يحدث أحيانا أن
يتوفى شخص ما، وفاة طبيعية في شقته، وعلى سريره. ولأسباب متعددة، ربما لانشغال
الناس من حوله بتفاصيل حياتهم اليومية قد يتأخر الأهل والجيران يوما أو يومين، وأحيانا
أكثر في اكتشاف الوفاة.. الوضع الطبيعي أن تتخذ الشرطة الإجراءات اللازمة للوقوف
على ملابسات الحالة، واستصدار شهادة وفاة.. الأمر الذي تقوم به الشرطة على أكمل
وجه. لكن المستهجن، وغير الطبيعي ما يقوم به الناس من بث إشاعات وتلفيق أخبار
كاذبة ومختلقة، فيبدؤون بالتساؤل عن أسباب تأخر الأهل في اكتشاف الوفاة، ولا يتوقف
الأمر عند السؤال، فينتقلون إلى تأليف قصص وسيناريوهات وأفلام عن أسباب الوفاة وظروفها،
ثم تقريع الأهل والجيران، وإصدار الأحكام بحقهم، واتهامهم بالإهمال. ومع انتشار
وسائل التواصل الاجتماعي تتسع الدائرة، ويصبح القريب والبعيد معنياً بالأمر، ولا
بد لكل شخص أن يدلي برأيه، وأن يكتب تعليقه، ويضيف فقرة جديدة على القصة.. دون أي
وازع أخلاقي، ودون مراعاة لمشاعر أهل المتوفى.. ودون أن تتوفر لديه أي معلومة
حقيقية.
وأحيانا يتوفى
شاب في حادث سير.. هنا، وعلى الفور، وقبل صدور تقرير الشرطة وشهادة الطب العدلي.. تبدأ
التحليلات: لا بد أنه كان يسوق بسرعة فائقة، شاب متهور، سكران..
وأحيانا تحدث
جرائم قتل، فإذا كانت الضحية فتاة، تبدأ التحليلات والإشاعات.. أبصر شو عاملة؟ أكيد
ارتكبت خطأ تستحق عليه القتل! هنا الأحكام جاهزة ومفصلة، وكل فتاة مدانة ومتهمة
ومشكوك في أمرها! (حتى لو ثبت العكس)، ولا أحد يقول قد يكون شقيقها أو والدها
القاتل شخصا فاشلا، أو مجرما، أو مدمنا، أو قتلها بسبب الميراث، أو لأنه عصبي ونزق
ومتهور وعنيف ولا يتحكم في نفسه..
وإذا كان
المتوفى مسيحي، سيتم تحميله وزر الحملات الصليبية الثمانية، ووزر الرأسمالية، وتبعات
الانفلات الأخلاقي لعصر العولمة! المسيحي لا تجوز عليه الرحمة! وليت الأمر يتوقف
على عدم الترحم عليه، إذ نقرأ مئات التعليقات المسفّة والقميئة والمتشفية، وكأنَّ
هؤلاء نصّبوا أنفسهم أوصياء على الله سبحانه، فيأمرونه ألا يرحمه! أو كأنهم يخافون
أن "تخلص" رحمة الله، فلا يتبقى لهم منها نصيب! أو كأنّ المتوفى أخذ
حصتهم من الجنّة! وكل واحد منهم صار مفتيا، وقاضيا في الأرض وفي السماء!
الأمر ذاته
يتكرر وبصورة أقبح ومنعدمة الإنسانية إذا كان المتوفى أحد المشاهير (كاتب، مفكر،
شاعر، قائد سياسي، فنان..) ولكنه كان يعتنق أفكارا غير أفكارهم، كان خارج السياق،
يطرح آراءً لا تروق لهم، ولا تشبه ما نشئوا عليه.. هنا ليس للمتوفى إلا اللعنات،
والشتائم، وحملات التشفي.. وليذهب إلى الجحيم!
إذا كنتَ على
خلاف فكري أو عقائدي مع أي شخص (حيا أو ميتا) حاججه بالمنطق والبرهان، ناقش الفكرة
بفكرة، ولا تتوهم أنك انتصرت عليه إذا توفى، فالأفكار لا تموت، وحين يتوفى يصبح
مجرد جثمان، ومن المعيب، ومن الغباء مقاتلة جثة.
قبل أن تدلي
برأيك وقبل أن تكتب تعليقك، تذكر:
لم يطلب أحد رأيك،
ولا يوجد من ينتظر تعليقك الرهيب، ولا أحد يعبأ بك أصلا، خاصة إذا لم تكن تربطك
بالمتوفى صلة قرابة أو صداقة..
لا تكتب خبرا،
ولا تشارك مادة، إلا إذا كنت متأكدا من صحتها، لا تنقل الأخبار كالببغاء، وقبل أن
تنشر وتكتب حاول أن تستخدم عقلك (فهو مجاني) حاول أن تستنهض ضميرك، أن تتمثل بعض الأخلاق،
وأن تضع نفسك مكان أهل الميت، وأن تشعر بأحزانهم، حاول أن ترتقي بمشاعرك وعواطفك إلى
مستوى الإنسانية..
أنت لست قاضيا،
ولا مدعيا عاما، ولا جلادا، ولا حَكما، ولا مختصا.. أنت مجرد مواطن مسحوق ما حدا
سائل عنك..
الغريب والمستهجن
أن تلك الممارسات اللاأخلاقية لا تتوقف عند الدهماء والعامّة، تجدها أيضا عند بعض
الصحافيين (الذين لم يتشربوا مدونة أخلاق مهنة الصحافة)، وعند محامين، وأساتذة
وجامعيين وأشباه مثقفين!
من يقرر أسباب
الوفاة هم جهات الاختصاص: لجنة طبية مختصة تقرر إذا كان سبب الوفاة إهمال طبي، أو
غير ذلك.. الطبيب الشرعي من يقرر إذا كانت الوفاة طبيعية، أم انتحارا، أم جريمة
قتل.. الدفاع المدني والشرطة من يحق لها (وهذا واجبها) أن تصدر تقريرا فنيا بأسباب
الحادث، أو ملابسات الوفاة.. المحكمة وحدها من يحق لها إصدار الأحكام.. المفتي
الشرعي من يجتهد هذا حلال أم حرام، وهذا بعد استيفاء جملة من الشروط والمعايير..
الله وحده فقط من يقرر أين يضع رحمته، ومغفرته.. وهو أرحم الراحمين..
أما أنت، فإذا
كان عندك كلمة حلوة وطيبة فقلها، أو اصمت..
لا تجعلوا
الوفاة مادة للسبق الصحفي، أو للتراشق الإعلامي، أو للمنافسة الحزبية والأيديولوجية،
أو لحصد اللايكات والإعجابات، أو للظهور والشهرة.. الوفاة أمر جلل، وحادث رهيب يجب
أن نقف عنده بخشوع واحترام وأدب.. تجاه الميت أولا، وتجاه أهله وذويه ومحبيه.. تلك
أبسط معاني الإنسانية، وأهم معايير الأخلاق.. وخلاف ذلك لا يعني سوى السقوط الأخلاقي
والقيمي.. وانعدام الإنسانية.
وكلما قرأت
مثل تلك التعليقات القبيحة أتساءل هل فقدنا الإنسانية وتجردنا من الأخلاق؟ أم أننا
لا نمتلك تلك القيم أساسا؟
الإنسان السوي
لا يتشفى بميت (حتى لو كان عدوا)، ولا يقحم نفسه بما لا يعنيه، ولا يفتي بغير علم،
ولا يحكم على غيره، وحدها المجتمعات المريضة والمأزومة من تفعل ذلك، من تجعل من حوادث
الموت قصصا للتسلية، ومادة للسهرة، ولجذب الانتباه وتجميع اللايكات.. في المجتمعات
المريضة والمأزومة الكل خبير وعالم ومختص..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق