أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 13، 2023

حروب غزة والمشهد السوريالي

                                                                            (1~2)

مع كل حرب عدوانية تشنها إسرائيل على غزة نجد أنفسنا أمام مشهد سوريالي: قبل اندلاع الحرب، وبعد كل جريمة احتلالية ننتظر بفارغ الصبر رد المقاومة، ونترقب بشغف وشوق بدء إطلاق الصواريخ.. وبعد اندلاع الحرب، ومع مشاهد القصف والدمار نبدأ بترقب وانتظار التوصل إلى تهدئة أو هدنة.

ثم ننقسم (كعادتنا) بين مؤيد للمقاومة في كل تصرفاتها، وبين معارض، ومتحفظ.. المؤيدون يوافقون وبلا تحفظ على كل تصرفات المقاومة، ويبررون لها كل ما تفعله؛ إذا سكتت وانتظرت فهي حكيمة، وإذا ردت بعد وقت فلأن لديها حسابات دقيقة، وإذا ردت مباشرة فهي حكيمة أيضا وتريد كسب عنصر المفاجأة، وإذا ردت بقوة وبصواريخ تصل إلى تل أبيب فلأنها شجاعة والمعركة تتطلب إبراز أقصى مديات القوة ولا يهم حجم ردة الفعل الإسرائيلية، وإذا أطلقت صواريخ قصيرة المدى فهي حكيمة أيضا لأنها لا تريد استفزاز العدو لدرجة استدراجه لردة فعل عنيفة ومدمرة، ولتجنب الخسائر المدنية، وإذا استمرت الحرب فترة طويلة وتشددت في فرض شروطها فالأمر يستوجب تقديم تضحيات جسيمة، وإذا قبلت بالتهدئة دون شروط ودون تحقيق مكاسب فهي محقة ومعذورة، مشاركة حماس وانخراطها في الحرب بطولة، وعدم اشتراكها وحياديتها حكمة.. في كل الأحوال المقاومة صائبة ولا يجوز انتقادها أو محاسبتها أو مساءلتها..

في الجانب الآخر سنجد من ينتقد المقاومة مهما فعلت؛ إذا تأخرت في الرد فهي جبانة، وإذا ردت فهي متهورة، إذا أصابت الصواريخ أهدافها فهي تقتل المدنيين، وإذا لم تصب فهي صواريخ بلا جدوى، إذا قبلت بالهدنة سيقولون خاضت حربا عبثية بلا طائل، وإذا تشددت سيقولون لا يهمها مصير الشعب، فالاستمرار انتحار والتوقف جُبن، إذا حفرت خنادق وطورت تقنياتها الصاروخية سيقولون أنها تضيع الجهود والأموال، وإذا لم تحفر ولم تطور سيقولون أنها لم تستعد جيدا للمعركة.. في كل الأحوال المقاومة مخطئة ويتوجب نقدها ومحاسبتها.

المفارقة الغريبة أن كل هذا الجدال ينتهي ويتوقف كليا بعد يوم أو يومين من انتهاء المعركة، ويعود المنظّرون إلى حياتهم الطبيعية، فيما يظل الضحايا والغلابا يكابدون المعاناة ويتجرعون ويلات الحرب بقية حياتهم.

ربما نجد جانبا من الصواب في رأي الفريقين، فليس هناك حقيقة مطلقة، المشكلة في النظر إلى الموضوع من زاوية ضيقة، وبرؤية واحدة، وبمنطق تبريري، أو هجومي..

صحيح أن منظر الصواريخ أثناء انطلاقها، وهي تشق عنان السماء، وتنير ليل غزة المعتم، وترسم خطها السائر بعزيمة نحو عدو غاصب، هو منظر مثير ومبهر، ويرفع المعنويات، ويزيد من دفقات الأدرينالين، باعتباره علامة قوة، ودليل منعة واستنهاض، وعند البعض لإشفاء الغليل، وإطفاء نيران الثأر والانتقام..  لكن إذا رأينا الصورة من الجانب الآخر، سنجد آثار القصف والدمار، والرعب الذي يتملك الأهالي وهم يسمعون دوي الانفجارات، وترتج قلوبهم مع كل قذيقة تدك بيوتهم، وينتظرون بخوف وهلع سماع خبرٍ سينزل عليهم كالصاعقة..

وهنا نتحول إلى ساحة صراع داخلي، التهليل لمظهر القوة، وعنفوان الصواريخ. أم التأسي والحزن على معاناة الناس، ورعب الأطفال، ونحيب الأمهات، ولوعة الآباء، على خسارة فلذات أكبادهم، وتهدم بيوتهم..

وهنا أيضا سنجد إجابة تقليدية جاهزة: تهون النفوس وترخص الدماء فداء للنصر وثمنا للتحرير، والمقاومة تستوجب تقديم التضحيات، ولم يتحرر أي شعب دون تضحيات.. سيقابلها إجابة جاهزة: هل هذا الأسلوب من المقاومة هو الذي سيجلب النصر وسينجز التحرير؟

لو كانت الصورة بهذا النقاء والوضوح لوجدنا كل الشعب موحدا خلفها، وبلا تردد، ولن تجد رأيا شاذا؛ فمن منا لا يتوق للتحرير؟ ومن منا لا يود التخلص من الاحتلال؟ لكن الصورة وللأسف ليست بتلك البساطة التي تبدو عليها، وهناك الكثير من العناصر والعوامل التي دخلت عليها، وجعلتها على هذه الدرجة من التعقيد والتشابك والغباش..

فنحن مختلفون حتى الآن على صورتنا التي يتوجب تقديمها للعالم: هل نحن ضحايا؟ أم منتصرون؟ هل فعلا لدينا قوة صاروخية تضاهي قوة العدو، فنظهر أمام العالم جيشاً مقابل جيش، وصواريخ مقابل صواريخ، ورعبا مقابل رعب؟ علما أنّ هذه الصورة خادعة ولا تمت للحقيقة بصلة.. وقد دفعنا ثمنها غاليا؛ صورة المستوطن الهارب والمختبئ في ملجئة الأمين دفع ثمنها الطفل الذي أصيب بنوبة ذعر أودت بحياته، ومئات الآلاف من الأسر التي تبيت مرعوبة، وصورة الصواريخ المبهرة دفع ثمنها 4086 شهيدا في ستة حروب، وآلاف البيوت التي تهدمت ولحد الآن أصحابها في العراء.

ومع ذلك، يجب أن ندرك أن الصورة مهمة، فالحرب ليست حرب صواريخ وحسب، بل هي حرب نفسية، تلعب فيها الصورة والأغنية واللوحة دورا كبيرا. ولكن الخشية أن يوجه البعض حربه النفسية إلى الداخل، بدلا من توجيهها للعدو وللخارج، أي لتحسين مكانته الحزبية بعد سكوت المدافع.

هذا الصراع الداخلي طبيعي، والاختلاف في وجهات النظر مشروع، ولا ننكر وجود تيار نخبوي مصاب بمتلازمة استوكهولم، ممن يلقون باللوم على الضحية، ويبرئون المجرم، يدعون للتساوق مع الاحتلال والتكيف معه، وأقصى طموحهم تحسين شروط العبودية، وهؤلاء يختبئون خلف دعاوى إنسانية زائفة، وتباكي على الضحايا. ولكن، أحيانا تفشل الضحية في إبراز مظلوميتها، فلا يكفي أن تكون صاحب حق، الأهم كيف تنتصر لهذا الحق، وبأي أسلوب. وليس كل من يدعو للتعقل وترشيد المقامة جبان، وليس كل من يدعو للنظر والانتباه إلى ضحايا العدوان مدع. فنحن لا نطلع على خفايا القلوب، وليس من حقنا إصدار الأحكام.

خوض النضال لا يقوم على حسابات الربح والخسارة (فهي ليست تجارة)، ولا بتهور واندفاع (إن لم يكن للحفاظ على الشعب، فعلى الأقل لضمان تحقيق التصر)، نحتاج عقل السياسي الحكيم، وحسابات الإستراتيجي الباردة والصماء، واندفاع الفدائي الشجاع، وهذا هو التحدي الذي أخفقنا فيه مرارا وتكرارا..

(2~2)

مع صعود كل تنظيم يبدأ بخوض تجربته العسكرية والسياسية الخاصة، بمعزل عن التجارب السابقة، في كل مرة نبدأ من جديد، لا يرغب أحد بالاستفادة من تجارب الماضي، فليس من شيمنا أخذ العبر، وتقييم الدروس، يظن البعض أن النضال الفلسطيني بدأ معه فقط.. لأننا نتعامل مع "المقاومة" بتقديس وبنهج تبريري، ولا نقدم لها أي مساءلة أو نقد.. فهذه من المحرمات.. نتعامل مع شعبنا كحقل تجارب (وبالذات في غزة)، فغزة بالنسبة للبعض مجرد ميدان للمعارك، وليس فيها مليوني إنسان!

عندما خاضت حماس الجولات الأولى من الحروب العدوانية أيدناها بكل قوة، ولم يقل أنصارها أن ذلك كان تهورا ومغامرات غير محسوبة، رغم ارتفاع أكلافها المادية والبشرية والمعنوية، وعندما لم تشترك في آخر جولتين من الحروب العدوانية، قال أنصارها إن ذلك حكمة منها، وحرص على مقدرات الشعب، وتقدير دقيق لموازين القوى، وتجنب خوض حربا خاسرة سلفا! وهذا يضعنا أمام أسئلة محيرة: هل كانت حماس آنذاك تفتقر لهذه الحكمة، ولم تقدر الأمور جيدا، واليوم نضجت تجربتها وصارت حكيمة؟ وهل على الجهاد خوض نفس المسار والوصول إلى نفس النتائج؟

إذا كانت الصواريخ هي الأسلوب الرئيسي والمعتمد في المقاومة، فلماذا لا نقيم هذه التجربة بروح وطنية مسؤولة؟ مع الإقرار بأن المقاومة أنجزت تطويرا مهما ومذهلا على الصواريخ، في الفاعلية، والمديات، ودقة التصويب، وأنها جعلت منها أداة ردع مهمة، وأحد الشواهد الرائعة على ديمومة النضال ورفض الذل ومقاومة الاحتلال، وإدامة الصراع..

ولكن وبالنظر إلى الجولات الست الماضية سنجد أولا أن أغلبها اندلعت كرد فعل من المقاومة على اغتيال شخصيات قيادية (أما استشهاد المواطنين العاديين، وجرائم إسرائيل السياسية فلا تستوجب حربا). وثانيا أن سقف مطالب المقاومة للتوصل إلى تهدئة كان يهبط في كل مرة، من المطالبة برفع الحصار، وميناء، ومطار، ومساحة الصيد.. حتى وصلت آخر مرة إلى المطالبة بوقف الاغتيالات (من المعروف ضمنا أن المقصود وقف اغتيالات القيادات والكوادر). وثالثا أن المقاومة أخفقت في ربطها في البعد السياسي، أي وضع اشتراطات ذات صبغة سياسية (وقف الاستيطان، تهويد القدس، إجراءات الضم، الدخول في مفاوضات سياسية..). ورابعا: قدمت للعالم صورة خاطئة ظهر فيها الإسرائيليون كضحايا مدنيين مرعوبين من الصواريخ. وخامسا: وبعيدا عن المقارنات غير العادلة في عدد الضحايا وحجم الدمار (على الجانبين) حتى في سياق هدف خلق الرعب، أو "توازن الرعب"، سنجد وللأسف أن عدد سكان مستوطنات غلاف غزة قد ازداد من 42 ألف إلى 55 ألف ما بين عامي 2009، و2022، والمفارقة المحزنة أن الإسرائليين نظموا حفلا غنائيا صاخبا حضره عشرات الألوف في إحدى حدائق تل أبيب في مساء اليوم الثالث من الحرب.

وهنا يجب أن نتساءل عن التراكمات السياسية والنضالية التي بنتها تلك الحروب، ومن ثم كيف نعمل جميعاً على ربطها بالسياق النضالي الفلسطيني ماضيا ومستقبلا، وكيف نحول دون جعلها مجرد مكاسب حزبية، أو لتجييرها لمصالح أطراف خارجية. وكيف نبني إستراتيجية مقاومة شاملة، بحيث يتفق عليها الجميع، فصائل وقوى وجماهير، وتراعي قدرات الشعب وإمكانياته، وتقدر الموقف بشكل عقلاني يراعي نقاط الضعف والقوة لدى جانبي الصراع، وكل ما يتعلق بإدارة الصراع من حسابات ومعادلات سياسية.

وختاما، يجب أن ننظر بإجلال وإكبار إلى "الجهاد الإسلامي" ودوره البطولي، فهذا التنظيم الفدائي ومعه سائر الكتائب المسلحة من جميع الفصائل أدار المعركة بشجاعة واقتدار، وسطّر صفحة جديدة في سجل الفداء، وتاريخ النضال الفلسطيني، وقدم خيرة قياداته وشبانه على مذبح الشهادة، بدءا من الشهيد فتحي الشقاقي، وصولا إلى الجندي المجهول الذي يحمل روحه على كفه وهو يلقم الصاروخ، ويربت عليه قائلا: سلِّم على بلادي.. ولكن اشتراطه الوحيد لإنهاء المعركة بدا غريبا، فكان أجدى به اشتراط وقف قتل المدنيين ووقف قصف البيوت، وهو مطلب عادل ومشروع ويضع إسرائيل في الزاوية الحرجة، فإذا قبلت به ستعمق من مأزق الحكومة الإسرائيلية، وتبرز فشلها، وإذا رفضته ستفضح نفسها أمام العالم. وهذا أفضل وأقوى من شرط وقف اغتيال القيادات، فالقائد الذي سار على هذا الدرب يعرف أنه منذور للشهادة، وهو ليس كمن اختار مغادرة البلاد ومتابعة النضال من فنادق الدوحة وأسطنبول!

شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج (ومعنا كل الشعوب العربية) لم يتوقف يوما عن دعمه وإسناده للمقاومة، وهو مستعد دوما أن يشكل حاضنة دافئة لها، وأن يضحي من أجلها بأغلى الأثمان.. ولكن هذا يتحقق وبلا حدود حين تكون المقاومة موحدة، وهدفها وطني فلسطيني واضح لا لُبس فيه، وليس لخدمة مشاريع أيديولوجية عابرة للحدود، وليس فيه تدخلات أجنبية، ولا يخدم أجندات سياسية لقوى إقليمية تتعامل مع القضية الفلسطينية كورقة مساومة ولتقوية شروطها التفاوضية، وتحسين مكانتها الإقليمية، ولا يأتي في سياق الصراع الداخلي والتنافس الحزبي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق