القوي ومن يمتلك الإستراتيجية الصحيحة والتخطيط العقلاني.. ومن لا يعي
تلك الحقائق، ولم يحسن التصرف معها، وظل متمسكا بأفكاره الخاصة وبلغته الخشبية
ستتجاوزه الأحداث وستقفز عنه حركة التاريخ.. حتى لو كان مخلصا ومضحيا، فما بالك
إذا كان يكذب على نفسه، ويخادع جماهيره بهذا الخطاب الديماغوجي المضلل! ويعتمد على
قناة الجزيرة لترويجه ولتسويق نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق