أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 13، 2024

انقسام خطير

 

لا أتحدث عن الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، فهذا الموضوع أُشبع بحثا ودراسة ونقداً، بل أتحدث عن انقسام آخر ربما أخطر وأعمق، وهو مرتبط بالانقسام الفلسطيني ونتاج له.

إنه انقسام بين الجمهور العربي كله على مستوى فكري وسياسي ووجداني وشعوري بين فريقين على الأقل؛ فريق يؤيد المقاومة بشكل مطلق، بمعنى أنه يتبنى كل خطابها وتصرفاتها ومواقفها دون تحفظ، وفريق ينتقد الأحزاب والفصائل التي باتت تتصدر مشهد المقاومة، بمعنى أنه ينتقد أسلوبها وتكتيكاتها وخططها وبعض ممارساتها.

ولحسن الحظ لا يوجد من يقف ضد المقاومة من حيث المبدأ،

ولكن في داخل كل فريق ستجد انقسامات حادة حول الكثير من التفاصيل والأسماء والأحداث والمواقف؛ فمن داخل الفريق المؤيد للمقاومة ستجد من يؤيد حماس، أو الجهاد، أو حزب الله، أو الحوثيين وغيرهم، يؤيد حزبه فقط ويرفض ويعارض الآخرين، والأمر ذاته في الفريق المعارض لنهج المقاومة، ستجد اختلافات حادة في الآراء. حتى أنك ستجد "يسار متؤسلم".

لحد الآن يبدو الأمر طبيعيا، ومشروعا، فالاختلافات مطلوبة لأنها مفيدة وبناءة، ولأن طبيعة البشر قائمة على الاختلاف والتنوع والتعدد.. لكن ما هو مستهجن وغير مقبول أن تلك الاختلافات وصلت إلى درجة من العمق والحدية أنها صارت حملات تكفير وتخوين ورفض وإقصاء، وبالتالي صارت سببا للضعف وعوامل هدم وتفكيك.

وصل بنا الانقسام حداً للتطاول على الشهداء وعلى من ضحوا بأرواحهم، ومن عادوا إسرائيل طويلا، ومن أنفق الاحتلال الملايين من الأموال وسنوات من التخطيط لقتلهم.. وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ الكفاح الفلسطيني (والعربي)، ففي السابق كان كل من يستشهد يحظى بالتقدير والتبجيل مهما كان انتماؤه الحزبي ومرجعيته السياسية.. اليوم أطل علينا معيار جديد في تصنيف الشهداء والمناضلين؛ وهو المعيار الطائفي والأيديولوجي.

وقبل الغوص في فهم الظاهرة، علينا الإقرار أولاً بأننا جميعا (أفرادا ونخبا وأحزابا ودولا) منغمسون في مستنقع الانقسام والتشرذم، ونمارسه بكل حماسة. وثانياً: لهذا الانقسام بعض الأسباب الوجيهة والمنطقية، والتي حتمت ظهوره، مع رفضنا له من حيث المبدأ، ولكن علينا فهمه، مع الترفع عن الخطاب التطهري والإنشائي.

لنعد قليلا إلى الوراء لنعرف متى بدأ هذا الانقسام؟ وكيف، ولماذا؟

يمكنني القول أنه بدأ بشكل ظاهر وجلي تحديدا في العام 1979، بعد أن استولى الملالي على الثورة الشعبية في إيران، وحولوها إلى دولة دينية، حينها بدأنا نسمع مصطلحات سُـنّي وشيعي، وثورة إسلامية، وتصدير الثورة.. وحينها أيضا تخلت السعودية عن تحولاتها الليبرالية والمدنية (التي كانت تسير ببطء ووجل) لصالح ثقافة وهابية متصحرة ومتزمتة وعنصرية وطائفية، تعمل بمنهج تعميم الدعوة، وتحت شعار الصحوة الإسلامية.. وحينها أيضا كانت مصر قد استسلمت لمجموعات من المتاجرين بالدين، ولخطاب الإخوان الشعبوي الإقصائي (الآخذ بالتمدد).. وحينها أيضا انسحق السوريين بين مطرقة نظام الاستبداد والترويع وسندانة الإخوان وممارساتهم الإرهابية.. وكانت الأردن خاضعة تماما لخطاب الإخوان التكفيري الشعبوي (في مناهج التربية وعلى منابر الجوامع).. وفي لبنان بعد خروج الثورة منها، ظهرت "أفواج المقاومة الشعبية" التي سرعان ما صار اسمها "أمل"، ومن ثم "حزب الله"، لتستحوذ سورية على الأولى، وتستحوذ إيران على الثانية، حتى لم تعد مرجعياتهما لبنانية، وبذلك تعمق الانقسام اللبناني فوق تعمقه.

في الساحة الفلسطينية بدأت بوادر الانقسام مع صعود الخميني، حينها كانت الثورة الفلسطينية تضم كافة الأطياف والشرائح والطوائف والتيارات الفكرية وجميعها منصهرة في بوتقة المنظمة أو فتح، وفجاة اكتشف السني سنيته، والشيعي تشيعه، والمسيحي مسيحيته، وبدأ العلمانيون يشككون بجدوى الثورة الوطنية لصالح "يقين" الثورة الإسلامية وشعاراتها الجديدة وأولوياتها المختلفة، وشيئا فشيئا بدأت العرى بالتفكك وظهرت التحولات "الإسلاموية" و"الجهادية"، ليأتي الاجتياح الإسرائيلي (صيف 1982) ويسرّع من تلك التحولات بعد أن تشظت قوات الثورة في المنافي.. وبعدها بسنة واحدة ظهر أول انقسام في فتح، حيث انشقت بدعم سوري ليبي، وسط ابتهاج إسرائيلي.

ومع بداية الثمانينيات، وصعود ما سمي بالصحوة الدينية، بدأت تظهر الحركات الجهادية، وتتكاثر بسرعة مريبة، وصارت أفغانستان قبلتهم المفضلة (ثم الشيشان والبوسنة وتشاد وسائر بلاد المسلمين باستثناء فلسطين)، وسرعان ما ظهر وجهها الداعشي، الذي انتشر في عموم الكوكب، لينقسم العالم بأسره بين من يتفهم الإسلام ويتعاطف مع المسلمين، ومن أُصيب برهاب "الإسلامفوبيا".

كل هذه الإنقسامات لعبت فيها حركات الإسلام السياسي دور المحرك، لكن ثمة انقسامات أخرى حركتها الدول ومصالحها المتضاربة ومشاريعها الاستحواذية التوسعية، فسورية مرة ثانية ستستخدم حماس في صراعها مع منظمة التحرير، وطبعا بالتحالف مع إيران لتقدما لها كل الدعم والتشجيع على خطوة فصل غزة والهيمنة عليها.. بالانسجام مع توجهات الإخوان المسلمين، ومشروعهم العالمي، والذي تطلب نقطة ارتكاز، كانت غزة لسوء حظها هي العنوان المفضل، لأنها بذلك جمعت "الحسنيين": الإسلام وفلسطين، بخطاب جهادي شعبوي..

وستدخل تركيا بمشروعها الإردوغاني، وقطر الطامحة (بسلاح الجزيرة)، والسعودية (بحلتها الجديدة)، ومصر (بأزماتها الاقتصادية)، وإيران (وتصدير الثورة) ولهؤلاء جميعا مشاريعهم الخاصة المتضاربة حينا والمتقاطعة أحيانا، ومعها جماهيرها المنقسمة.. ولسوء الحظ مرة ثانية كانت فلسطين نقطة الالتقاء والصراع، والضحية، وعنوانا للانقسام.

لا يعني ما سبق أن الشعوب العربية قبل 1979 كانت متفقة وعلى قلب رجل واحد، لكن الانقسامات الجديدة أخذت أبعادا أخرى: أعمق وأخطر وذات صبغة دينية وأيديولوجية.

ليس المطلوب أن يحمل كلٌ منا نفس الآراء والأفكار والتوجهات؛ فهذا مستحيل واقعياً، وغير مفيد عملياً؛ ولكن، يجب التوقف عن الانشغال بالتنقيب عن أخطاء الآخرين، أو تخطئة كل رأي مختلف، ومصادرة حق النقد، وإرهاب كل مخالف، والإدعاء بامتلاك الحقيقة.. ويجب بالضرورة أن نتحد وجدانيا وشعوريا وفكريا تجاه فكرة المقاومة، على أن نفكر بعقلانية بالأسلوب الأمثل، وباستراتيجية مدروسة..

على أن نُحدث قطيعة كاملة مع الخطاب الشعبوي السائد، والتحليلات المضللة مدفوعة الأجر، وطريقة التفكير العاطفي الرغائبي، والكلام الإنشائي المنمق المنفصل عن الواقع، والشعارات البراقة والتهديدات الفارغة، وأن نكف عن المراهنة على الأوهام.. ما لم نفعل ذلك، سنكون أمام هزيمة مدوية ونكراء..  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق