أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 24، 2021

مرايا

 

كم مرة في اليوم تنظر إلى نفسك في المرآة؟ من يستخدم المرآة أكثر، الرجل أم المرأة؟ في الواقع لا تتوفر لدي إحصاءات دقيقة للإجابة على هذه الأسئلة، ولكل إنسان إجابته الخاصة استنادا إلى تجربته الشخصية، وهنالك وجهات نظر عديدة حول المرآة، مثلا: هل كثرة النظر في المرآة دليل على الثقة بالنفس، حيث يُسر الإنسان بالنظر إلى نفسه، ويشعر بالرضا! أم أن من يكثر النظر في المرآة غير راضٍ عن نفسه، ولا يتقبل شكله، فيبحث عمّا هو خطأ لتصحيحه!

غالبا، أَستخدمُ المرآة في الحمّام صباحاً لحلاقة الذقن وتصفيف الشعر، ثم أتفحص ثيابي مرة ثانية أمام مرآة الخزانة، وثالثة لأتأكد من شكلي أمام مرآة أخرى عند المدخل قبل مغادرة البيت، ورابعة باستخدام مرآة السيارة، وخامسة في المصعد.. وفي كل مرة أشاهد المنظر ذاته! ولو صادفتُ مرآة أخرى لن أتردد باستخدامها!

في كل بيت مرايا عديدة، فهي رخيصة الثمن، وعدا عن وظيفتها التقليدية، هي أيضا جزء من ديكور المنزل.. وهي أيضا متوفرة خارج المنزل أينما وليت، وفي حقائب السيدات.. ورغم شدة بساطتها، لدرجة أننا لا نطرح سؤالا عن مدى أهميتها، ولكننا لا نستطيع تصور الحياة بدونها! وهذا يقودنا إلى سؤال محير: كيف كان الناس يعيشون قبل اختراع المرآة؟ ومتى صُنعت أول مرآة؟ وكيف كانت دهشة أول من رأى نفسه وجها لوجه؟

غالبا كان الإنسان القديم يستخدم برك المياه الساكنة لرؤية وجهه، أو كان يضع الماء في أوانٍ بدائية ثم ينظر فيها، وبالتأكيد سيرى صورة ضبابية مشوشة، وبالكاد يميز فيها ملامحه.. ويُقال أن أقدم مرآة مصنعة كانت حجارة شبه مصقولة من نوع من الزجاج البركاني الطبيعي، ومثل تلك المرايا الحجرية وُجدت آثارها في مناطق عديدة حول العالم، وتعود إلى مئات السنين قبل الميلاد، كما عُثر على مرايا من النحاس المصقول في بلاد الرافدين وفي مصر القديمة تعود إلى العصر النحاسي. أما الصينيون فقد استخدموا مرايا البرونز حوالي 2000 قبل الميلاد، كما صنعت مرايا من أمزجة معدنية )مثل النحاس والقصدير) في الهند. ويعتقد أن أول مرآة معدنية مغطاة بالزجاج قد صنعت في مدينة صيدا في القرن الأول الميلادي،  كما طور الرومان تقنية لتشكيل المرايا الخام عن طريق تغطية الزجاج المنفوخ بالرصاص الذائب.

وعُثر على لوح مسماري يعود للألف الثانية قبل الميلاد جاء فيه أن امرأة نبيلة سومرية تسمى "سيدة أوروك"، لديها مرآة مصنوعة من الذهب الخالص. 

كانت تلك المرايا مصنوعة من معادن ثمينة، وكانت باهظة الثمن، ولا يستطيع اقتناؤها سوى الملوك والأثرياء، ومع ذلك كانت تعطي صورة غير واضحة، وشبه معتمة، وإذا لم تكن المرآة مستوية تماما (تحدبا أو تقعرا) ستبرز أنفا ضخما، أو صورة مقلوبة، أو مضحكة..

أما أول مرآة زجاجية مستوية في التاريخ تعطي صورا واضحة فكانت في عام 1835، وقد اخترعها الكيميائي الألماني "جوستوس ليبيج" وذلك بطلاء سطح الزجاج بالفضة المعدنية.. أي أنّ عمر المرايا في تاريخ الإنسانية أقل من مئتي سنة.

قبل هذا التاريخ، وُلد ملايين الناس، وعاشوا حياتهم بطولها وعرضها، وماتوا دون أن يروا وجوههم مرة واحدة!  

كان على المرأة حتى تعرف شكل وجهها أن تسأل شريكها، فيصفه لها: يا جميلتي، عيناك واسعتان بنيتان، شعرك  خروبي كالحرير، أنفك دقيق، شفتيك مكتنزتين.. ثم تسأل صديقتها (التي تغار منها) فتقول لها: يا مسكينة، شعرك منكوش، وعيناك غائرتان متعبتان، وبشرتك تغطيها التجاعيد، وبين أسنانك ورقة بقدونس كاملة.. يبدو أنكِ تعشيت أمس طبقا من التبولة!

وهذا يستدعي السؤال: أيهما أسبق التبولة أم المرآة؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين.. المرآة تحتاج زجاج، وكيمياء معينة.. وهذا يذكرنا بالمقولة المنسوبة للقذافي "قبل اختراع الكهرباء كنا نشاهد التلفاز في العتمة"..

وفي طرفة متداولة أنّ إعرابيا زار المدينة لأول مرة في حياته، وحينما دخل المصعد رأى في المرآة شخصا يقابله تماما، يشبهه، ويرتدي نفس زيه التقليدي، فسأله: الأخ من عشيرتنا؟!

في الواقع لا تتوفر دراسات علمية (في حدود علمي) عن مدى تأثير المرايا على حياتنا، وعلى حالتنا النفسية.. ربما لأنه لا يوجد إنسان حاليا ليس لديه مرآة.. ولكن أذكر أنه بعد مكوثي لفترة في العزل الانفرادي شاهدت نفسي لأول مرة منذ أشهر عديدة، فأطلتُ النظر في وجهي مذهولا مرتبكا، وكأنني أراني لأول مرة..

قديما استخدمت المرايا لأغراض أخرى غير مشاهدة الذات؛ للتمائم السحرية، ولصد العين الشريرة! وفي أسطورة شعبية متوارثة أن من ينظر في المرآة آخر الليل قد ينقلب إلى قط أسود!

بعد انتشار المرايا على أوسع نطاق، صارت تُستخدم لتفسير نظريات فلسفية معقدة، وللإجابة على السؤال الإشكالي: أيهما أسبق في الوجود: الوعي، أم المادة؟ وتُستخدم لضرب الأمثلة الشعبية، والحِكم، وفي أنواع عديدة من الفن، وفي الأدب والشعر والرواية تُستخدم كرموز على تعدد الشخصيات، وتناقض الشخصية الواحدة.. وقد اتخذ الفنان السوري الكبير ياسر العظمة اسم "مرايا" لأشهر مسلسلاته، الذي يقدم صورا متعددة عن مجتمعاتنا، ومسلكياتنا.

وإلى جانب المرايا المستوية التقليدية، هنالك مرايا محدبة، ومقعرة، قد تراها في المجمّعات الترويحية للتسلية والسخرية من الذات، وللضحك على الأشكال العجيبة التي تعكسها تلك المرايا.. كما روجت شركات منتجات التجميل مرايا مقعرة، تُظهر تفاصيل الوجه بشكل أوضح، وعند استخدامها تظهر بعض التجاعيد المخفية، فتسارع النساء لشراء ما يخفيها من كريمات ومساحيق..

وقد باتت المرايا اليوم جزءا مهما من صناعات بالغة التعقيد.. كالمرايا المستخدمة لتجميع الضوء، وفي عملية استقبال موجات الرادار والتلفزة، وفي تكبير الصورة لأطباء الأسنان، وفي مصابيح السيارات، وفي المجهر الضوئي (الميكروسكوب)، وفي بناء تلسكوبات الرصد الفلكي (تلسكوب تشيلي العظيم، وتلسكوب مرصد كيك في هاواي)..

أنظر لنفسك كثيرا في المرآة، تأكد من أناقتك، ومن حُسن هندامك.. ولكن قبل ذلك، وبعده، أنظر إلى مرآة روحك.. لعلك ترى بعضا من عيوبك المخفية، واجه نفسك بصدق وشجاعة، راجع أفكارك، تصرفاتك.. فجمال روحك أهم وأبقى من جمال شكلك..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق