أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 29، 2022

أبو وحيد


الليل في "الكوانين" طويل جداّ.. وبارد جداً، وشديد الحلكة، خاصة في الليالي الممطرة.. وحتى لو نمت عشر ساعات كاملة تظل نومة الصبح هي الأشد متعة، يعز عليك النهوض وترك دفء فراشك.. وتسأل نفسك في كل مرة: هل من شيء يستحق من أجله النهوض؟  

مطَّ ذراعيه بتكاسل، وأزاح عن جسده طرف البطانية، وقال لنفسه مع ابتسامة متكلفة صباح الخير.. ورد بابتسامة مشابهة صباح النور.. أطل من النافذة على الشمس التي بدأت تتهيأ للخروج على الدنيا، ملأ إبريق القهوة بالماء، وأشعل تحته النار، ثم دلف إلى الحمّام، وعلى عجل أنهى عملياته الفسيولوجية المعتادة، فتح صنبور المغسلة وسكب على وجهه الماء البارد، عاد إلى إبريق القهوة، كان الماء على وشك الغليان، لقّمه بالبن المحروق، وانتظر تكوّن الفقاقيع، وصعود الرائحة الطازجة إلى أنفه، ثم ملأ فنجانه وأخرج سيجارة "سيدرز" وأشعلها، لم يتبق له سوى باكيت واحد من آخر "كروز" مهرب من لبنان، جـرّ نفسا عميقا حتى شعر برئتيه وهما تمتصان النيكوتين على مهل، وبشرايينه وهي تنقله إلى دماغه بهدوء وتصميم.. وشيئا فشيئا دب فيه النشاط.

الصبح في السويداء هو الأجمل في سورية، والأكثر دفئا وحضورا، هكذا يظن أمجد، وهكذا أيضا يقول أهل الشام عن صباحاتهم المشرقة. والسويداء، لمن لا يعرفها، مدينة ذات وجه بشوش وطلق، تبدو في ظاهرها جميلة وهادئة، ولكنها تخفي خلف وداعتها صورة أخرى، فيها مئات الحكايات التي يلفها الغموض والإثارة والأساطير؛ عن الدروز، والمسيحيين، والبدو ونزاعاتهم القديمة، وقصص الثأر والسلب والحب المستحيل، عن بيادر القمح، وكروم الزيتون ورائحة الطيون، عن عجز "الباب العالي" عن احتوائها، وتمردها على جند الأتراك، وثورتها على المستعمر الفرنسي، عن الفلاحين وبساطتهم، والإقطاعيين وسطوتهم.. عن الذكريات البعيدة، والممتدة من سهل حوران حتى تخوم صحراء الشام.. وعن جبل العرب منذ تغنى به جرير قائلا: يا حبذا جبل الريان من جبل، وحبذا ساكن الريان من كانا..  

جلس أمجد خلف المقود، ودس المفتاح في ثقبه المخصص، ثم أداره فاشتعل المحرك بصوته الهادر، حدق في الأفق وتأمل زرقة السماء والغيوم الرمادية التي تقطعها إربا، فتح شباك سيارته ليتنسم هواء الصبح العليل، تذكر المكالمة المريبة التي تلقاها ليلة أمس:

-      آلو، أنت أمجد؟

-      نعم صحيح، بمَ أخدمك؟

-      أريدك أن تأتي بيتي غدا مساء.

-      طيب، إنت مين في الأول؟

-      أريد أن أصوّب مسارك، وأن أنبهك لأخطائك، قبل فوات الأوان، وقبل أن يأتي وقت لا ينفع فيه الندم.

-      من أنت بحق الجحيم؟

-      لا تتأخر.

-      وكيف سآتي منزلك، وأنا لا أعرفه، ولا أعرفك حتى؟

أقفل المتصل الخط فجأة، وترك أمجد في حيرة من أمره.. حتى ظن نفسه في حلم غامض..

 واصل مسيره جنوبا، وخلال نصف ساعة كان قد وصل إلى الكفر، مر منها مسرعا، حتى وصل حبران، ثم اتجه شرقا في الطريق المؤدي إلى سهوة الخضر ثم إلى تل اللوز.. شاهد قوس قزح يزين الأفق، تذكر المثل الشعبي "إذا طلع القوس صبحية دورلك على مغارة دفية"، يعني ذلك أن السماء ستمطر هذا المساء، وستهبط درجات الحرارة إلى حدود الصفر كعادتها في مثل هذا الوقت من السنة.. وصل إلى بلدة الحريسة، في الشارع الرئيسي، وبالقرب من مدرسة أبو عاصي الإعدادية توقف عند دكان صغير ليشتري باكيت دخان، وبعض المسليات والسكاكر تعويضا عن الفطور الذي فاته.. خاض حوارا سريعا مع صاحب الدكان، ثم دفع حسابه ومشى..

 في الطريق إلى الهويا لا وجود لأية لافتة، والمنطقة مقطوعة تماما، ومنفصلة عن بقية العالم، ولا مصابيح تنير الشارع، ولا دكاكين، ولا مطاعم، ولا حتى رعاة غنم.. فتح المذياع، كانت أغنية فهد بلان "واشرح لها"، عاد بذكرياته إلى سنين صباه، واشتعل في قلبه الحنين، وبينما كان غارقا في ذكرياته وصمته سمع محرك السيارة يصدر صوتا مريبا متقطعا، نظر إلى عداد الحرارة فرآه عند المؤشر الأحمر، دقائق قليلة كان المحرك قد توقف تماما وبالكاد منحه مترين ليصطف على جانب الطريق، نزل لتفقد الوضع، فتح غطاء الموتور، لم يستدل إلى سبب العطل، قام ببعض المحاولات اليائسة، ولكن دون جدوى.. السيارة عبارة عن كومة حديد..

وقف ينتظر سيارة مارة، وعلى أمل وصول نجدة من جهة ما.. وطال انتظاره.. تلبدت السماء بالغيوم الداكنة، وبدأت درجات الحرارة بالانخفاض وسرعة الرياح تشتد، دخل سيارته لتقيه من البرد؟ وبعد ساعات من الصمت الثقيل أيقن بأنه سيظل عالقا لأمد غير معلوم، خاصة وأن سيارته صارت بنفس برودة الخارج، قرر أن يواصل المشي على الشارع لعلّ أحدا يمر، أو يصل إلى خيمة بدوية من التجمعات المنتشرة في تلك المنطقة.. الهويا تبعد عشرة كيلومترات، وربما يجد قبلها بعض البيوت المتروكة فيأوي إليها حتى الصباح..

بعد ساعتين من المسير، كان الليل قد هبط، وبدأ الظلام يرخي سدوله، وبسرعته المعهودة.. شعر بخوف غامض، وسرعان ما كبر خوفه حتى افترسته الوساوس، توقع كل أنواع الخطر: قطّاع طرق، ذئاب، ضباع، الموت متجمدا، أن يجرفه السيل، خاصة وأن المطر بدأ بالهطول، وبغزارة غير معتادة..

أخيراً، لمح ضوءا شحيحا خلف التلال، أدرك أنه صادر من خلف نافذة.. اطمئن قليلا، وارتفعت معنوياته، وهرع بكل سرعته نحوه.. وخلال ربع ساعة وجد نفسه قبالة بيت حجري قديم متهالك، تحيطه أشجار صنوبر تترنح من شدة الريح، وينبعث من فتحة في سقفه دخان أبيض.. لم يتردد بقرع الباب وبكل قوة..

كان العجوز السبعيني يتهيأ للنوم، متدثرا ببطانية ثقيلة، وغارق في تأملاته.. فجأة، سمع صوتا قويا يطرق بابه.. انتفض على الفور، وسرت في بدنه قشعريرة رعب.. من هذا الذي يطرق بابي في هذا الوقت المتأخر؟ دس يده في الجارور المجاور لسريره، وأخرج مسدسه، ومشى ببطء صوب الباب، ألقى نظرة من خلف الستارة قبل أن يسأل من الطارق، فرأى شابا يافعا مرتجفا كأنه خارج من بركة موحلة.

استجمع قواه، وبصوت قوي سأل: من بالباب؟ فرد عليه صوت ضعيف مرتجف: أرجوك سيدي أريد أن احتمي من المطر.. بحذر شديد فتح الباب مصوبا مسدسه نحو الشخص الداخل بخطى بطيئة مرتعبة، أعاد عليه السؤال بصوت حاسم: من أنت بحق السماء؟

-      اسمي أمجد العبد، من السويداء..

-      وكيف عرفت عنواني؟ من الذي أرسلك؟ اعترف بسرعة..

-      أرجوك عمي، أنا أتيت إليك بالصدفة، لا أعرفك مسبقا، ولم يرسلني أحد.. كل ما في الأمر أن سيارتي تعطلت على بعد أميال من هنا، وخشيت أن أظل فيها فأتجمد بردا، فمشيتُ حتى لمحت ضوء شُبّاكك.. أرجوك أبعد المسدس عني..

مع كلمات أمجد المطمئنة، وصوته الضعيف الواهن الذي لا يوحي بأي تهديد، سرت في بدن العجوز بعض الطمأنينة، وخف توتره، لكنه ظل مصرا على التلويح بمسدسه.. أمره أن يقترب من المدفأة، وأن يجلس على الكرسي الخشبي دون حراك.. ثم قال له مهددا:

-      سأسألك بضعة أسئلة، وإذا كذبت عليّ سأطلق عليك النار فورا، ثم أرميك للذئاب لتتعشى على جثتك..

-      حسنا سيدي، اسأل ما تريد، وأعدك بأني لن أكذب.. ولماذا أكذب أصلا؟  

-      مرة ثانية سأسألك، من الذي أرسلك؟ وكيف عرفت عنواني؟

-      اقسم بالله لم يرسلني أحد، والصدفة اللعينة وحدها قادتني إلى هنا..

-      لعينة؟ أيها اللعين.. طيب، ماذا تريد؟ ولماذا أتيت بيتي بالذات؟

-      لا أريد شيئا، فقط أرجوك اسمح لي بالمبيت، لن أتحرك من مكاني، ولن أسرق شيئا، وفي الصباح أغادر على الفور.

أطلق ضحكة مجلجلة، ثم صرخ بغضب: تسرق؟ ماذا ستسرق أيها الغبي؟

همَّ أمجد بالحركة، فصرخ العجوز في وجهه: إياك أن تتحرك من مكانك.. حينها شعر أمجد بالحنق، وحاول كتم غضبه، ثم قال بهدوء: إسمع، طالما أنك تراني ضيفا ثقيلا، وتصر على تصويب مسدسك بوجهي، سأغادر الآن، وفورا..

-      وكيف تغادر أيها المعتوه؟ ألا تسمع صوت المطر؟ ألا ترى الرياح تكاد تقتلع الشجرة؟ ولو نجوت من البرد هل ستنجو من الذئاب؟ ستكون وجبتها الأولى منذ أسبوع، ستمزقك إربا.. فاجلس دون كلام، ولا تلعب دور البطل..

-      حسناً، سأجلس بهدوء، ولكن أنت من يسألني وأنا فقط أجيبك..

-      لي رغبة في الكلام.. منذ زمن طويل لم أكلم احدا.. هل تعلم أنك أول شخص يدخل بيتي منذ عشرات السنين؟

تنهد أمجد بعد أن أبعد العجوز مسدسه ووضعه على المنضدة إلى جانبه، لكنه أدرك أن التهديد ما زال قائما، وأنه بين خيارين أحلاهما مرُّ: الهرب ومواجهة كل مخاطر الليل من التجمد بردا والتيه في الصحراء والذئاب.. أو البقاء مع هذا المجنون الذي يهدد بقتله.. يا لها من ليلة ظلماء..

مضت نصف ساعة، تبادلا فيها حوارا عاما عن أحوال الطقس وأخبار البلد.. وشيئا فشيئا تولدت مشاعر خفيفة من الثقة المتبادلة، ولأول مرة منذ دخوله هذا البيت المريب يشعر أمجد ببعض الراحة، أيقن أن هذا الرجل العجوز لا يريد قتله، ولا يريده أن يغادر، بل هو خائف عليه.. أخذ يجول بناظريه في أرجاء البيت، ويستكشفه مترا مترا.. البيت عبارة عن صالة واحدة، لكتها واسعة نسبيا، على الزاوية مدفأة حطب تصعد منها أسطوانه حديدية تخترق السقف آخذة معها دخان الحطب المحترق، وعلى يمينها سرير خشبي رغم قِدمه يبدو بحالة جيدة، وفي الجهة المقابلة ما يمكن اعتباره مطبخا، منطدة خشبية فوقها طنجرة، بجوارها خزانة مفتوحة مكونة من رفوف ممتلئة بمرطبانات لبنة مكورة ومكدوس وزيتون ومخللات وجبنة وبعض المعلبات، وأواني مبعثرة وصحون فيها بقية طعامه، وسكين كبير يشبه البلطة، وقد أثارت خوفه أكثر من المسدس.. وعلى طاولة أخرى مجموعة من الكتب والمجلدات والدفاتر والأقلام.. تساءل في نفسه أيعقل أن هذا العجوز مثقف؟ ولم لا؟ شاهد في صدر الصالة صورة بالأبيض والأسود لسيدة عشرينية لم يميز ملامحها، فنور السراج الخافت بالكاد يضيئ ما حوله.. وفي آخر الردهة ستارة من المؤكد أنها تخفي وراءها المرحاض.. الشيء الوحيد الذي أثار استغرابه وجود عدد من المرايا القديمة موزعة في مواضع مختلفة من البيت، أغلبها مكسّرة أو متشققة أو مثقبة، فقال في نفسه: ولم الغرابة؟ فهذا العجوز نفسه كومة من الغرابة والتناقض!

مع الوقت، ألفت عيناه الضوء، فبدا له البيت نظيفا وأنيقا وحميميا ويبعث على دفء من نوع خاص.. تمنى أمجد في قرارة نفسه لو أن له بيتا مماثلا، يمضي فيه سنوات تقاعده بسلام وسكينة، بين الكتب والروايات، وفي أحضان الطبيعة، بعيدا عن صخب المدينة.. سأعيش فيه شيخوخة هادئة، سأمضي وقتي في التأمل وكتابة مذكراتي الشخصية، وربما أؤلف رواية.. ولكني سأربي كلبا..

تنبه العجوز أن أمجد يرتجف من البرد مثل عصفور مبتل، فطلب منه أن يخلع ملابسه بالكامل، حتى الداخلية منها، وأن يضعها قبالة المدفأة حتى تجف، فانصاع لطلبه دون اعتراض، وعاد كما ولدته أمه، وبدلا ن البكاء كان يرتجف، أعطاه بيجامة صوفية لونها بنفسجي داكن تزينها خطوط برتقالية، وكم تعجب حين ارتداها ووجدها على مقاسه تماما، شعر بالدفء والسعادة وشكره مشيدا بذوقه الرفيع..

جلسا متقابلين أمام المدفأة، وقام العحوز بدس حبات من البطاطا بين الجمر، وبجانبها وضع إبريق شايٍ اسودَّ واهترأ من كثرة ما تعذب فوق الجمر.. كان العجوز يطيل النظر في أمجد، يتأمله من رأسه حتى قدميه، ويحدق في عينيه تحديدا.. وفجأة قال: هل تعرف أنك تذكرني بأيام شبابي.. فأجابه بسرعة: وأنت تذكرني بأبي، تشبهه إلى حد كبير.. فرد بغضب وكأنه استدرك شيئا ما: أنا لا أشبهك أبدا.. أنت شاب يافع، في مقتبل العمر، وأنا رجل عجوز.. أنت طائش ومتهور، وأنا حكيم.. أنت تظن أن الدنيا كلها ستكون لك، وأنا أشعر أني فقدتها كليا، وليس لي رغبة بأيٍ من حطامها..

استغرب أمجد من ردة فعل مضيفه، وتأكد أنه رجل غريب الأطوار، فتارة يكون هادئا ثم يثور بلا سبب، تارة تفيض عينيه بالود والحنان واللهفة، ثم تتحولان إلى كتلة جمر، ثم يعود إلى شخص مسالم يبحث عن أنيس، لينقلب إلى شخص غاضب متوتر.. لكن أمجد استغرب من نفسه أكثر، فلماذا يهتم به؟ فهو مجرد عجوز خرف، يعيش وحيدا منبوذا، لا يتفقده أحد، وربما ليس له اسم في السجل المدني.. لكن فضول أمجد كان يزداد باضطراد، وقد بدأت تتولد تجاهه مشاعر غامضة، أحس بأنه يعرفه، وأنه التقاه في زمن مضى، وأنه بوسعه أن يصير صديقه، فهو يشبهه إلى حد ما: الشعر الخروبي المجعد والعينين البنيتين والطول نفسه.. الفرق في اللحية الكثيفة والتجاعيد الغائرة في وجهه.. وربما يعيش معه هنا، ولمَ لا؟ هكذا قال في نفسه، ثم قال موجها حديثه للعجوز بنبرة مؤدبة:

-      لم أتشرف بمعرفة اسمك..

-      اسمي عبد المجيد، لكنهم ينادوني أبو وحيد.

-      عادة، من يعش وحيدا، وتمضي عليه سنوات طويلة دون أن يكلم أحدا يفقد مهاراته في الكلام، وأنت ما شاء الله طليق اللسان!

-      من قال إني لا أكلم أحدا؟

-      أنت بنفسك قلت أنه لم يدخل بيتك أحد منذ عشرات السنين؟

-      أنا قلت هذا؟!

-      نعم صحيح..

-      با ابني لا تأخذ كلامي حرفيا، أنا فعلا لا يزورني أحد، ولكنهم يأتونني في المنام، كل ليلة تقريبا يأتي شخص تائه مثلك، ويطرق بابي ويرجوني أن يبيت عندي حتى الصباح..

تذكر أمجد حواره السريع مع صاحب الدكان، حين قال له ربما تصادف شخصا اسمه أبو وحيد، وهو إنسان طيب وبسيط، لكنه معقد وغريب الأطوار.. وأن الناس تتناقل عنه حكايات كثيرة ومتناقضة، منهم من يقول إنه هارب من ثأر عشيرة أخرى، وآخرون قالوا إنه مجرم خطير وهارب من الدولة، وأنه مطلوب للمحكمة، وقالوا أيضا إنه فنان عبقري قرر اعتزال الناس، وأنه عابد متصوف اختار صومعة نائية، وأنه مجنون أو يعاني من مرض عصبي نادر.. قرر أمجد أن يستكشف الحقيقة..

-      كيف تدبر أمورك الحياتية يا أبا وحيد؟ أقصد هل تشتغل مثلا؟ من أين تأتي بالطعام؟ كيف تقضي وقتك؟ أليست لك زوجة؟ أولاد؟

-      كل هذه الأسئلة دفعة واحدة؟ ثم ما شأنك أنت؟

-      لدي فضول أن أعرف لماذا تعيش منعزلا بعيدا عن الناس؟

-      قلت لك لا شأن لك، أنا حر، أختار نمط الحياة الذي يعجبني.. ثم أنت هنا لتجيب على أسئلتي أنا.. فأنا من أحضرك إلى هنا.

-      كلا، أنا حضرت إلى هنا بنفسي، وبالصدفة.

-      ألا تتذكر مكالمة الأمس؟ حين طلبت منك أن تأتي بيتي مساء، لأصوّب مسارك، وأجنبك بعض الأخطاء قبل أن تقع الفأس بالراس، وقلت لك لا تتأخر؟؟

هنا صُعق أمجد من المفاجأة، وتملكته الحيرة والاضطراب، اتسعت حدقتيه، وفتح فمه وكأنه أصيب بنوبة ذعر.. فسأله على الفور، وباستغراب شديد:

-      كيف حدث ذلك؟ ولماذا اتصلت بي؟ وكيف عرفت رقمي؟

-      من الذي اتصل بك؟

-      أنت..

-      أنا !!

-      نعم أنت، وقد اعترفت بذلك للتو..

-      وكيف اتصل بك أيها الأحمق؟ وليس عندي تلفون! ولا حتى كهرباء! ومن أين لي أن أعرفك أساسا؟

-      لكنك قلت قبل قليل أنك اتصلت بي، وبالفعل ذكرت نص المحادثة!!

-      يا ابني لا تأخذ كلامي حرفيا، فأنا عجوز خرف، ويقولون عني أني مصاب بالزهايمر.. وأني أهذي دائما..

لم يقتنع أمجد برده، وظل في حيرة من أمره، وازداد قلقه، حتى تحول إلى رعب، خاصة بعدما قام أبو وحيد بإطفاء السراج، بحجة توفير الكاز، وهو في الحقيقة يريد التهرب من الموقف.. عمَّ الصمت المكان، وسادت عتمة رهيبة لم يبددها سوى الضوء الخافت لألسنة اللهب المتصاعدة من المدفأة.. وفجأة لمع برق اخترق ضوءه الشباك، تبعه بعد ثوان هدير رعد مخيف، هزَّ أركان البيت لدرجة أن أمجد تجمد في مكانه، أما أبو وحيد فراح في نوبة بكاء..

اقترب أمجد من العجوز، ونظر فيه عينيه الدامعتين، وسأله بمنتهى اللطف:

-      قل لي بربك، من أنت؟

-      أنا مجموعة قصص حكيتها لنفسي، وصدقتها.. أجاب مع تنهيدة طويلة..

-      وما هي قصتك، ولماذا لا تصدقها؟

-      في كل صباح، أستيقظ غريبا، أحس أني لا أعرفني، وكأنّي أتيت من عالم آخر، ومن زمن مضى..

-      أنت إنسان طبيعي، عادي، تخطئ وتصيب، لك حسناتك وسيئاتك..

-      لا يا ابني، أنا سلسلة لا متناهية من الأخطاء والعثرات.. ولهذا استدعيتك، لأصحح بعضا منها..

-      عدت للقول أنك استدعيتني؟!

-      لم يكن ذنبي أني بحثت عن السعادة، لكن ذنبي أني كنت أبحث في العنوان الخطأ، وبالأسلوب الخطأ، وكنت أتمادى.. وأكابر..

قام أبو وحيد من سريره، وتوجه نحو المدفأة، وزودها ببعض الحطب، ثم أدار وجهه تجاه أمجد:

-      قل لي، هل تزوجت بعد؟

-      نعم صحيح، كانت لي زوجة رائعة، لكننا انفصلنا بعد أن أنجبت ولدا وبنتا وخمس سنوات من المعارك شبه اليومية..

-      حمار.. غبي..

-      ماذا؟ من الغبي؟ ولماذا تلومني أنا؟

-      أولاً لأنك تسميها معارك، وثانيا لأنك هُزمت بها، وتركتني أعاني الوحدة وأتعذب بالندم..

-      وما دخلك أنت؟

-      ألم أقل إنك حمار؟ تترك منار، التي نذرت نفسها لتضيء لياليك المعتمة، والتي صبرت عليك وتحملت أنانيتك..

-      كانت متطلبة..

-      كل ما كانت تطلبه بعض الاهتمام، كلمة حلوة، قليلا من الحب، تحرك مشاعرك، أن تنتبه لها، أن ترى دمعتها، أن تضمها وقت الكرب.. وأنت منشغل بذاتك، وبعملك ومشاريعك الغبية..

-      لم يكن لدي الكثير من الوقت..

-      هذا الوقت الذي لم تجده، سيفقدك أولادك.. سيتخلون عنك بكل بساطة..

-      كل هذا صار ورائي.. وأنا الآن في مشاكل أخرى، أكبر وأهم..

-      أنت السبب.. فما زلت غارقا في أوهامك المريحة، تطارد السراب، وتخوض حروبا بلا معنى..

-      بل أنت السبب.. أنت الذي لم يتعود على الاعتذار والتراجع.. وما زلتَ مصرا على عنادك.. تواصل الهروب من ذاتك، معتكفا في هذا الجحر التافه.. تجتر الماضي.. كم مرة رجوتك أن تعيد حساباتك؟ أنت لست أقل أنانية مني.. بل أكثر غباء..

اشتد الجدال بين الاثنين، وصار غضباً، وعلا صراخهما، ثم اشتبكا بالأيدي، وتبادلا اللكمات والشتائم، وفي حركة مباغتة لكمَ أمجد العجوز على وجهه فأوقعه أرضا، نجا من اللكمة الثانية وزحف نحو سريره وأخرج مسدسه من تحت البطانية وصوبه نحو أمجد الذي كان واقفا أمام المرآة، وينظر إليه برعب، وقد أدرك أن نهايته باتت وشيكة، وبالفعل داس العجوز على الزناد، لكن الرصاصة لم تنطلق، فرمقه أمجد بنظرة غاضبة، وقال له بنبرة استعراضية: كنت أعرف أن المسدس غير محشو، وأن رصاصاتك نفدت منذ زمن بعيد، فغضب العجوز حتى احمر وجهه، وتناول العصا الحديدية التي يقلّب بها جمر المدفأة، وعاجله بضربة خاطفة قوية حتى أنها اخترقته ووصلت إلى المرآة، لتكسرها على الفور وتحيلها إلى نتفٍ صغيرة..

أراد أن يتبعه بضربة ثانية وثالثة ليتأكد من قتله، فلم يجده، لقد اختفى تماما.. وكأنه لم يكن.. صرح بجنون: أين ذهبت أيها الحقير؟ وكيف اختفيت بهذه النذالة؟ فتشَ أرجاء الصالة كلها دون جدوى، حتى أنه لم يعثر على صورته في المرآة، فقد تحولت إلى شظايا متناثرة..

راح في نوبة نواح وبكاء، حتى ارتمى على الأرض وغط في سبات عميق..

في مساء اليوم التالي، وقبل أن يأوي إلى فراشه، أخرج هاتفه من الدرج..

-      آلو، أمجد.. تعال غداً في نفس الموعد، أريد أن أصوب مسارك، سيأتي وقت لن ينفع فيه الندم.. أرجوك لا تتأخر..

-      أنت مجددا؟ ألن تخبرني من أنت؟ طيب أين عنوانك على الأقل؟

من منزله في شارع الشهباء في حي المساكن، غرب السويداء، وقبل أن يشرب قهوته الصباحية حمل أمجد هاتفه وأتصل برقم مجهول:

-      آلو، أبو وحيد.. كيف حالك، وما هي أخبارك؟ لماذا تتجاهل مكالماتي؟

-      من أنت بحق الجحيم؟ أرجوك كفّ عن إزعاجي، ولا تتصل بي مجدداً، أتركني في عزلتي أعيش آخر أيامي بهدوء، وأنهي حياتي بسلام.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق