أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 28، 2024

هل اعتدنا المشهد حقاً؟

 في صبيحة السابع من أكتوبر، وبعد تواتر صور وأخبار الهجوم المظفر وإطلاق تسمية "طوفان الأقصى" على العملية النوعية التي أربكت الجميع.. بدأت الأغلبية الساحقة من الناس تستشعر بالفخر، وتعيش حالة من النشوة، وبمعنويات تعانق السماء، وتوقعات كبيرة أقلها تبييض السجون، وإطلاق سراح جميع الأسرى، وأعلاها سقفا وصلت حد التصديق بأن العودة باتت وشيكة، وأنَّ نهاية الكيان صارت قاب قوسين أو أدنى، وكانت التوقعات والتحليلات في الأغلب تشير إلى بدء حالة نهوض ثورية ستغير الواقع جذريا، وأن المقاومة ستواصل هجومها، وجماهير الأرض المحتلة ستخرج غاضبة ومنتفضة، أما الشعوب العربية والإسلامية فستلتحق بالطوفان، وستخترق الحدود، وستسقط أنظمتها الاستبدادية، وسيدخل محور المقاومة بكل قوته، وستتغير المعادلات السياسية القائمة، وسيتلقى الكيان ومن خلفهم الأمريكان هزيمتهم التاريخية..

في الأيام الأولى كانت التوقعات بأن إسرائيل ستظل مرتبكة، وستعجز عن احتواء الهجوم، وستنشغل لفترة طويلة بالخلايا المسلحة التي تحصنت في مستوطنات غلاف غزة، وأن تلك الخلايا ستوجه ضربات للعدو من الخلف.. وأن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون أعنف قليلا أو كثيرا من المرات الخمسة السابقة، وأنها ستدوم شهرا أو شهرين على أبعد تقدير، وستقتصر على الضربات الجوية، وستقصف أهدافا محددة، ثم ينتهي الأمر بتفاهمات جديدة، ستكون بالضرورة لصالح الفلسطينيين، وستنهي حصار غزة، وتحرر الأسرى..

لاحظ أن الحديث عن مواصلة الهجوم، وتحرير البلاد، واستعادة الأقصى، وتدمير الكيان، قد تراجع، وصارت التوقعات إنهاء الحصار وفرض معادلات جديدة على إسرائيل..

في الأسابيع الثلاث الأولى جاء القصف الإسرائيلي عنيفا لدرجة غير مسبوقة ولا معهودة، وقد طال كل شيء تقريبا، وبلا أدنى رحمة، ومع ذلك ظلت التوقعات أن العدوان سيقتصر على القصف الجوي.. وقد أكد الكثير من المحللين العسكريين، وبعض قادة حماس أن إسرائيل لن تجرؤ على الاجتياح البري، وإن ارتكبت هذه "الحماقة" فإن المقاومة جاهزة بعتادها ومقاتليها وأنفاقها وصواريخها وخططها العسكرية المعدة مسبقا، وبالتالي ستكون غزة مقبرة للغزاة..

بعد عشرة أيام من بدء العدوان اقترف الاحتلال مذبحة مروعة في مستشفى المعمداني، سقط فيها 500 شهيدا من المدنيين، وحينها ساد اعتقاد بأن ردة الفعل الشعبية والعالمية ستكون بمستوى الحدث، وأن المجتمع الدولي لن يقبل بمثل هكذا مذبحة، وسيدين إسرائيل وسيجبرها على وقف عدوانها.. ثم تبين أنها مجرد البداية لسلسلة مذابح أشد وأفظع.

وعندما ظهرت أولى صور المقاومين وهم يلتحمون بالدبابات من المسافة صفر، ويدمرونها تباعا، اعتقدنا بأن المقاومة ستردّ العدوان خائبا مهزوما، وأن العدو لن يحتمل هذا العدد من القتلى والدبابات المدمرة (بحسب تميم البرغوثي تم تدمير ثلث الجيش).. ثم ظهرت أولى صور النازحين لبعض العائلات، وقد تعاملنا معها بحذر ولم نصدقها، ولما ظهرت أولى صور الخيام قلنا هذه دعاية مضللة يُراد منها تثبيط الهمم ودفع الناس للنزوح.

مع مرور الوقت وتوالي الأحداث، صارت صور القصف عادية، ثم صارت صور أفواج النازحين عادية، رغم أنها كانت تزداد كل مرة وبأعداد هائلة، ثم صارت صور الخيام والمخيمات عادية، بل صارت هي المنظر المألوف..

أتحدث هنا بصيغة الجمع، وأنا مدرك تماما وجود استثناءات كثيرة، وأن الآراء والتوقعات كانت متباينة جدا وبدرجة حادة، لكني أقصد تلك الأصوات التي كانت هي الأعلى، والأشد تعصبا، والأكثر تمسكا بوجهة نظرها، وأذكّر بأن هؤلاء كانوا يغيرون أرائهم وتوقعاتهم لكنهم ينسون كيف كانت قبلا، وكيف تفاعلوا معها، وكيف بدأنا نألف المشهد!

اليوم، وبعد مرور أزيد من سبعة أشهر على العدوان.. كلنا يعرف حجم الكارثة التي أصابت غزة، نحو خمسين ألف بين شهيد ومفقود، ومائة ألف جريح ومصاب، ومليوني نازح، وأكثر من مائة ألف غادروا القطاع، والبقية ينتظرون وجل تفكيرهم منصبّ في كيفية الخروج من هذا الجحيم.. أما الدمار فقد طال كل شيء.. وقد حصلنا على نكبة جديدة.

انخفض سقف التوقعات، وتراجعت المطالب وتبدلت الأهداف، وصار المطلب الرئيس وقف الحرب (أي أن من بدأ الطوفان يطالب بإيقافه)، كانت الموجة عالية جداً جداُ، والمركب صغير جداً جداً، والفرق في مستوى القوة هائل جدا جدا.. وكل جزئية من هذا المشهد تصلح لأن نضع أمامها عبارة جداً جداً: مستوى الإجرام، حجم التدمير، عمق المأساة، المعاناة، البطولة، الصمود، الصبر، الخذلان، غباء الحسابات، سقوط الرهانات، الطوابير، الحر، البعوض، الجوع، سقوط المجتمع الدولي، اختبار قيم الحداثة، هزيمة إسرائيل الأخلاقية.. والأهم أن تفكير الأغلبية الساحقة منا كان عاطفيا جدا جدا ومتوهم إلى أبعد حد..

لا أتوقع أن يغير الناس إيقاع حياتهم مع استمرار العدوان، فالحياة لا بد وأن تسير بشكل أو بآخر، حتى أشد الناس تأثرا بالعدوان، وأكثرهم التصاقا بالأحداث ومتابعة للتطورات، لن يكون بوسعهم سوى مواصلة حيواتهم، والعودة تدريجيا إلى نمط الحياة الأقرب للطبيعي، بما في ذلك أهل القطاع، ومن هم تحت القصف، وفي قلب الجحيم.. سيحاول هؤلاء أيضا التكيف.. تلك سنة الحياة.. ولكن، وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى، وألا نتجاهل، وألا نتوقف عن فعل كل ما من شأنه إيقاف العدوان، والتضامن مع أهل غزة؛ فالعدوان ما زال قائما ومتواصلا.. الأهم أن نسمع تلك الأصوات القادمة من داخل غزة، نسمعها باحترام وإجلال، دون وصاية عليها، ودون مزايدة.. فهم الأصدق والأقرب للحقيقة..

مع أن العدوان لم ينتهي بعد، وربما أننا خسرنا هذه الجولة من الكفاح، وتكبدنا خسائر فادحة وتضحيات جسيمة.. لكن صراعنا مع الاحتلال باقٍ، ومستمر، وأمامنا جولات أخرى دامية، قبل أن يستفيق ضمير العالم.. لكننا حتما على موعد مع النصر، ومع فجر الحرية والاستقلال..

ولعلنا نتعلم من هذه التجربة القاسية والمريرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق