أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 21، 2023

تاريخ التحريم في الفقه الإسلامي


وردت في القرآن الكريم تحريمات بصورة قاطعة، وحدد لها عقوبات معينة (القتل، السرقة، الزنا..) وتحريمات أخرى لم يحدد لها عقوبات، وتركها للمشرع (الكذب، أكل مال اليتيم، شهادة الزور..)، كما وردت نواهي عديدة أتت في سياق التربية الصالحة وتقويم النفس (الاستغابة، التنابز بالألقاب، التكبر..).. وهذه لا خلاف عليها بين المسلمين، بل تكاد تتفق معها جميع النظم الإنسانية والأخلاقية..

ومع مرور الزمن، وتقدم المجتمعات، وتغير المعطيات، ظهرت أمور ومسميات ومخترعات وأنماط سلوكية لم تكن معروفة في زمن الرسالة، وهنا تصدى فقهاء الشريعة بالفتوى بشأنها على قاعدتي الاجتهاد والقياس.. وقد تفاوتت الفتاوى بين التشدد واللين، ولكن قسما من الفقهاء كانوا يختارون دوما التشدد، ويميلون للتحريم في معظم القضايا المستجدة..

سنأخذ أمثلة على التحريمات التي أفتى بها بعض الشيوخ؛ فمثلا بعد اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، أصدر السلطان العثماني فرمانا بتحريم المطبعة، أيده بذلك شيوخ الأزهر بفتوى صدرت عام 1515 بتحريم الطباعة، الأمر الذي أدى إلى تأخر دخول المطبعة العالم الإسلامى قرنين ونصف من الزمان! والأغرب أن الطبعة الأولى من القرآن (1694) لم تصل للمسلمين بسبب تحريم شيوخ الأزهر دخولها للبلاد الإسلامية !!وحتى في عهد "محمد علي" تصدى شيوخ الأزهر لمحاولات طباعة القرآن وأصدروا فتوى عام 1819 قالوا فيها: "إن مواد الطباعة نجسة، وأن طباعة المصحف حرام، ومن يطبعه كافر وعقوبته القتل"!! ولكن محمد علي كان حازماً فخاف الشيوخ وتراجعوا في عام 1832 وصدر بالفعل أول مصحف مطبوع في مطبعة بولاق ممهورا بخاتم مفتي الديار المصرية الشيخ التميمي.. وبعد وفاة محمد علي إنتهز مشايخ الأزهر الفرصة واستطاعوا إقناع الخديوي عباس حلمى بمصادرة المصاحف التي صدرت سابقاُ، ليصدر عام 1853 قرارا بجمع كل المصاحف المطبوعة وإعدامها، وبعد وفاة الملك فؤاد اعترض مشايخ الأزهر على بث الإذاعة لصوت المقرئ "محمد رفعت"، وتم بالفعل منع إذاعة القرآن في الراديو، وظل المنع ساريا حتى عام 1943. (الإعلامي فخري أبو كثير).

وفي بدايات القرن السادس عشر ظهر مشروب القهوة في مصر في رواق الطلبة المغتربين من أهل اليمن بالأزهر الشريف، فتصدى لها فقهاء الأزهر وفي مكة أيضا، واعتبروها من الخبائث، وأفتوا بتحريم شربها، وقالوا: " يُحشر شاربها يوم القيامة ووجهه أسود من قعور أوانيها". وفي عام 1572 شنَّ الفقهاء حملة عنيفة ضد القهوة، وتم تحطيم المقاهي ومعاقبة كل من سولت له نفسه بشربها! ووصل الأمر إلى صدور فرمان سلطاني بإعدام من يجاهر بشربها!

وربما فتاوى الأزهر هي الأشد غرابة وتطرفا، فمثلا ما زالوا يحرمون عرض فيلم "الرسالة" على التلفزيون المصري!

أما مشايخ الوهابية فلهم النصيب الأكبر من فتاوى التحريم؛ مثلا في مذكراته، ذكر الملك الحسن الثاني قصة عن الملك عبد العزيز مؤسس السعودية، حين خشي من ردة فعل فقهاء الوهابية من إدخال الراديو للملكة، الذين كانوا يحرمون الراديو ويقولون إن الجن هم من يتحدث فيه! فجمعهم قبيل موعد بدء بث الإذاعة المصرية للقرآن، وما أن بدأ البث حتى فتح المذياع بصوت المقرئ، ليفاجئهم بالسؤال: هل من الممكن أن من يقرأ القرآن من الجن؟

وعندما دخل "البسكليت" إلى السعودية بدايات القرن الماضي كان مشايخ نجد يطلقون عليه "حصان إبليس"، وكانوا يعتقدون أنه يسير بواسطة الجن ويعتبرونه رجساً، وإذا لامس أجسادهم أعادوا الوضوء، ولا يقبلون بشهادة سائقه، وكان اقتناؤه شُبهة. ومع مرور الوقت تقبل المجتمع استعماله على مضض، وبشروط صارمة وتراخيص تصدرها هيئة الأمر بالمعروف.

كما حرّم فقهاء نجد والحجاز استخدام الاتصالات اللاسلكية لإرسال البرقيات واعتبروها وسائل شيطانية، وفي الستينيات طالت فتاوي التحريم التلفزيون (وكانت من بين مبررات تمرد جهيمان)، وتوسعت التحريمات لتشمل الفيديو والكاسيت، والتصوير الفوتوغرافي، وصولاً إلى تحريم الستلايت، وفي مطلع الألفية الثالثة ظهرت فتاوي تحريم الإنترنت، وصدرت فتوى بتحريم الموبايل المزوّد بكاميرا، ليمنع دخوله إلى السعودية بضع سنوات.

وحتى قبل فترة وجيزة كان تحريم قيادة النساء للسيارات، وتحريم ممارستهن للرياضة، أو المشاركة في الحفلات العامة.. أما فتاوى تحريم الموسيقى والغناء والتمثيل والرسم والشطرنج والحفلات المختلطة فما زالت قائمة، ولكن مع توجهات المملكة الجديدة تم تجميدها، أو التراجع عنها.

وما زال مشايخ "بوكو حرام" و"طالبان" يحرمون التطعيم ضد شلل الأطفال، بدعوى أنه لقاح غربي يستهدف قطع نسل المسلمين. كما صدرت فتاوى مشابهة بتحريم استخدام حبوب منع الحمل، وكافة وسائل تنظيم الأسرة. طبعا إلى جانب تحريم "طالبان" التعليم للفتيات، ومع الضغوط الأمريكية تم السماح للفتيات بالتعلم حتى الصف السادس فقط، ومن بعد ذلك يصبح حراما!

وفي بدايات ما سمي بالصحوة، كان مشايخ الإخوان من أكثر مصدري فتاوى التحريم، وأعدُّ نفسي شاهد عيان على ذلك، وأذكر موجة تحريمات شملت: تناول المرتديلا، وجبنة المثلثات، والكولا، ومتابعة دوري كرة القدم، وارتداء شورت رياضة، مشاهدة التلفاز، السينما، الاستماع للأغاني، لعب "الشدة"، مخالطة الكفار، وخاصة أهل الذمة..

نلاحظ في كل مرة مع ظهور اختراع جديد، أو شيوع ظاهرة معينة يتشدد شيوخ السلاطين وفقهاء الوهابية والأزهر بالتحريم (وليس التحذير) ثم مع تغير الحاكم، أو تطور المجتمعات، وتغير المعطيات يتراجعون عن فتاواهم، ويقدمون التبريرات بكل خفة، فمثلا كان النحت والرسم والتصوير حراما، ثم صار حلالا، لا بل تم الاستفادة منها في الحملات الانتخابية، وفي نشر الفكر الوهابي.

وكان الشيخ الشعراوي قد أفتى بتحريم غسيل الكلى، وتحريم التبرع بالأعضاء، وتحريم استخدام غرفة الإنعاش في المستشفيات لإنقاذ المريض لأن هذا يتعارض مع إرادة الله! ولما مرض في كبره أباح لنفسه العلاج في المستشفيات الحديثة.

وطبعا لم نتطرق هنا للفتاوى التحريمية العجيبة خاصة من قبل شيوخ الفضائيات، مثل فتوى العريفي بتحريم خلوة الأب مع ابنته! الأمثلة التي سقناها فتاوى تحريمية كانت قاطعة مانعة في حينها، ثم صارت حلالا زلالا فيما بعد.

لماذا كل هذه الخفة في الإفتاء؟ والمسارعة إلى التحريم؟ مع إن الدين يسر وليس عسر!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق