أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 07، 2021

فاصل إعلاني


يتنفس الإنسان بشكل طبيعي من 12 إلى 20 نفَس في الدقيقة الواحدة، فإذا ظلَّ مستيقظاً 16 ساعة في اليوم، فإنه سيشهق ويزفر نحو 16 ألف مرة.. وفي الكون آلاف مليارات النجوم، ولكنك إذا نظرت إلى السماء ليلا فلن تشاهد أكثر من سبعة آلاف نجمة.. وبالطبع لا أحد ينتبه لتلك الأرقام..

وهنالك حقيقة صادمة أخرى، ولا ننتبه إليها في الغالب، رغم أنها تداهمنا بأرقام مرعبة.. وهي الإعلانات والدعايات التجارية؛ حيث تشير دراسات حديثة أن الفرد يتعرض لنحو ثمانية آلاف إعلان ودعاية في اليوم الواحد، وهي مجمل ما نشاهده، ونسمعه، ونقرأوه يوميا في التلفزيون، والإذاعات، والصحف، والمجلات، والمنشورات، والبوسترات، ووسائل التواصل الاجتماعي، ويافطات الشوارع..

أي أنه بين كل نَفَسين نتعرض لإعلان أو دعاية ما، وحصيلة ذلك رقم يتجاوز عدد النجوم التي يمكننا مشاهدتها في سماء صافية!

وهذه الكمية الهائلة من الإعلانات التجارية والدعايات الموجهة والتي نتعرض لها كل يوم، لا بد وأن تترك آثارا بيّنة علينا، ليس فقط على سلوكنا الاستهلاكي، بل وأيضا على قراراتنا الأخرى، وعلى عقلنا الباطن، وعلى علاقتنا بأنفسنا، ومع محيطنا الاجتماعي، وبالتالي على وعينا وتكويننا النفسي، وعلى شخصياتنا بشكل عام.

ومن العبث الحديث عن وقف هذه الإعلانات، أو تخفيضها، أو تقنينها.. فهي عصب الاقتصاد، ودعامة نجاح أي مشروع، ومصدر دخل لملايين الناس.. وكل ما هو مطلوب منا التنبّه لحقيقة ودوافع ومصداقية تلك الدعايات..

تستخدم الدعاية أساليب وتقنيات عديدة للترويج، تستغل حاجات الإنسان ورغباته وغرائزه ومشاعره.. وتركز على النساء بشكل خاص، ربما لأن المرأة عادة تستمتع بالتسوق أكثر من الرجل الذي يميل عادة للتوفير (مع استثناءات كثيرة)..

وبالطبع أغلب الدعايات خادعة ومضللة. فمثلا، لمحاولة إضفاء صبغة علمية على المنتج، تستخدم الدعاية مصطلحات أكاديمية وكيميائية، أو تأتي بممثل يرتدي روب طبيب، أو تلجأ لبعض الخدع السينمائية في التصوير لإبهار المستهلك بنتائج استعمال السلعة، أو تستخدم أسلوب "الإيهام التخيلي" كأن تقنعه بأن هذا المنتج سيجلب له السعادة؛ فتصوِّر عائلة سعيدة، أو مجموعة أشخاص جذابين وهم يضحكون، أو تقارن بين منتج منافس وتصوّر من يستهلكه في وضعية العبوس والتعب، بينما من يستخدم منتج الدعاية في غاية الرضا والامتنان.

بعض الدعايات تطبق أساليب الحرب النفسية، فمثلا تخوّف المتلقي من عدم استخدامه لسلعة ما، أو تلجأ لأسلوب التكرار، وحث الرأي العام على الانضمام إلى القطيع، والاقتناع بالرأي السائد، وتصديق "الكذبة الكبيرة".. وقد تستقطب أحد المشاهير لإشعار المستهلك أن جميع الناس، بما فيهم الناجحون يستخدمون هذا المنتج.. أو إقناع المتلقي أنَّ ما لديه لم يعد صالحا، ولم يعد مواكباً للتقدم، وعليه تغييره على الفور.. أو أنَّ الحياة لا يمكن أن تستقيم بدون هذا المنتج، حتى لو كان عمر المتلقي سبعين سنة، وكانت تلك أول مرة يسمع به!

مثل هذه الدعايات تربك المتلقي، فلا يعرف أي معجون أسنان لم ينصح به الأطباء! وأي مسحوق غسيل لا يزيل البقع! وأي شامبو لا يقضي على القشرة! وأي أرز لا يلتصق بالطنجرة! وأي مطهّر لا يقضي على 99% من الجراثيم!

وتعتمد الدعايات على المغالطات المنطقية باستخدام عبارات مقنعة وإن كانت غير سليمة وليست واقعية. مثل مغالطة الثنائية (أسود/ أبيض)، أو الأحكام المسبقة، وتشويه الخصوم، واستخدام تعبيرات وألفاظ براقة دون أن يكون لها تحليل موضوعي، أو استخدام عبارات دالة فيها تصنيفات، وتفضيلات أخلاقية (لمن يستخدم، أو لا يستخدم المنتج، أو لمن يقتنع أو يرفض تلك الفكرة)، أو التضليل، باختلاق أو إخفاء معلومات، أو التزوير، أو تقديم أنصاف الحقائق، أو تعمّد الغموض، أو التبسيط المخل، أو إطلاق الشعارات الكبيرة.. كل ذلك لاستثارة المشاعر، وتغييب العقل.

وطبعا، لا الشركة المنتجة، ولا شركات الإعلان يهمها مصلحة المستهلك؛ فالدعاية تتجاوز دورها "المفترض" بإقناع المتلقي بأن هذا المنتج جيد وضروري، صار دورها الفوز في المنافسات الاقتصادية، وتحطيم الخصوم.. فمثلا لو أن شركتي بيبسي وكوكاكولا وفرتا مئات الملايين من الدولارات التي تنفقها على الدعايات، وقامتا بتخفيض سعر المنتج، سيستفيد المستهلك، وربما تزداد مبيعاتها.. أو بدلا من تحسين جودة الخدمة، أو زيادة المساهمة المجتمعية تنفق شركات الاتصالات والخلويات الأموال الطائلة على الدعاية، ما يؤكد أن الدعاية تنطوي على قدر كبير من الخداع. (وهنا تكون تكلفة الدعاية على المستهلك).

خطورة الموضوع لا تقتصر على خداع المستهلك، وحلب جيوبه، فهناك نتائج سلبية أخطر لتلك الدعايات، فمثلا عندما توازي دعاية بين الأم والشوكولاته التي تجلبها لأولادها، سيتولد انطباع عند الأطفال بأن الحاجة إلى الشوكولاته تعادل الحاجة إلى الأم بحنانها ورعايتها وإنسانيتها، أو تفوقها أهمية! وعندما تصوّر دعايات الفوط الصحية الفتيات وهنَّ يركضن ويرقصن بكل رشاقة، يتولد انطباع عند الفتاة التي داهمتها الدورة الشهرية، وكانت تعاني من التعب والألم، ومزاجها سيء، أنها غير طبيعية، أو سيعتقد أهلها أنها مدعية..

كما تمهد الدعايات نفسيا وذهنيا للإستهلاك اللاعقلاني، كتعويض عن حاجات المواطن غير الملبّاة، وكبديل وسلوان للواقع البائس الذي يعيشه، ومن أجل ذلك تم اختراع "الموضة"، وهي النبع الذي لا ينضب للسلع الوهمية الجديدة والمتجددة، والموضة تحتاج للدعاية التي ستنطلق من الكبت الجنسي، إما بعرض مشاهد مثيرة، أو بالتركيز على المرأة بالدرجة الأولى، وهنا تقوم عروض الأزياء، والكليبات الغنائية بتشويه معاني الجمال، وتقديم صورة نمطية مصطنعة، ورفع معاييره إلى درجة تصعب على الأغلبية الساحقة تحقيقها.. ما يخلق أزمات نفسية لدى المتلقي، المرأة والرجل على حد سواء. وأيضا تفرض التعامل مع المرأة باعتبارها موضوعا للجنس، لا ذاتا، وكيانا إنسانيا.

والمرأة المستهدفة من الدعاية ستتأثر بإمرأة الدعاية وسترغب بتقليدها قبل تأثرها بالسلعة الممدوحة. أما الرجل، وهو المستهدف الخفي من الدعاية، فسيبدأ بتكوين صورة مثالية عن المرأة، وعن جمالها، حتى لو كانت صورة مفتعلة زائفة، ليصدم بعدها بالواقع، ويبدأ بالإنسلاخ عنه ومن ثم الاغتراب، فتجذبه المرأة لا من حيث أنها ذات وإنسان ومشاعر، بل من حيث أنها عطر وملابس واكسسوارات، وهكذا تتشوّه العلاقات الأسرية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق