أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 06، 2021

كيف نشأت الحضارة الأوروبية؟

(1-2)

أوروبا اليوم، قارة آمنة ومزدهرة وغنية، متطورة تكنولوجيا، متقدمة صناعيا، قوية اقتصاديا، مستقرة سياسيا، جامعاتها الأفضل عالميا تقدم للبشرية العلم والمعرفة والاختراعات، شوارعها نظيفة، أحياؤها مرتبة، الإنسان فيها محترم ومقدَّر، نظمها السياسية ديمقراطية، ولم تعد تعرف الحروب الأهلية ولا الاضطرابات الأمنية، وقد باتت النموذج الأمثل، لذا أغلب الناس يتمنون العيش فيها..

ويمكن القول أنها تمثل الحضارة الغربية، والتي أصبحت حضارة معولمة، وهي في طريقها لتصبح حضارة إنسانية شاملة..

طبعا، الصورة ليست مثالية تماما، فأوروبا تعاني من مشاكل وأزمات عديدة، وهذا موضوع آخر، فالمقال يطرح أسئلة محددة: كيف وصلت أوروبا إلى هذه المرتبة؟ وكيف بنت حضارتها؟ وكيف خرجت من عصور الظلام؟

وقبل الإجابة، يجدر التذكير بأن أوروربا وكما قدمت الحضارة، والمعرفة، والفنون، والفلسفة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.. قدمت أيضا الرأسمالية المتوحشة، والحروب والتدمير، وتاريخ استعماري حافل بالمخازي، وشكلت أهم مصادر العنف والإرهاب في العالم..

فقد صدّرت العنف للشرق منذ الحروب "الصليبية"، ثم صدرته إلى أمريكا مع المهاجرين الأوائل، والعنف الذي استخدمته كوسيلة للوصول للحرية والتخلص من تسلط الكنيسة أتى بالتطرف والحروب الدينية، والإصلاح الديني الذي بدأ مع مارتن لوثر، انحرف عن مساره على يد أتباعه الذين استخدموا البطش والعنف، وكانت نتيجته تقسيم أوروبا طائفياً وسياسياً، والتشجيع على نشوء التطرف وانتشاره. كما أن الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والمساواة أتت بنتائج متناقضة مع مبادئها، لأنها استخدمت القسوة والعنف في أساليبها. أيضا، العنف والتطرف الذي ظهر في بلدان العالم الثالث كان ردة فعل طبيعية على عنف الاستعمار الأوروبي الذي مورس بكل قسوة بحق شعوب تلك البلدان.. وكذلك الأيديولوجيات المتطرفة كالفاشية والنازية أتت كنتاج للأساليب الوحشية التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى. بمعنى آخر، يمكننا القول بأن كافة أشكال التطرف، والأيديولوجيات العنيفة، والتعصب الوطني والمذهبي والعنصري الذي نراه اليوم في كافة بقاع العالم، بدأت مقدماتها بالظهور، ومعالمها بالتشكل في أثناء مراحل الصيرورة التاريخية التي مرت بها أوروبا في القرون القليلة الماضية.

ولكن، يتوجب إدراك أن أوروبا ومنذ النصف الثاني للقرن العشرين تختلف كليا عمّا قبل ذلك، وهي تمثل الآن حقبة مختلفة بسماتها وخصائصها.

وبالعودة، إلى أسئلة المقال، يتوجب العودة قليلا إلى الوراء.

مبدئيا، يمكن اعتبار سنة 476م بداية عصور الظلام في أوروبا، وهي السنة التي شهدت نهاية الإمبراطورية الرومانية في الغرب.. وكما اختلف المؤرخون على تحديد البدايات، اختلفوا أيضاً حول تحديد النقطة التي انتهت عندها، فقد رأى البعض أن نقطة التحول لنهاية القرون الوسطى كانت سنة 1453م، وهي سنة سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين، وفي تلك السنة أيضاً انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. فيما يرى آخرون أن بداية عصر النهضة مثلتها حركات الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر (1483 ~ 1546).

على أية حال، من الثابت أن أوروبا غرقت في بحر الظلمات مدة ألف عام، ثم بدأت صحوتها بعصر التنوير والنهضة ثم الثورة الصناعية، والتي استغرقت نحو 500 عام، قبل أن نرى أوروبا في صورتها الحالية.

ساد النظام الإقطاعي طوال القرون الوسطى، وقد استفحل خلالها الفقر والبؤس، وانتشرت الأوبئة والمجاعات، وكانت الكنيسة آنذاك كل شيء في أوروبا؛ تسيطر على كافة مناحي الحياة، من الولادة إلى الزواج حتى الممات. وكانت الأمية متفشية على أوسع نطاق، إذْ منعت الكنيسة الناسَّ من تعلم القراءة والكتابة، وكل من فكّر، أو اختلف مع الكنيسة، أو عبّرَ عن احتجاجه على مظالمها، اعتبرته مهرطقا يستحق أقصى العقوبات.. ملايين النسوة أحرقن بتهمة السحر، ملايين الفقراء قضوا نحبهم في محاكم التفتيش، والتي كانت مخصصة بدايةً لمعاقبة المسيحيين المهرطقين، وكانت عقوباتها لا تقتصر على حرق كتب المفكرين، بل وحرقهم شخصيا. ولم تبقَ محاكم التفتيش مقتصرة على المسيحيين، إذْ شملت المسلمين واليهود في الأندلس.

في أواخر عصر الإقطاع طرأ تحول جوهري على أدوات ووسائل الإنتاج، فلم تعد الأرض والزراعة هي المصدر الأساسي للثروة، وحلت محلهما الصناعة والتجارة، وظهرت فئة الصناع والتجار كطبقة منتجة مستقلة، ما سمح بخلق فئة الرأسماليين الذين ملكوا وسائل الإنتاج، وحققوا ثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية بجهودهم الشخصية ومن الفرص المتاحة، خلافا لبرجوازية عصر الإقطاع الذين امتلكوا ثرواتهم ومكانتهم بالوراثة.  

ومع حلول القرن السادس عشر بدأت الأحداث التالية تؤسس للمرحلة المقبلة (سأعرضها وفق التسلسل التاريخي)؛

أولا: نهاية الإمبراطورية البيزنطية، وسقوط القسطنطينية، ونتيجةً لذلك هاجر علماؤها وفنانوها صوب المدن الإيطالية، فزاد التنافس الثقافي والاقتصادي بين الإمارات الإيطالية، ما أدى إلى ازدهار الحركة الفنية والعلمية والثقافية.

ثانيا: في غرب أوروبا، سقطت غرناطة وانتهى الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية. وبدأت حركة الاستكشافات الجغرافية، وتم اكتشاف أمريكا في نفس العام.. وكان قد سبقه اكتشاف رأس الرجاء الصالح، والذي أدى إلى تغيير طرق التجارة الدولية.

ثالثا: ظهور الحركة الإنسانية وتحديدا في إيطاليا؛ وهي حركة فكرية فنية ساهمت في تطوير المعرفة، وركزت على تمجيد الإنسان باعتباره أرقى الكائنات، بعد أن كانت الكنيسة تحتقر جسد الإنسان وطبيعته، وتعتبره آثما.. كما كانت تحتقر الجنس وتعتبره رذيلة.. وقد تميزت الأعمال الفنية في بدايات عصر النهضة بإعادة الاعتبار للإنسان، والنظر إليه على أنه صنيعة الله، وعلى صورته الجميلة، فصارت الأجساد العارية محورا للوحات والمنحوتات. كما أعلت الحركة الإنسانية من قدر الإنسان الجسد،  أعلت أيضا من قدر العقل، والتفكير العلمي والاستدلال بالبراهين بدلا من المقولات الدينية الرائجة. لكن إعادة الاعتبار للجنس سيتأخر إلى القرن العشرين، مع ظهور الثورة الجنسية.

وأهم رواد تلك الفترة ميكافيلي، مايكل أنجلو، دافنشي، رافايلو، جاليليو.. وغيرهم، الذين اهتموا بالترجمة، وبالفنون، وإحياء التراث القديم، وساعدهم في ذلك وجود الآثار والمخطوطات الرومانية واليونانية في إيطاليا، مستفيدين أيضا من إرث الحضارة الإسلامية.

 (2-2)

استكمالا لما سبق، نستعرض أسباب وعوامل وركائز الحضارة الأوروبية، ونضيف هنا ثلاثة أحداث، شكلت منعطفات تاريخية، لعبت دورا بارزا في إنضاج الحضارة الأوروبية، وهي: اختراع الطباعة، والثورة الصناعية، والثورة الفرنسية..

فقد ساهم اختراع المطبعة على يد الألماني جوتنبرج  1440م، وازدهار صناعة الورق، وانتشار الصحافة المطبوعة، في نشر المعرفة، وظهور جيل جديد من العلماء، أما ازدهار الترجمة عن اللاتينية إلى اللغات المحلية فقد ساهم في اطلاع الناس على الكتب المقدسة، التي ظلت لآجال متلاحقة حكرا على الكنيسة، وهذا ساعد في نشر أفكار مارتن لوثر، وفي تصعيد وتيرة الإصلاح الديني، ما أدى في نهاية المطاف إلى التخلص من سطوة الكنيسة.

كما ساهم اختراع الطباعة في ظهور النـزعة القومية والوطنية خاصة في القرنين الثامن والتاسع عشر، وظهور الدولة القومية، وإعادة تشكيل الخرائط السياسية للقارة.

أما الثورة الصناعية والتي أتت تتويجا منطقيا لعصر النهضة الذي بدأت قبل ذلك بقرنين، وكانت ثمرة للتطور العلمي الذي بدأ يأخذ منحى متسارع، وقد انطلقت شرارتها من بريطانيا، باختراع الآلة البخارية في ستينيات القرن الثامن عشر، فقد أدت إلى تطور الصناعة، خاصة النسيج والصلب. ومع انتقالها إلى باقي أوروبا دشنت عصرا جديدا، بالانتقال من الصناعات التقليدية إلى الحديثة، وازدهار التجارة العالمية، وبالتالي بروز الحاجة إلى وسائل وأدوات إنتاجية ووسائل اتصالات جديدة، بحيث تكون قادرة على لاستجابة للحاجات المتزايدة للأسواق العالمية، التي لم تعد الصناعات التقليدية قادرة على تلبيتها، ما أدى إلى توسع شبكات المواصلات وظهور الجسور والسكك الحديدية..

وعلى المستوى الاجتماعي تبلورت الطبقتين العاملة والبرجوازية، وبدأ الواقع الجديد يُغير أنماط العيش وعادات الناس، وظهر مفهوم التمدن والمواطنة وحقوق الأفراد، وتميُّـز الحواضر الكبرى عن الأوساط القروية، التي كانت ما تزال في عصر ما قبل الصناعة.

في خضم تلك المرحلة اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789، التي رفعت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وظهر العديد من المفكرين المتنورين مثل جون لوك، وجان جاك روسو، وغيرهم.. رغم أن النتائج التي انتهت إليها الثورة الفرنسية كانت كارثية بكل المعاني، وخاصة في السنوات الأولى التي أعقبت الثورة، حيث ارتدت فرنسا مرة ثانية إلى الديكتاتورية، في عهد نابليون. إلا أنها في النهاية شكلت الضربة القاصمة للإقطاع، وهيمنة الكنيسة لصالح البورجوازية، وطرحت العلمانية وأفكار المواطنة والنظم الدستورية وحقوق الإنسان.

وقد شكل عصر النهضة (وما تلاه حتى القرن التاسع عشر) مرحلة هامة في مسيرة التطور الأوروبي، البعض اعتبره عصر كوبرنيكوس، ونيوتن، وماكسويل، ودارون، وجان جاك روسو، وفولتير، وكانْت، وفرنسيس بيكون، وسبينوزا، ومونتسكيو، وهيغل وماركس، وأنجلز، وآدم سميث وغيرهم. فقد أثر كلٌ منهم بطريقته الخاصة. والبعض اعتبره عصر سيادة مفاهيم الليبرالية والحقوق الفردية، وحقوق الإنسان، والنظريات العلمية، والتفكير المنطقي، والمذهب العقلاني والشك المنهجي، والتسامح، والديمقراطية، وفن الرسم والنحت، والعمارة، والموسيقى، وبدايات عصر الحداثة.

وبالنظر إلى تسلسل صيرورة وتشكل الحضارة الأوروبية، سنجد أنّ العقلية الأوروبية تشكلت في البديات من مزيج لثلاثة عناصر: ثقافة الإغريق والرومان، والمسيحية، وثقافة المحاربين الجرمانيين الذين أغاروا على الإمبراطورية الرومانية وداهموا أراضيها. مع الإقرار بأنه ليست كل أجزاء أوروبا بذات الأهمية في تشكيل الحضارة الأوروبية؛ فالنهضة الفكرية والفنية بدأت من إيطاليا، والإصلاح الديني بدأ من ألمانيا، وهي أيضا طورت الفلسفة، أما الديمقراطية الثورية وحقوق المواطنة فبدأت في فرنسا، والحكومة البرلمانية مثلتها إنجلترا، وهي أيضا دشنت الثورة الصناعية. أما الاستكشافات الجغرافية فقد انطلقت من إسبانيا.

وسنجد أيضا أن أوروبا الجديدة أخذت من الرومان والإغريق القانون، والنظم الإدارية، والأعمال الهندسية. كما استفادت من الحضارة العربية الإسلامية، ومن علماء المسلمين، وترجماتهم، وبشكل خاص من حضارة الأندلس. فالحضارة الأوروبية بدأت من حيث انتهى الآخرون، وجاءت امتدادا للحضارات التي سبقتها، وتواصلا معها.

علماً أنَّ مفكرو وعلماء عصر النهضة اعتقدوا أنه لا يمكنهم التفوق على ثقافة وعلوم وفلسفة الإغريق والرومان، بل يمكن التساوي معها، ولهذا أطلقوا على تلك المرحلة وصف الكلاسيكية، بمعنى الأفضل. وقد تجادلوا قرنين كاملين حول إنجازات القدماء مقارنة بالمعاصرين. ولم ينته هذا الجدل إلا في القرن السابع عشر، عندما تم إثبات خطأ نظريات بطليموس خاصة في الفلك، ومن بعدها فقدت الكلاسيكية قداستها، وصار بوسع علماء تلك الحقبة التحليق وتحقيق المنجزات الكبرى. (جون هيرست، "أوروبا، تاريخ وجيز").

وهكذا سار القطار: من عصور الظلام والتخلف، إلى عصر التنوير، إلى الإصلاح الديني والثورة على الكهنوت، إلى عصر النهضة، فالثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، وإعادة رسم الخرائط السياسية في العصر الكولونيالي.. وصولا إلى أوروبا الموحدة.. أزيد من خمسة قرون مزلزلة، وقعت فيها حروب طاحنة، وبرز خلالها عشرات العلماء والمفكرين والفلاسفة والفنانين، وطرحت نظريات علمية وفلسفية ثورية، وبرزت مدارس فنية وفكرية متنوعة.. كان مخاضا عسيرا ومؤلما..  

ظلت أوروبا وعلى مدار تاريخها تحاول جاهدة إيجاد صيغة جامعة لهوية أوروبية موحدة، ولأنها تفتقر لأهم رابط قومي (وهو اللغة)، فقد كانت في كل مرحلة تاريخية تجد لنفسها قواسم مشتركة معينة، سرعان ما تنهار وتتبدد بمجرد أن تبدأ بطرح أسئلتها الإشكالية الكلية. ففي العصور الوسطى وجدت ضالتها في الهوية المسيحية التي ميزتها وحافظت عليها بفعل سيطرة الكنيسة، في عصر التنوير وجدت أوروبا ضالتها في الهوية الثقافية والفنية، ولكنها بدخولها عصر الاكتشافات الجغرافية ثم الثورة الصناعية، ومن ثم الحقبة الكولونيالية تبين لها مدى التناقضات الشديدة بين أقطارها، وتباين مصالحها الهائل، الأمر الذي تُرجم في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

في العصر الحديث وجدت أوروبا ضالتها في الهوية الاقتصادية، أي من خلال البحث عن الروابط والمصالح والحاجات الاقتصادية المشتركة، والعمل على الاستفادة منها لخلق هوية أوروبية، ومن هنا نشأت التكتلات الأوروبية التي انتهت بصيغة الإتحاد الأوروبي.

بعد هذا العرض الموجز، يظل السؤال المعلق: هل فعلاً نضجت الحضارة الأوروبية، لدرجة تؤهلها لتمثيل الحضارة الإنسانية؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق