أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 22، 2024

مفاتيح لفهم مسلسل الحشاشين

 

حظي مسلسل "الحشاشين" باهتمام شديد من المشاهدين، وأثار جدلا واسعا خاصة بشأن دقة الأحداث ومدى تطابقها مع التاريخ.. وهنا يتوجب التمييز بين العرض التوثيقي الذي يتطلب توخي الدقة والمنهجية العلمية.. وبين البناء الدرامي الذي يحتاج خيالا محلقا.. فحتى في السرد التأريخي سنجد روايات متضاربة حول أي حدث، أو أي شخصية، فما بالك حين يكون عن طائفة غامضة، وفرقة سرية، وشخص غير عادي أمضى معظم حياته في قلعة نائية، وكل وثائقه ومؤلفاته حرقها التتار بعد أن أنهوا قصة قلعة ألموت إلى الأبد.

ما يهمنا هنا هو العثور على المفاتيح التي تمكننا من فهم ألغاز حسن الصباح زعيم ما سيُعرف لاحقا بفرقة الحشاشين، وسواء من خلال المسلسل، أم من خلال الكتب التي تناولت سيرته حيث سنجدها في شخصيته، وحتى لو كان سردها متخيلا إلا أنها ستكون منطقية بناء على النتائج التي تحققت بعد ذلك، وبمقارنتها (أو إسقاطها) على أحداث وشخصيات مشابهة في عصرنا الراهن.. وهذا ما دفعني للكتابة، ولأول مرة، خارج نطاق العدوان على غزة، نظرا لتشابه الحالة بين الحدثين، أو لنقل استمرارية تأثير الحشاشين حتى الآن، ولكن بمسميات حديثة..

قد يكون حسن الصباح أحد أهم وأخطر الحلقات في مسلسل الإرهاب والتطرف في التاريخ الإسلامي.. وقد يكون أكثر من ظُلم وشُوهت سيرته، فهو في جانب ما من شخصيته متصوف وزاهد رغم أنه كان يطمح بزعامة العالم.. رحيما طيب القلب رغم أنه قتل ابنيه.. مؤمن بعقيدته إلى حد المطلق، وبناء على فهمه الخاص.. وهو ثائر على الظلم، ومن دعاة العدالة الاجتماعية، ورافض ومعارض لفساد الدولة، ولكن بالإرهاب والاغتيالات.. كان متشددا وملتزما بالشريعة لكنه كان يستسهل قتل خصومه كشرب الماء.. كان بسيطا ومتواضعا ولكنه مهابا إلى درجة التأليه، ومطاعا حتى لو طلب من أتباعه إلقاء أنفسهم من قمة القلعة.. هو كل ذلك وأكثر، شخصية مركبة بالغة التعقيد.. فامتزاج الخير مع الشر في شخصية واحدة خلق خلطا وارتباكا لدى المشاهدين.

ما يهمنا أكثر هنا معرفة كيف نجح في بناء تنظيمه، وكيف صار مُطاعاً إلى درجة سلبه أرواح وعقول أتباعه، الذين حولهم إلى أدوات تنفذ بلا تردد..  

عندما مكث حسن الصباح في مصر بضعة سنوات، في فترة الشدة المستنصرية (مجاعة رهيبة)، وبعد موت الخليفة المستنصر قد يدور بخاطرنا سؤال: لماذا انحاز إلى نزار ورفض بيعة المستعلي؟! قد تكون الإجابة لأن نزار قُتل واختفى في ظروف غامضة.. وهنا سيبدأ الصبّاح بابتداع طائفة جديدة ستُعرف بالنزارية.. وسيصبح نزار هو الخليفة المنتظر (نسخة أخرى من المسيا، ومن المهدي).. وسيدّعي الصبّاح أنَّ نزار أوكله بالدعوة لمذهبه، وأنه بات نائبه، وممثلا عنه طوال فترة غيابه.. وصار نزار الأحق بالخلافة، وتحول إلى أيقونة دينية، وصار أتباعه أصحاب الحق المصادَر.. ومن هنا اكتسب الشرعية الدينية، ووجد وسيلة ومادة يحقق من خلالها مشروعه الخاص والطموح.. الزعامة الروحية. وهذا المفتاح الأول.

المفتاح الثاني تمثل في ذكاء الصبّاح الحاد (أو عبقريته قياسا بالمرحلة التي عاشها، وبالناس الذين تعامل معهم، وكسبهم..)، فقد كان مطلعا على علوم الكيمياء والرياضيات والفلك وأحوال الطقس ومواسم الرياح والعواصف، أي أنه امتلك قوة المعرفة، والتي عرف كيف يستغلها ببراعة.. وهذا ما حاول إيهامه لأتباعه على أنه كرامات ومعجزات، وهذا الخلط تولد أيضا لدى المشاهدين.

لكن المعرفة الأهم والأخطر (وهي المفتاح الثالث) هي علوم الباراسيكولوجي، والتي تتجاوز الفراسة والفطنة والحدس، وقراءة لغة الجسد وتحليل شخصيات الغير، والتنبؤ بتصرفاتهم، بل والتحكم في عقولهم، والتلاعب بهم.. وما مكنه من توظيف هذه العلوم واختراق قلوب وعقول وحتى منامات وأحلام من يحيطون به، ومن تعامل معهم هو هدوئه، وتحكمه في نفسه وضبط أعصابه ورباطة جأشه حتى في أشد اللحظات خطورة، فضلا عن حلاوة لسانه وتقاطيع وجهه التي تشي بالثقة والهيبة والخشوع.. وهي ما نسميها اليوم "الكاريزما".. صحيح أن الفنان كريم عبد العزيز أتقن الدور وجسد الشخصية بإتقان.. لكن حسن الصباح الحقيقي لو لم يكن يتمتع بكل هذا الصفات لما  حقق شيئا مميزا ومختلفا عن  غيره، ولما كنا سنعرف اليوم قصته المثيرة.

نأتي إلى المفتاح الرابع الأشد خطورة من كل ما سبق: توظيف الدين، وتأويل النصوص الدينية وتطويعها (بانتقائية) سواء للتشبث بالسلطة (ما فعله نظام الملك)، أو لتحقيق مشروع الزعامة الخاص، وهذا ما فعله حسن الصباح، إضافة إلى استغلاله الفقراء وجهلهم، وكل المحرومين والمكبوتين والمقهورين، الذين أوهمهم أنه خلاصهم معه، وأنه يمتلك مفاتيح الجنة، وبذلك بدأ يروج لثقافة تمجيد الموت، وازدراء الحياة، فصار الموت مقبولا ومحببا من قبل أتباعه، الذين ظنوا أنه بمجرد مقتلهم سينتقلون إلى الجنة.

الأمر الآخر الذي مارسه الصبّاح عقيدة التقية، أي إخفاء ما يبطنه أثناء لحظات الضعف، انتظارا للحظات القوة والسيطرة ليظهر حينها عقيدته وأهدافه الحقيقية، ولجوئه للقسوة والبطش كلما لزم الأمر.

ولم يكن كل أتباعه فقراء ومحرومين، كان من بينهم من تتملكه نزعات العنف والمغامرة والإثارة، ومن يسيره كبته الجنسي، ومن يحقد على المجتمع أو الدولة ولديه رغبة في الانتقام، وهؤلاء كان ينقصهم من ينظمهم، ويمنحهم الفتوى الدينية بأن ما يريدونه هو من صلب التدين، وبذلك ينالون مرادهم بضمائر مرتاحة، بل وبحماسة دينية.. إضافة إلى المتطرفين بطبعهم (متطرفون بإلحادهم، أو بتدينهم، أو بحملهم أي فكرة) وهؤلاء ذوو ثقافة سطحية، وتستهويهم النصوص الإطلاقية والشعارات البراقة وقد عرف الصباح كيف يحتوي هؤلاء جميعا.

إضافة إلى ما سبق عمد الصباح إلى اختزال الدين (بكل رحابته وسعته) إلى طائفة، وإلى إقناع أتباعه أنه هو شخصيا من يجسّد الدين الحق، والطائفة الناجية، والأفكار الخلاصية، وبذلك صار تبجيله وتقديسه متماهيا كليا مع تقديس وتبجيل الدين، فصار هو المخلص والمنقذ والقديس، وما على الآخرين إلا إتباعه والامتثال لتعليماته بالسمع والطاعة..

كل تلك الأساليب ما زالت تمارسها جماعات الإسلام السياسي في وقتنا هذا.. منذ الخوارج وحتى داعش، ومنذ المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك حتى كليات الشريعة والأزهر وقم.. وسواء كان الحشاشين يتعاطون الخشخاش أم لا، إلا أن تأثيره ما زال يسري في عروق الكثيرين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق