أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 18، 2021

إشكالية المنتصر والمهزوم في افغانستان

 

أعتقد أن المقارنة بين سقوط سايغون على أيدي الثوار الفيتناميين وسقوط كابول على يد طالبان مقارنة غير عادلة، رغم أنّ المنسحب في الحالتين أمريكا، وفي الحالتين تتكرر نفس مظاهر الفوضى، والتخلي عن الحلفاء، وتركهم لقمة سائغة لانتقام السلطة الجديدة.

سأكون منحازا لثوار فيتنام، الذين حاربوا بشجاعة من احتل بلادهم، وخاضوا ضده حربا حقيقية، رغم قسوة وعدم إنسانية الكثير من ممارساتهم تجاه السكان المدنيين، وضد معارضيهم.. وهي حتى لو كانت لا تقارَن بجرائم أمريكا، إلا أنها تظل مدانة مرفوضة.

الذين تخلت عنهم أمريكا في سايغون، وركلتهم بالشلوت وهم يتسلقون سلما من الحبال للصعود في آخر طائرة عسكرية أمريكية هاربة من البلاد، هؤلاء حاربوا إلى جانب أعدائهم، ليس بانخراطهم في مؤسسات النظام الحليف، أو بتقديمهم خدمات معينة للجيش؛ بل انتظموا في تشكيلات عسكرية، وشكلوا جبهة محاربة مسلحة ضد وطنهم، فاستحقوا مصيرهم.

في أفغانستان الأمر مختلف، فهذا البلد مبتلى بالحروب منذ زمن طويل، وتقلبت عليه غزوات احتلالية عديدة، وشهد تنصيب حكومات من شتى الاتجاهات، كانت لها ولاءات وأجندات متباينة ومتناقضة، وفي آخر أربعين سنة لم تهدأ جبهات القتال في عموم البلاد.. لذا، سيكون من الظلم محاكمة السكان المدنيين أو إدانتهم إذا رغبوا بحياة مستقرة، تؤمن لهم مصدر رزق بالحد الأدنى، حتى لو تطلب ذلك انضمامهم لمؤسسات الدولة وأجهزتها وجيشها، بغض النظر عن ماهية الحكومة القائمة..

الاختلاف الآخر أن الثوار الفيتناميين كانوا أعداء حقيقيين لأمريكا.. أما طالبان، فهي صنيعة أمريكا.. ومن قبلهم كان من سموهم "المجاهدون الأفغان" حلفاء أمريكا، زودتهم بالسلاح والعتاد، وأمرت أتباعها في الخليج بتزويدهم بالمال والرجال.. وفي عهد ريغان تم تزويدهم بأحدث التقنيات العسكرية "صواريخ ستينغر" التي كانت من بين أسباب هزيمة الجيش السوفييتي.

وفي ذروة صراع الإخوة وتقاتل المجاهدين فيما بينهم عقب الانسحاب السوفييتي، كانت الاستخبارات الباكستانية (بدعم ورعاية أمريكية) تجهز حركة طالبان (أغلبية بشتون، الأقرب إلى باكستان عرقيا)، إلى أن مكنتهم من الاستيلاء على البلاد في نيسان 1992.

وكما وظفت أمريكا "المجاهدين الأفغان" في حربها الباردة مع السوفييت، وظفت مخلفات الحرب الأهلية الأفغانية، من قوى الإسلام السياسي الجهادي (القاعدة، والتي انبثقت عنها النصرة وداعش) وظفتهم لخدمة مشروعها التوسعي الإمبريالي تحت حجة محاربة "الإرهاب الإسلامي"، فاحتلت أفغانستان والعراق وأجزاء من سورية لإقامة قواعد أمريكية، وتنصيب نظم موالية وحليفة، وبالطبع من أجل نهب مواردها، والسيطرة على طرق إمداد الطاقة (النفط والغاز).

بعد عشرين سنة من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، انسحبت منها، ولكن لغرض إستراتيجي، وهو مواجهة الصعود الصيني، والدور الروسي المتنامي. وأفغانستان في قلب المنطقة، وهي الأنسب لمواجهة هذين الخصمين اللدودين.. ولن تجد أفضل من طالبان لتولي هذه المهمة.. فنظام "كرزاي" و"أشرف غني" نظام فاسد وضعيف، ولا تستطيع أمريكا الاعتماد عليه في مواجهة العملاقين الصيني والروسي، أما طالبان (مع دور ومشاركة لكل من تركيا وقطر) سيكون له قدرة أكبر.

ومن خلال نظام إسلامي في أفغانستان، تضع أمريكا عينيها على أهم منطقة في الصين: مقاطعة "شينجيانغ" على حدود أفغانستان الشرقية، تسكنها أغلبية مسلمة، ويطالبون بالانفصال، وتدعهم أمريكا بتسخين قضيتهم، تحت اسم اضطهاد الأيغور. هذه المنطقة تشكل بداية طريق الحرير الجديد، والتي توصل الصين ببقية آسيا، جنوبا إلى المحيط الهندي، وشرقا إلى أوروبا، وحوض المتوسط.

قرار الانسحاب من أفغانستان كان متخذا منذ سنوات عدّة، في عهد ترامب، ونفذه بايدن. ما يعني أن الانسحاب لم يأتِ تحت وطأة الهزيمة العسكرية، إنما نتيجة تغير في الإستراتيجية الأمريكية نضج تحت تأثير عاملين:

الأول: أنّ زمن الحرب التقليدية انتهى، وأصبحت الحروب الجديدة بين الدول الكبرى تعتمد السيطرة على التجارة الدولية، والتأثير في الاقتصاد العالمي، والذكاء الاصطناعي، والجيل الجديد من الإنترنت، والأمن السيبراني، وغزو الفضاء.. وهذه أمور تحقق فيها الصين اختراقات خطيرة.

الثاني: إدراك أمريكي متأخر بفشل سياساتها الخارجية منذ انتهاء الحرب الباردة، أي فشل سياسة القوة والحروب الاستباقية واستبعاد الأطراف الدولية والإقليمية.. والتفكير بمسار جديد يعتمد الحوار والتفاوض والمؤتمرات الدولية، وهذا ما جاء حرفيا في تقرير لجنة بيكر / هاملتون (لجنة مشتركة من الجمهوريين والديمقراطيين، حزيران 2006). والذي أقر أيضا بأن حل الصراع العربي الاسرائيلي يشكل حجر الزاوية لحل الأزمة في العراق. حيث جاء التقرير في فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، وفي ذروة انشغال أمريكا بما أسمته الحرب على الإرهاب، حيث تنبهت بأن روسيا تستعيد عافيتها، وتسترد مكانتها في المنطقة والعالم، والصين تنهض كقوة عالمية اقتصاديا وتكنولوجيا، صارت تهدد أمريكا نفسها..

وقد شكلت توصيات بيكر - هاملتون تحولا في السياسة الأميركية، حيث أدت إلى انسحاب أمريكا من العراق 2009، وتأكيدا على هذا التوجه تمّ الإعلان عن "وثيقة مُعدّلة" لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي (2021). أكدت على ضرورة إنهاء "الحروب المزمنة" التي تخوضها أميركا، والتي أصبحت عبئا عليها، ولم تعُد مفيدة لها. وبدلا منها يتوجب التركيز على ترميم الوضع الأميركي، داخلياً وخارجياً، لضمان الفوز في المواجهة الجديدة.

صحيح أن دخول طالبان كابول شكّل مفاجأة (من حيث سرعته) إلا أن سيطرتها على عموم أفغانستان كانت حصيلة مفاوضات جرت على مدى سنتين وأكثر في الدوحة بين طالبان والأمريكان، توصل الطرفان إلى تفاهمات معينة، أهمها ضمان طالبان بعدم السماح بتواجد أي قوة تهدد أمريكا، بما فيها "القاعدة"، وعدم السماح بتدخل روسي أو صيني أو هندي أو إيراني في أفغانستان (وهؤلاء من يهددون تفرد الدور الأمريكي). ما يعني أن أفغانستان ستصبح قاعدة متقدمة في حرب أمريكا الجديدة ضد الصين وبقية خصومها ومنافسيها.

كما عملت أمريكا على ترويض نسخة معدلة من طالبان، بالذات بما يضمن وقف هجماتها وعملياتها "الإرهابية".. مع صياغة شكلية لما يخص الشأن الاجتماعي (حقوق المرأة) وحقوق الأقليات والمدنيين..

في المحصلة ما يهم أمريكا مصالحها العليا، وكل حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إنما هو هراء وبروبوغاندا مضللة، بدليل تسليمها البلاد لجماعة لا تعترف بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولديها سجل حافل بانتهاكات فظيعة لكل ما هو إنساني.. وفي هذا دلالة أخرى: سهولة تخلي أمريكا عن حلفائها، وهو ما شهدناه مرارا وتكرارا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق