أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 22، 2022

ضياع في الصين .. قصة قصيرة

 

كعادة من يتعلم الإنجليزية من الصينيين، أطلق دليلنا السياحي على نفسه اسم "شارلي"، وهو شاب في نهاية العشرينات، من الجيل الجديد المنبهر بالثقافة الأمريكية والأوروبية.. بينما اكتفى دليلنا السابق في بيجين باسمه الأصلي "تشي"، وفي اعتقاده أنه اسم سهل، يعرفه العالم من خلال "تشي جيفارا"، كان في الستينات من عمره، وربما من المحاربين القدامى، فهو لم يخفِ إعجابه بسياسة الحزب الشيوعي الصيني، وعندما شرح لنا قصة وتاريخ الصين، كان متحمسا، ويكثر من استخدام المصطلحات الثورية والحزبية..

وقف "شارلي" في مقدمة الحافلة، مقربا الميكروفون من فمه، وقال بصوت حاسم: أمامكم ساعتين للتجول والتسوق والتقاط الصور، الساعة الآن الثانية ظهرا، سنلتقي هنا في هذه الساحة في تمام الرابعة.. أرجوكم انتبهوا.. لا تبتعدوا كثيرا، لا أحد في هذه البلدة يعرف الإنجليزية، وأقرب مدينة علينا تبعد ساعتين، وربما لن تعرفوا الطرق والاتجاهات.. لذا أكرر للمرة الثانية: إبقوا في الجوار.. ثم أردف مازحا بصوت مرح: من يضيع هنا ربما يظل ضائعا بقية عمره..

كان المنظر مدهشا إلى درجة لا تصدق، مدينة صغيرة وادعة، وكانت تلك أول مرة أرى فيها مدينة صينية غير مزدحمة، الجزء الشمالي منها عائم على عشرات القنوات المائية المتفرعة من نهر اليانغستي، ليس فيه شوارع ولا سيارات، بالكاد ترى بعض القوارب الصغيرة، وأغلبها لتنقل السكان المحليين، عشرات البيوت الحجرية القديمة، والتي تعود لقرون خلت مصفوفة إلى جانب بعضها بمحاذاة النهر تماما، أغلبها مغطى بالقرميد الأخضر، وبعضها بُنيت بالكامل من الخشب، وقبالة كل باب تجد قاربا صغيرا كما لو أنه كراج سيارة، وقنوات أخرى تفصلها عن البيوت أرصفة بعرض مترين أو ثلاثة أمتار، مخصصة للمشاة فقط، مع عشرات المقاعد الخشبية المطلة على النهر.. وعبر هذه الأرصفة مشينا أنا وصديقي العُماني قاسم..

رغم أنها تشبه فينيسيا الإيطالية، إلا أنَّ "سوجي" حتى ذلك الوقت كانت بلدة منسية، تؤمها أعداد قليلة من السياح، وأغلبهم صينيون، لذا لم تتوفر فيها الخدمات والمرافق السياحية المعتادة، فلم نجد فيها فنادق فخمة، ولا حتى متوسطة، ومطاعمها بدت لنا عادية وصغيرة.. كان قاسم قد زار فينسيا سابقا، وأكّد لي أن هذه البلدة أجمل منها، وسرُّ جمالها في نظافتها، وهدوئها والسلام الذي يسكنها..

كنا في حزيران، ومع ذلك كانت آثار احتفالات رأس السنة الجديدة، وحلول عام 2000، وبداية الألفية الثالثة كانت ما تزال في الشوارع الرئيسة، التقطنا عشرات الصور، في كل دقيقة نتبادل الكاميرا، فمرة أصوره ومرة يصورني، وأحيانا نطلب من أحد المارة أن يلتقط لنا صورة مشتركة، أو مع أحد السكان المحليين، لم يرفض أحد مشاركتنا في الصورة، شباب، فتيات، أطفال، كهول، كلهم كانوا مبتسمين وفرحين.. لم نكن حينها نعرف صور "الموبايل"، و"السلفي"، كانت معي كاميرا "كانون" متواضعة، أما قاسم فكانت يحمل كاميرا من نوع "زينيت"، مع عدسة متطورة.. لم نترك جسرا خشبيا أو حجريا، ولا قناة، ولا قاربا، ولا معبدا، ولا بيتا مميزا إلا والتقطنا له صورة.. استهلكنا أربعة أفلام، أزيد من مئة صورة، وعلينا أن ننتظر يومين حتى نطبعها في الاستوديو المجاور لفندقنا في "شنغهاي"، محطتنا القادمة..

وبسبب خلو هذا الجزء من المدينة من السيارات والدراجات والضوضاء، اعتاد الناس هنا على الهدوء، يتكلمون بصوت منخفض، يمشون على أقل من مهلهم، يحيّون بعضهم بعضا بصمت مع ابتسامة سريعة. رأيتُ ثلاثة رجال وسيدة يجلسون على طاولة قبالة بيتهم ويلعبون الورق، راقبتهم بفضول، لم أسمع لهم صوتا.. يبدو أن السكون هذّب أخلاقهم، ومنحهم سلام داخلي.. هكذا خّيل لي.. ربما كانت الصورة خادعة.. وربما تغيرت الأوضاع اليوم، بعد مرور كل هذي السنين..

مضت ساعة كاملة ونحن ما زلنا في الجزء العائم من البلدة، قادتنا أرجلنا من حيث لا ندري إلى بداية الجزء الثاني منها، والذي تزيد مساحته أضعاف الجزء العائم..

قال قاسم: ما رأيك أن نعود أدراجنا، قبل أن نتوغل هنا؟ أخشى أن نضل الطريق.. قلت له: لنتمشى قليلا، نشاهد السوق ونرجع على الفور.. وأشرتُ إلى لافتة خضراء ضخمة عليها صورة دجاجة، وقلت: لنحفظ هذه اللافتة، من هنا دخلنا، ومن هنا سنعود..

ما أن سرنا قليلا حتى وجدنا أنفسنا في عالم آخر، شوارع مزدحمة، سيارات، شاحنات، وآلاف الدراجات، وعدد لا يُحصى من البشر.. راح كل الهدوء، وغابت تلك السكينة التي استمتعنا بها قبل قليل.. متاجر من كل نوع، ويافطات إلكترونية مضيئة، وكلها باللغة الصينية، على الأرصفة وعلى واجهات المحلات تجد كل ما يخطر ببالك، والناس في غدو ورواح..

وخلال نصف ساعة كنا قد توغلنا بأكثر مما يجب، وقررنا العودة.. علينا أن نعود من حيث أتينا، فإذا سلكنا نفس الشوارع سنجد اليافطة التي فيها صورة الدجاجة، وهناك جسر خشبي صغير، ولا يبقَ أمامنا سوى مسير خمس دقائق لنصل إلى الساحة التي تصطف فيها الباصات.. المسألة سهلة، لا داعي للقلق، قلت لصاحبي..

مضت نصف ساعة أخرى، ونحن نسير من زقاق إلى آخر، ولم نعثر على يافطة الدجاجة.. بدأنا نشعر بالقلق.. قلت لصاحبي: حتى لو غضب منا الدليل السياحي، وكل من بالحافلة، لا بد أن ينتظروننا.. ليس أمامهم خيار آخر.. ربما غيرنا ضلَّ الطريق أيضا، من المؤكد أنهم لن يتحركوا قبل عودة جميع الركاب.. طمأن هذا الكلام قلب صاحبي قليلا..

صارت الساعة الرابعة والربع، وما زلنا نبحث عن طريق العودة، اللعنة، كل الطرق متشابهة، واليافطات، وأسماء المحلات، وحتى الناس.. كل شيء متشابه.. لم يعد أحدنا قادر على إخفاء خوفه.. مضت ربع ساعة أخرى وما زلنا نرى المشهد نفسه.. بدأ صاحبي يلهث، والعرق يتصبب من جبينه، وصار وجهه أحمرا ساخنا مثل شمس الغروب.. كان قاسم ممتلء الجسم، يميل للسمنة، وقد وصل به التعب إلى درجة أنه طلب مني الجلوس قليلا للاستراحة والتقاط أنفاسه.. قلت له: يا صديقي ليس لدينا وقت، الشمس توشك أن تغيب، ونحن متأخرون ساعة على موعدنا.. قال بيأس: لا أستطيع المشي خطوة إضافية.. فقلت له حسنا: إجلس أنت هنا، لا تتحرك أبدا، مهما كانت الظروف، سأجرب كل الطرق وأعود إليك.. ثم أكدت عليه: لا تتحرك، لا أريد أن أفقدك، إما أن نتوه معا، أو نعود معاً..

صرتُ أجرّبُ كل زقاق، أركضه من أوله إلى آخره بحثا عن يافطة الدجاجة، أو أي علامة تدلني على مخرج يفضي إلى الجانب الآخر من المدينة، ثم أعود إلى نفس النقطة ركضاً، وأجرب زقاقا آخر، وهكذا أمضيت قرابة الساعة، أركض في دوامة مثل ثور يدور حول ساقية، حتى تقطعت أنفاسي..

رميتُ جثتي مستسلما على المقعد بجوار قاسم، وقلت له وأنا أمسح العرق عن جبيني: لنطالع وجوه المارة، علنا نعثر على أحد من رفاقنا يبحث عنا.. مضت نصف ساعة إضافية دون فائدة، لم نرى سوى الوجوه ذاتها.. سألنا عشرات المشاة، وأصحاب المحلات، لم نتلقَ أي إجابة، سوى ابتسامات بلهاء، لا أحد يعرف الإنجليزية، ونحن لا نعرف الصينية..

عاودنا المشي من جديد، وجدنا يافطة ضخمة لخارطة المدينة، تتوسطها إشارة سهم باللون الأحمر، مع كلمات بالصينية من الواضح أنها تعني: أنت هنا.. ولكن ما الفائدة، جميع الكلمات بالصينية..

بدأ الظلام يخيم على المكان، وخلال وقت قصير، بدأت حركة المشاة تقل شيئا فشيئا، وأخذت عشرات المحلات تغلق أبوابها، من الواضح أن نهار هذه المدينة قد انتهى، وبدأ ليلها مبكرا، وها هي في طريقها إلى الفراش.. وبعد ساعتين من الانتظار والتجوال والسؤال كانت الشوارع قد خلت من المشاة، ولم يبقَ سوى بعض المطاعم والمقاهي..

ما العمل ياصديقي؟ سألته، فأجابني بنفس السؤال، مع حيرة أشد. فقلتُ بغضب مكتوم: اللعنة، قالوا لنا هذه مجرد مدينة صغيرة، فاستخفينا بالأمر، من يتوه في مدينة صغيرة؟ أجاب بتهكم: يبدو أن القرية عندهم عندما يكون تعداد السكان أقل من مليون، ثم تصبح مدينة صغيرة حتى تبلغ المليون الخامس، ومن بعدها تصبح مدينة كبيرة.. فقلت مازحاً: لو كانت عندنا مثل هذه البلدة نعلنها دولة، أو على الأقل سنجعل منها مركز محافظة..

لم تبدد سخريتنا ومزاحنا مشاعر القلق التي بدأت تستولي علينا، فقلت له: علينا أن نبدأ البحث عن مكان نبيت فيه ليلتنا، هل رأيت ما يشير إلى فندق أو "موتيل"؟ قال لا أعرف.. وكيف لي أن أعرف؟

بدأت درجات الحرارة بالانخفاض، وساد صمت رهيب، ولولا مصابيح الأعمدة في الشوارع الرئيسة لعمَّ الظلام الدامس.. واصلنا تجوالنا في الشوارع الفارغة على غير هدى.. باحثين عن أي مكان يصلح للنوم، حتى عثرنا على جسر خشبي، أسفل منه ما يبدو مثل حجرة صغيرة تتسع لشخص أو شخصين، مكان غير مرئي، يحجب نسمات البرد قليلا. جلسنا متلاصقين، نواسي بعضنا، في البداية تبادلنا اللوم، ثم صار أحدنا يشجع الآخر، متأملين أنها مجرد ليلة وتمضي، وفي الصباح سنعثر على حل.. 

قال لي بنبرة متشائمة: أي حل سنجده في الصباح؟ ما الذي سيتغير؟ هل سنعثر على من يتحدث الإنجليزية؟ وحتى لو عثرنا عليه، ماذا سنقول له؟ فحتى لو وصلنا إلى ساحة الباصات، من المؤكد أن جماعتنا قد سئموا من انتظارنا، وواصلوا رحلتهم..

-        حسنا، إذا وصلنا محطة الباصات نستقل الحافلة المتجهة إلى شنغهاي، وهناك قد نتمكن من الالتحاق بجماعتنا..

-        وكيف سنعثر عليهم؟ لا نعرف اسم الفندق الذي سينزلون فيه، ولا عنوان المركز الذي من المفترض أن نستكمل فيه دورة التدريب، ثم إن شنعهاي أكبر من سوجي بعشر مرات، يعني هناك سنضيع حرفيا، سنغرق وسط بحر من 20 مليون إنسان..

-        إذن، لنتجه إلى بيجين..

-        هل نسيت أننا تركنا فندقنا، وسلمنا مفاتيح الغرف، يعني علينا أن نجد فندقا آخر..

-        هذه بسيطة..

-        كيف بسيطة؟ هل نسيت أننا تركنا حقائبنا في الباص؟ وفيها ملابسنا، وأغراضنا، بما في ذلك تذاكر السفر، وحتى محفظة نقودي!

-        أنا أحمل في جيبي خمسمائة يوان، كنت أنوي شراء بعض الهدايا والتذكارات من هنا.. وأنت كم تحمل في جيبك؟

-        تقريبا نفس المبلغ، والمشكلة أن بطاقة "الفيزا" لا تصلح هنا، فقد جربتها في أكثر من صراف آلي، يعني نحن تقريبا مفلسون، وما نملكه بالكاد يكفينا طعامنا وشرابنا، وقد نضطر للمبيت في الشوارع..

بعد جدال طويل وعقيم، أدركنا أننا في ورطة حقيقية، وكل الحلول مستحيلة، أخرجنا ما في حقائبنا الصغيرة من طعام، كنت أحتفظ بتفاحة وبرتقالة، بينما أخرج قاسم ساندويتش جبنة صفراء، وقطع من الشوكولاته.. كان هذا عشاءنا الألذ والأشهى.. بعد وقت قصير، شعرنا بامتلاء المثانة، فاتفقنا إما أن نبول في النهر، أو ننتظر حتى الصباح، لا بد أن نجد مطعما، وهناك نقضي حاجتنا، ونغتسل، ونتناول فطورنا.. لم نصبر، فبلنا في النهر احتجاجا على ورطتنا..

حين قال "شارلي" من يضيع في هذه المدينة سيضيع للأبد، كنت أظنه يمزح.. هل برأيك سنعلق هنا إلى الأبد؟ لم أجد جوابا، وفي الحقيقة هذا الهاجس ظل يطاردني منذ أن خرجنا من الحافلة، كنت أتوقع أن نتوه، ساعة أو أكثر قليلا، ثم نهتدي للطريق.. يبدو أنني بالغت في ثقتي بنفسي.. ما الفائدة الآن من اللوم؟ لم يُـجبني سوى الصمت..

-        إسمع، الحل الوحيد، أن نخصص ما بحوزتنا من نقود لشراء تذاكر القطار المتجه إلى بيحين، وهناك نلجأ إلى سفاراتنا، وعليهم تدبير أمر سفرنا إلى بلداننا..

-        حل معقول، ولكن تبقى مشكلة الأكل والشرب والمبيت، والاهتداء للطريق، ثم الوصول، وموافقة السفارة.. وهذه كلها تحتاج فترة من الزمن..

يبدو أن هذا المقترح أراحنا بعض الشيء، فبدأنا نتحدث في مواضيع متشعبة، ولكن هاجس الضياع ظل مسيطرا على عقولنا، كانت عيني قاسم متركزتان نحو نقطة بعيدة، فقال بما يشبه البوح: في مدينتي مسقط، ترتفع درجة الحرارة في الصيف إلى درجة غير محتملة، تصبح المدينة مثل فرن مشتعل، فنظن أن هذا الصيف سيمتد إلى ما لا نهاية، وننسى كيف يكون البرد، ولا نستطيع حتى تخيل شكله، ونيأس من قدوم الشتاء.. ولكن فصل الشتاء يأتي كل مرة، وحينها تنخفض الحرارة، وتتساقط الأمطار بغزارة، وتهب العواصف، وأيضا نظن حينها أن هذا الشتاء بلا نهاية، ولا نستطيع تخيل الصيف، وأننا سنتحرر من هذه الملابس الثقيلة.. هذا التقلب في الفصول، وما يصاحبه من مشاعر عارمة ومتناقضة، جعلنا نتحلى بالصبر، ونؤمن بأن لكل مشكلة حل، وأنَّ لا شيء يبقى على حاله..

يصمت قاسم قليلا، ثم يضيف بنبرة حنين: يوما ما سأدعوك إلى بلدي، إذا جئت في الصيف سآخذك إلى صلالة.. هناك ستجد الجمال الخرافي..

-        بالطبع، يسعدني ذلك، وقد سمعت أن بلدكم بدأت تخرج من عزلتها، وربما هي الآن تشبه دبي إلى حد ما..

ارتسمت على وجه قاسم ابتسامة رضا، ثم أخذ تنهيدة طويلة، وقال: كان السلطان سعيد بن تيمور، والد السلطان قابوس، ينشر جنده وعسسه في الشوارع، وبين البيوت، كانوا يمنعون التجول طيلة الليل، بل إنهم كانوا يجبرون الناس على إطفاء فوانيسهم بعد المغيب بساعة واحدة! تخيل! لم نكن حينها نعرف الكهرباء، فكان على الأهالي النوم مبكرا، وقد اعتاد أجدادنا على الأمر، بينما جيلنا الحالي يسهر حتى الصباح..

رأى على وجهي علامات التعجب والاندهاش، فأضاف: كان السلطان محافظا إلى درجة مملة، كان يخشى المعارضة، وحارب كل محاولات التحديث، وقد عزل البلاد كليا عن العالم الخارجي سنوات طويلة.. ثم أضاف بنبرة يكسوها الحزن: بينما كنا ننام مثل الدجاج، ونتنقل على الحمير، كان الصينيون يبدعون في كل مجال، بل هم كذلك قبل ألفي سنة على الأقل، أنظر إلى ذلك الجسر الخشبي البديع، وإلى تلك الدرجات الحجرية الخفيفة، أظن أنها بُنيت قبل مئات السنين! ألا يدعوك ذلك للتحسر؟

وبينما كان قاسم يتحدث باستفاضة، كنت أراقب حركات جسده، وأتمعن في لكنته، وقد استغربتُ من درجة التشابه بين لهجتنا الفلسطينية واللهجة العُمانية، واستخدام المفردات العامية نفسها، والتشابه الكبير في الثقافة والعادات والحكايات الشعبية.. وفي المقابل لم تقل دهشته عني..

بعد انتصاف الليل، لم نعد نسمع صوى صوت الموج الخفيف وهو يرتطم بالسور بلطف، قلّت رغبتنا في الكلام، هل كان ذلك بسبب التعب والجوع؟ أم بسبب القلق والخوف الذي ظل يظهر من حين إلى آخر، ولم ننجح في إخفائه؟ في الواقع كان هناك سبب آخر، أقوى وأكثر إلحاحا: كانت مشاعر الشوق والحنين تجتاحنا، استسلمتُ لنعاس لذيذ، وصورة زوجتي تتراءى أمامي، بكامل أنوثتها ونضارتها، حدثتها عن شوقي الجارف، وحنيني لحضنها، ورعبي من فقدانها، وخشيتي أن يطول بي السفر.. حدثتها عن شوقي للأولاد، وللبيت، ولشوارع رام الله.. نمتُ، وأنا أحدثها، وأبوح لها بمشاعري، وأكملنا حوارنا في الحلم..

استفاقت المدينة بأسرع مما توقعنا، غسلنا وجوهنا بمياه النهر، وانطلقنا.. نتدفأ بشمس الضحى على مقعد خشبي حينا، ونلوذ بالظل كلما قرصنا القيظ، نُلهي جوعنا برائحة الشواء المنبعثة من كل مكان في شارع سميته شارع الأكل، نتسكع في الطرقات وما تفرّخه من أزقة، نطالع واجهات المحلات، نبحث عن شيء مجهول.. هكذا مضى الوقت بطيئا، حتى نال منا الإنهاك، وكدنا نستسلم للرعب.

من عادتي أن أقرن المدينة التي أزروها أول مرة بأول أغنية أسمعها في الشارع، حين وصلتُ بغداد، في رحلتي الأولى، وصلنا ساعة الصبح، كان الناس قد خرجوا مبكرين، وأخذوا ينتشرون في الأسواق والساحات.. توقفنا مقابل مقهى شعبي كانت سماعات المقهى تصدح بأعلى صوت بأغنية وليد توفيق "لفيت المداين".. شعرت حينها أن دنيا جديدة ستتفتح أمامي.. وحين دخلتُ القدس أول مرة، كان الوقت عصرا، في يوم تشريني بارد، في شارع صلاح الدين  وقرب باب العامود كانت معظم المحلات تعيد بث أغنية كاظم الساهر "زيديني عشقاً".. أما هذه المدينة فستقترن بذكرى الضياع، فحتى لو سمعت أغانيها كلها فلا فائدة.. 

بقيت ساعتان على موعد الغروب، لم نأكل شيئا منذ ليلة البارحة، قصدنا سوقا شعبيا متخصصا ببيع الخضروات، تناولنا خلسة ما ألقى به الباعة من زوائد، واصلنا التجوال حتى عثرنا على ما يشبه الجحر، في ركن مخفي في زقاق ضيق، وقررنا المبيت فيه.. في تلك الليلة الطويلة لم نتبادل الحديث، خشينا أن نبوح بمخاوفنا، فينهار ما تبقى لدينا من معنويات..

في الحقيقة، ورغم أنني كنت خائفاً وقلقاً، بيد أنني في أعماقي كنت موقنا أننا سنخرج من هذه الورطة بشكل أو بآخر، وأنَّ عليّ التكيف مع الأزمة، وألا اسمح لها أن تخنقني.. بينما كان قاسم مرتعبا بمعنى الكلمة، وشديد القلق والتوتر، حتى أنه صار عصبيا، ربما بسبب الجوع.. سأقترح عليه غدا أن نستمتع بالأجواء، وأن نتسوق، حتى لو صرفنا آخر يوان معنا.

في اليوم الثالث بدأتُ أختبر تجربة الضياع الحقيقي، ولكن دون خوف، شعرت بمتعة خفية تسري في بدني، متعة أن تمشي دون هدف، ولا تعرف أين تروح، ومتى تتوقف، أن تترك الريح تقودك حيث تشاء، وأن تتحلل من كل مسؤولياتك، حتى تجاه نفسك، أن تمشي وسط أناس لا تعرفهم، ولا يعرفوك، وتستمتع بمعاينة منتجات لا تنوي شراؤها، وأن تتذوق طعم المغامرة وأنت لا تعرف مآلاتها.

واصلنا مشينا في الأسواق، واكتشفنا شوارع جديدة، دخلنا محلات ضخمة، التقطنا عشرات الصور، اقترحتُ على قاسم أن نمضي إلى "شارع الأكل"، فوافق ضاحكا على التسمية التي اعتمدناها لذلك الشارع.. وجدنا أنفسنا على مدخل السوق، عشرات المطاعم الصغيرة والكبيرة تتوزع على جنباته، كل شيء معروض على واجهات المحلات، أو معلق من رأسه أو من قدميه.. أشار لنا أحدهم بأن ندخل، وقال بعربية ركيكة: "حلال".. شكرناه وولوينا الأدبار من هول ما رأينا: عقارب، أفاعي، سحالي، صراصير، أم أربعة وأربعين، فئران، وطاويط، مخلوقات لم أشاهد مثلها من قبل..

الصينيون يأكلون كل شيء حرفيا؛ كل ما يدب على اليابسة، وما يسبح في نهر أو بحر، وما يختبئ في جوف الأرض، وما يطير محلقا في الجو، يأكلونه مطبوخا ونيئا، مشويا أو مسلوقا، أو ينبض بالحياة.. وفي الحقيقة، ليس الصينيون وحدهم من يفترس تلك المخلوقات، معظم شعوب آسيا تفعلها.

كانت مشكلة قاسم أنه يريد أكلا حلالا، بينما أنا رغبتُ بتجربة ما هو جديد ومختلف، دخلنا مطعما صغيرا، يتناسب مع ميزانيتنا الصغيرة، كانت المائدة على الشارع، أتى النادل يسألنا عن طلبنا، فقلت له بلغة الإشارة نريد تشكيلة واسعة مما لديك، وأشرت بأصبعي نحو المنضدة التي تضم عشرات الأصناف من أطعمة غريبة.. كان الطعم مريعا، وغريبا، ومع ذلك أكلنا حتى شبعنا.

في الظهيرة وبينما نحن مستلقيين باسترخاء يائس على العشب في حديقة عامة، في ظل أشجار البامبو اقترب منا صبي مراهق، وقال: آر يو سبيك إنجلش؟ فقلنا بصوت واحد: ييس. فقال فرحاً: فُلو مي.. سألناه: وير آر يو غوينغ؟ فلم يرد، وظل يمشي وينظر وراءه للتأكد أننا نلحق به، وكررنا عليه السؤال عشرات المرات، كان يكتفي بابتسامة بلهاء، ويقول فُلو مي.. من المؤكد أنه لا يعرف سوى هذه الكلمات القليلة، حفظها عن ظهر قلب، ربما درّبه عليها رئيس العصابة التي سيقودنا إليها، حتما سيأخذوننا رهائن، وسيطالبون أهالينا بالفدية.. هذا ما دار في ذهني، وربما يريد أن يخدعنا، أو يبيعنا بعضا من بضاعته المزورة، ومع كل هذه التساؤلات والشكوك كنا منقادين له، نمشي خلفه طوعا، فلم يكن أمامنا خيار آخر.. ربما على يديه يأتي الفرج؟ هذا ما تأملناه..

وصلنا حي فقير، بيوته قديمة متهالكة، دق الصبي باب أحد البيوت، فخرجت شابة عشرينية، بيضاء البشرة، شعرها أسود قصير، ترتدي تنورة قصيرة وقميصا أبيض، ابتسمت لنا بترحاب، وقالت: ويلكوم.. فدخلنا وكأنَّ على رؤوسنا الطير..

-        أنا اسمي نانسي.. ويسعدني أن أساعدكم..

تملكتنا المفاجأة، من هذه الفتاة؟ وكيف عرفت أننا بحاجة لمساعدة؟ وماذا بوسعها أن تقدم لنا، ومن الواضح أنها فقيرة الحال!

كانت إنجليزيتها ركيكة، وكنا نفهم عليها من السياق، وبالاستعانة بلغة الجسد، فعرفنا أنها مترجمة، وتشتغل دليل سياحي، ونانسي اسم الشهرة، أما اسمها الأصلي فقد ذكرته لنا لكني عجزت عن حفظه، وذاك الصبي الذي اقتادنا إلى هنا ابن عمها، وجارها، تستعين به لالتقاط الزبائن الأجانب والسياح الذين يبدو عليهم الثراء، ويبدو أن كساد الموسم السياحي قد جعلها تقبل بأي زبون..

شرحنا لها قصتنا، وأوضحنا لها أننا لا نملك المال، ولكننا بمجرد عودتنا إلى بلداننا سنرسل لها ما تشاء عبر حسابها البنكي، ففرحت..

كانت نانسي تعيش مع أمها وجدتها، وأخبرتنا أن والدها يغيب طويلا في العمل، حيث يعمل سائقا ومرافقا لمسؤول حزبي كبير.. كانت أجواء البيت دافئة وحميمية، وكانوا مرحبين بشكل مبالغ فيه، دعونا للعشاء، فوافقنا دون تردد، فقد كنا نتضور جوعا، دخلت الأم والجدة إلى المطبخ، فيما ظلت نانسي تشرح لنا عن تاريخ المدينة، ومعالمها السياحية..

نهبها جيش الملك "جين"، وذبح معظم سكانها، ثم اجتاحتها جيوش "جنكيزخان"، وعاثوا فيها فسادا، لكنها منذ ذلك الوقت وسوجي تنعم بالأمن والطمأنينة.. اليوم تستعد سوجي لتصبح من المدن السياحية الأولى في الصين.. ربما أحست دهشتنا من حديثها، أو عدم تصديقنا، فأرادت التأكيد على ما تقول: علم أبي بطرقه الخاصة أن الصين سوف تستضيف دورة الألعاب الأولمبية بعد ثماني سنوات، لذا أغلب المدن خاصة العاصمة تستعد لذلك، حتى أن أعدادا متزايدة من الشبان بدؤوا يتعلمون الإنجليزية والفرنسية، ويشتغلون في السياحة، ليست سوجي وحدها من يتغير، الصين كلها تتغير، فقد نشأت طبقة جديدة من كبار الأثرياء، لم نعد نخاف المجاعات، سلوك الناس وثقافتهم بدأت تتغير، ولكن ليس للأحسن بالضرورة..

 استمتعتنا بقصصها وأسلوب سردها، وقد شعرتُ وأنا اراقبها، وأتأمل البيت بأني لست غريبا عن هذه الأجواء، كأني في بيت فلاح فلسطيني أو صعيدي، علاقاتهم الأسرية متماسكة، ومع الجيران، جدتها ذكرتني بجدتي، يا إلهي كم نحن متشابهون! قلت لقاسم بالعربية حتى لا يفهموا علينا: يا أخي، كنت أظن الصينيين شعب مختلف، هم يشبهوننا، وأنا أمشي في الأسواق كنت أتأملهم، أراقب حركاتهم، لغة الجسد، الإيماءات، العلاقات، أساليب البيع.. ضحك قاسم، وقال: لكنهم يختلفون عنا في الأكل.. ولغتهم صعبة، لم أحفظ سوى كلمة نياو.. 

بعد نحو ساعة، عادت الأم تحمل طبقا كبيرا من القش، عليه أطباق متنوعة، ثم تبعتها الجدة تحمل إبريق الشاي.. كان عشاء شهيا، خاصة طبق الشوربة بالبيض، المكون من أعشاب وخضار لم أرها من قبل..

في الصباح، ودعنا العائلة الطيبة، وشكرناهم على حفاوتهم وحسن استقبالهم، فقد كانوا حقا كرماء.. تجولنا مع نانسي حتى الظهر، ثم أوصلتنا إلى محطة القطارات المركزية، وحجزت لنا تذكرتين، وقبل أن تودعنا أشارت إلى القطار، قائلة: هذا القطار يتجه شمالا، سينطلق بكم الساعة الثالثة والنصف، وستصلون بيجين غدا صباحا.. القطار الثاني ينطلق في نفس الموعد، لكنه يتجه جنوبا إلى شنغهاي، إياكم أن تخلطوا بينهما.. عانقتنا، وغادرت وهي تلوح لنا مبتسمة..

في الموعد المحدد دخلنا القطار، كنا قد حجزنا مقصورة مخصصة للنوم، وما أن أُغلقت الأبواب، وبدأ المحرك يهدر حتى سأل قاسم بنبرة خوف وشك: هل أنت متأكد أننا ركبنا القطار الصحيح؟ قلت له ماذا تقصد؟ قال أظن أن قطارنا يتجه جنوبا! فقلت له لا أظن ذلك.. قال دعنا نسأل أحد الركاب، ولكن عبثا لم نجد من يفهم علينا، فآثرنا الصمت، والقبول بما اخترناه، وعلينا انتظار المحطة الأخيرة..

سيقطع القطار المسافة حتى بيجين في أربعة عشر ساعة، كنت طوال الوقت صافنا، أتأمل المدى من النافذة، أشاهد أجمل المناظر الطبيعية، نسيتُ أننا ما زلنا تائهين، وسائرين نحو المجهول، وحين لمحت القلق في عيني قاسم، قلت له: استمتع بالرحلة، الطريق إلى البيت أجمل من البيت، هكذا قال شاعرنا درويش، قال: أحاول ذلك..

ظلت المقصورات صاخبة نشطة حتى العاشرة ليلا، حينها أُطفئت الأضواء جزئيا، خفتت الأصوات، صار الركاب يكلمون بعضهم همسا.. هدأت الحركة شيئا فشيئا، في الحادية عشر تماما أُطفئ النور كليا.. وساد الصمت.. تمددتُ على سريري العلوي.. وعلى هدير صوت العجلات، وهي تدور برتابة على سكّتها.. كان صدى موسيقاها الخاصة يتردد في دواخلي، كأنها سحر مدهش.. تذكرتُ زوجتي، حضنتُ طيفها الذي تراءى أمامي، كم تمنيت حينها لو أنها تشاركني متعة الضياع.. استسلمتُ لنعاس خفيف، ثم رحتُ في سبات لذيذ..

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق