حتى لا نقع في فخ التنميط، أو مغالطة التوصيف على أسس عنصرية، وإطلاق الأحكام العمومية المطلقة.. لا أحبذ استخدام مقولات مبنية على تلك الأسس، تصف المرأة الفلسطينية ب"الخارقة"، وأنها "أقوى نساء الأرض"، وأنها "متميزة عن الأخريات".. فالمرأة بشكل عام، تاريخيا، وفي كل مكان حول العالم كانت قوية وشجاعة ومتميزة، وأثبتت جدارتها في المحن والصعاب، بل إنها من وجهة نظري متقدمة على الرجل في سلم التطور البشري الإنساني ومتفوقة عليه بسمات عديدة.. وللنساء فضل كبير على الإنسانية، وقد أحدثن الكثير من التغيرات المهمة في التاريخ، مع أن المرأة كانت هي الضحية الأولى دوما في الحروب والنزاعات وحتى في حالات السلم والرخاء..
ولو نظرنا إلى
حال المرأة العربية الآن، وتتبعنا المآسي والكوارث التي ألـمّت بها، وحجم القمع
والاضطهاد المسلط عليها، والظلم الذي تتعرض له، ورأينا في الوقت ذاته صبرها
وثباتها وعطائها وإبداعها رغم كل شيء، وبشكل خاص في البلدان التي ابتليت بالحروب
الأهلية كما حصل في العراق وسورية وليبيا واليمن.. سندرك مدى عظمة المرأة..
ومع ذلك، بل
وفي السياق ذاته لو درسنا واقع المرأة الفلسطينية، سنخرج بنتائج شبيهة، بل وسنعثر
على سمات وخصائص وحالات انفردت بها المرأة الفلسطينية دون سواها، وأثبتت من خلالها
مدى قوتها ومقدار عطائها وحجم تضحياتها.. والسبب في ذلك طبيعة الظروف الموضوعية
التي مرت بها المرأة الفلسطينية، وحجم التحديات التي واجهتها، وإن كانت هذه الحالة
تبدو جلية في ظرفنا الراهن، أي في ظل الاحتلال، إلا أن القصة ابتدأت قبل ذلك
بكثير.. من أيام الكنعانيين..
فمنذ
البدايات، لعبت المرأة الفلسطينية دورا محوريا في صيانة الهوية الوطنية وحماية
التراث الفلسطيني، بل إنها كانت مساهمة أساسية في صناعتهما من الأساس، من خلال
ثوبها المطرز والمزين بالرموز الوطنية، ومن خلال منتجاتها اليدوية، ومن خلال خبز
الطابون، والأطباق الشعبية، ومشاركتها جنبا إلى جنب مع بقية أفراد العائلة في
أعمال الزراعة والتحطيب وتأمين مونة البيت، ورعاية الأسرة، وتربية الأولاد.. ومن
خلال الأغاني والأهازيج التي تصدح بها في الأعراس، وفي المناسبات الاجتماعية..
ومنذ بداية
الهجمة الاستعمارية وفي زمن الانتداب البريطاني كان للمرأة الفلسطينية دورا هاما
في الكفاح الوطني. وخاضت منذ ذلك الوقت المبكر معترك النضال، واعية لدورها الوطني
والمجتمعي، ومشاركةً في فعاليات الكفاح والمقاومة السلمية بالرغم من التقاليد
الاجتماعيّة المعيقة. وتمثلت أدوارها في تشكيل الجمعيات، والمشاركة في الإضرابات،
والفعاليات الاحتجاجية، وفي إسناد الثوار، بل وانخراطها الفعلي في الأعمال
العسكرية.. دون أن تتخلى عن أدوارها في البيت وفي المحيط الاجتماعي.
ولما انطلقت الثورة في منتصف الستينيات
لم تتأخر المرأة الفلسطينية عن الحضور والمشاركة بقوة؛ في العمل النقابي، وفي
الاتحادات، والمشاركة السياسية والحزبية، والعمل التطوعي، وفي العمل السري، وحتى
في العمليات الفدائية..
خلال
الانتفاضة الأولى (1987) برزت مشاركة المرأة بشكل لافت ومهم، وقد زادت المساحة
المتاحة لها لتتحرك ضمنها. فقد كانت تلك الانتفاضة شكلا متقدما وناضجا من المقاومة
الشعبية. وعند دراسة تلك التجربة الرائدة، سنجد أنها أحدث تغييرات إيجابية مهمة، وخلقت
نوعا من المساواة المجتمعية حيث حيدت القوى الاقتصادية والدينية المسيطرة، وفرضت
قوى جديدة مثلتها المجموعات الشبابية وفصائل العمل الوطني.. وأيضا محاولتها تفكيك
القوى العشائرية، وتفكيك النظام الأبوي البطريركي، وإعادة ترتيب العلاقة بين المرأة
والرجل وبين الأب والأبناء..
بيد أن هذه
المنجزات، وبدءا من العام الثاني للانتفاضة، بدات بالتراجع والنكوص عما كان متحققا
من حياة مدنية وفكرية مستنيرة، وحضور قوي للمرأة.. فبعض اللجان الشعبية (خاصة
المحسوبة على التيارات الإسلامية، وحتى من فتح) فرضت بطرق عديدة على المرأة أن
تلتزم بالحجاب، وقيدت حركتها، وفرضت على المجتمع مجموعة من القيم المستمدة من
أيديولوجيات الإسلام السياسي والفكر السلفي المحافظ، مثل حظر الاختلاط، ومنع كل
أشكال الفرح والاحتفال بالحياة، ثم دخلت في مرحلة من الفوضى، والانحراف عن الهدف
المركزي المتمثل بمقاومة الاحتلال، بخلق أهداف مركزية أخرى وجعلها في المرتبة
الأولى مثل التصدي لظاهرة العملاء، وفرض أنماط معيشية معينة على المجتمع.
وفيما يتعلق بمقولة أن "الانتفاضة منحت
المرأة الفلسطينية مكانة متقدمة" صارت بحاجة إلى مراجعة وتدقيق بعد كل تلك
السنين، فما حدث فعليا أنَّ المرأة هي التي انتزعت تلك المكانة دون منحة من أحد،
ودون قرارات عليا، فمارست دورها النضالي في مواجهة الاحتلال بتلقائية وبشكل شجاع،
لكن معركتها ضد القيم المجتمعية السائدة التي تنتقص من مكانتها ودورها ظلت مؤجلة،
وتمضي ببطء، وربما لأنها لم تكن من ضمن أولوياتها آنذاك.
ربما أن وضع
المرأة الفلسطينية تحسن نسبيا بعد قدوم السلطة الوطنية، من حيث المشاركة السياسية،
ودورها في الجانب الاقتصادي والاجتماعي.. بيد أن كل ما تحقق لها من منجزات لا تكفي
لنقول أنها نالت حقوقها كاملة، واستردت مكانتها التي تليق بها، فما زال الدرب
طويلا..
وفي الانتفاضة
الثانية (2000) واصلت المرأة الفلسطينية قيامها بأدوارها الوطنية والنضالية، حتى
أنها شاركت في العمليات "الاستشهادية"، وما زالت حتى اللحظة تقوم بدورها
الكفاحي في مواجهة المستوطنين، وجيش الاحتلال، بالثبات والصمود والإبداع بكل
أشكاله، في كل الأرض الفلسطينية، وفي بلدان الشتات، ولدينا قائمة طويلة جدا بأسماء
المناضلات والمبدعات في شتى الميادين، ولكن المجال لا يتسع لذكرها.
فالمرأة
الفلسطينية لم تكن على الهامش أبدا، فهي الفدائية، والفلاحة، والوزيرة، والسفيرة،
والطبيبة، والصحافية، والنقابية، والمفكرة، والمعلمة، والأم، والرفيقة، والأديبة..
ومع كل هذا الحضور والإبداع إلا أن المجتمع لم ينصفها حقها، وما زال يعيش بعقلية
سلفية رجعية، كما هو الحال في دول العالم الثالث، رغم التقدم الذي أحرزته (قانونيا
وسياسيا)، ورغم إثباتها تميزها، وقدرتها المدهشة على تحقيق التوازن بين أدوراها
الاجتماعية في الأسرة والمجتمع، وبين مشاركتها السياسية والنضالية والإبداعية في
مختلف الحقول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق