أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 03، 2021

عبد اللطيف عربيات، ونظرية المؤامرة

(1~2)

يقول المرحوم عبد اللطيف عربيات (قيادي إخواني سابق) في مقابلة متلفزة "بعد أن قامت إسرائيل، وتم الاعتراف بها من قبل عدد قليل من الدول، فبحثوا الأمر، كيف يمكن أن يحصل الاعتراف الشامل والمفتوح بإسرائيل من دول العالم؟ فاتفقوا بأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بعد اعتراف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإسرائيل، وقبل اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل لا قيمة لاعتراف الدول الأخرى، في العام 1957 وصلوا إلى هذه النتيجة، أنه لا بد من صنع جسم فلسطيني يمثل الفلسطينيين، وهو سيعترف بإسرائيل، وعام 1962 اتصل جون كينيدي بجمال عبد الناصر، وقال له يا جمال نريد جسم فلسطيني يمثل الفلسطينيين نتعاون معه، وهو يعترف بإسرائيل؛ فكانت منظمة التحرير الفلسطينية (1964)، فحولوها من قضية إسلامية إلى عربية، وفي العام 1974 حولوها إلى قضية فلسطينية، وبعد عشرين عام وصلوا إلى أوسلو، وتم الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي كل ما حصل عبارة عن مؤامرة مرتبة خطوة بخطوة". انتهى الاقتباس.

بداية، أسجل استغرابي من هذا الطرح، وأتساءل كيف لقيادي مخضرم وعلى درجة عالية من الثقافة، أن يفكر بهذه الطريقة السطحية والساذجة! وأن يبني استنتاجات مهمة وتاريخية بهذه الخفة؟ فالرجل فاضل ويديه بيضاء، ولا خلاف على شخصه، الخلاف على منهج التفكير، المغرق في نظرية المؤامرة.

في المقابلة ينسب حديثه إلى سياسي أردني سابق "عبد الله صلاح"، وهو حديث لا يمكن إثباته؛ لأنه دون دليل مادي، ولا توجد وثائق تدعمه، هو مجرد وجهة نظر، وأحكاما مرسلة، وفيه قدر من الخيال، يصعب اعتماده كمرجع لأي بحث علمي، فمثلا يقول: "فبحثوا الأمر، كيف يمكن أن يحصل الاعتراف الشامل والمفتوح بإسرائيل".. من هم الذين بحثوا الأمر؟ وأين بحثوا؟ وما هي الوثائق التي تثبت ذلك؟ وما دليل الاتصال الهاتفي بين كينيدي وعبد الناصر؟

ومجمل الحديث ينطوي على مغالطات تاريخية ومنهجية ومنطقية، سأحاول تفنيدها؛ فمثلاً، يقول: "تم الاعتراف بإسرائيل من قبل عدد قليل من الدول".. والحديث عن فترة الخمسينيات؛ حيث ركزت إسرائيل في تلك الفترة على تمتين علاقاتها بالدول الكبرى، وأهمها أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي، وذلك بهدف ترسيخ شرعية وجودها وتأمين المساعدات اللازمة لقيامها، ولم تعطِ أهمية تُذكر لدول العالم الثالث.. إلا أنها تنبهت لخطأ هذا المنحى؛ فبدأت منذ نهاية الخمسينيات بنسج علاقات مع دول أخرى لها حضور فاعل على الساحة الدولية، ولما كانت أمريكا اللاتينية بمثابة الحديقة الخلفية للبيت الأبيض؛ اعتبرتها إسرائيل مضمونة، وبالتالي يمكن تأجيلها بعض الوقت، بينما كانت معظم الدول الآسيوية واقعةً تحت النفوذ السوفييتي، الأمر الذي دعا إسرائيل لجعلها في المرتبة الثانية ضمن أولوياتها، بعد إفريقيا.

بمعنى أن إسرائيل لم تكن في البداية معنية باعترافات دولية، ولما أرادت ذلك، بدأت وفق مخطط مدروس، نفذته بنجاح لافت خلال عقدين، وبمساعدة أمريكية، ولم تكن بأي حاجة لاعتراف الفلسطينيين؛ بل إنها كانت لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، ولا بممثله، وتتعامل مع الفلسطينيين كسكان يمكن حل مشاكلهم بتحقيق بعض مطالبهم المدنية، ولم تكن تفكر بمنحهم أي حقوق وطنية أو سياسية.

يضيف: "واتفقوا أنه لا بد من صنع جسم فلسطيني يمثل الفلسطينيين، ليعترف بإسرائيل".. الفلسطينيون في تلك الفترة كانوا عبارة عن جموع لاجئين، يعيشون ظروفا بائسة، ويجري قمعهم بكل قسوة من قبل الدول المضيفة، كانوا بقايا شعب على وشك الانقراض، بلا قيادة، وبلا تمثيل سياسي، بلا كيان، يبحثون عن خلاص فردي بالسفر، أو بالتكيف مع الواقع الجديد، تتهددهم مخططات التصفية الجسدية، والاحتواء، والإذابة، والإنابة، والتوطين، وتحويلهم إلى هنود حمر، وأقليات في طريقهم نحو الاندثار، وقضيتهم سيطويها النسيان.. إذن، من هذا العدو الغبي الذي سيحيي وجود أعدائه الذي سعى لإنهائهم، ثم يجعل لهم كيانا سياسيا، واعترافا عالميا؟! وما هذا العدو الذي يصنع من يضربه، ويأتي بمن يقارعه، ويجيّش ضده، ويحرض الشعوب عليه، ويهدد بنسف مشروعه؟ ألا يتناقض هذا مع المنطق؟ وقبل ذلك يتناقض مع مجريات الأحداث آنذاك..

يضيف عربيات: "في العام 1957 وصلوا إلى نتيجة بأن إسرائيل لن تحظَ باعتراف عالمي إلا بعد اعتراف الفلسطينيين بها، وقبل ذلك لا قيمة لاعتراف الدول الأخرى".. لماذا انتظروا تسع سنوات قبل التوصل إلى هذه النتيجة؟ ألم يكن هذا واردا في حسبانهم أثناء الإعداد لقيام إسرائيل؟ ولماذا انتظروا خمس سنوات أخرى ليتصل كينيدي بعبد الناصر ويطلب منه صنع جسم فلسطيني!!

نلاحظ هنا أولاً الموقف السلبي الإخواني من عبد الناصر، ومحاولات إظهاره كجاسوس أمريكي، يتلقى الأوامر من البيت الأبيض! وثانياً: ظروف وملابسات تأسيس منظمة التحرير لا علاقة لها بكل هذا الهراء؛ فبالعودة إلى مؤتمري القمة العربية (1964) سنعرف أن القمة الأولى (القاهرة، في كانون ثاني) طلبت من الشقيري الاتصال بالجاليات الفلسطينية وتدارس فكرة إنشاء منظمة، لتكون شبيهة بحكومة عموم فلسطين، أي مجرد يافطة دون مضمون. لكن الشقيري استثمر الفرصة، وأخذ الموضوع بجدية، وفعل ما كان يؤمن به؛ أراد أن يصبح للفلسطينيين كيانا سياسيا يمثلّهم، ويعبر عن قضيتهم، ويمكّنهم من أخذ زمام المبادرة، لإبراز هويتهم الوطنية التي رأى أنها تواجه خطر الانسحاق والذوبان.

في مؤتمر القمة العربية الثاني (الإسكندرية، أيلول 1964)، قال الملك فيصل، وكان حينها رئيسا للمؤتمر: "إن المجلس الوطني الذي عُقد في القدس لا يمثل الفلسطينيين، وأن الشقيري تجاوز صلاحياته، والمهام التي كلفه بها المؤتمر، والتي لا تتجاوز دراسة الوسائل لإنشاء الكيان الفلسطيني وإعداد تقرير وطرح تصورات، ولم نطلب منه إنشاء هذا الكيان". وقد رفضت حينها كلٌ من: الأردن، العراق، سورية، السعودية فكرة المنظمة لاعتبارات مختلفة. 

                                                            (2~2)

عشية تأسيس المنظمة، نظرَ كل طرفٍ إليها من زاويته الخاصة: عبد الناصر أراد من خلالها الرد على خطوة إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن، وأن تصبح الأداة السياسية التي تعبّر عن طموح الفلسطينيين في التحرير، وأن تكون إحدى أهم منجزاته.. جامعة الدول العربية أرادت أن تغطّي النقص الحاصل في تمثيل فلسطين في الجامعة بعد رحيل أحمد حلمي، رئيس حكومة عموم فلسطين، الأنظمة العربية أرادت التخلص من العبء الأخلاقي والسياسي لقضية فلسطين، من خلال تصدير المشكلة للفلسطينيين وحصرها بهم، وبعض الأنظمة الأخرى أرادت مراقبة الحراك الشعبي الفلسطيني واحتوائه، والسيطرة عليه، واختراق الكيان الجديد. وبعضها أراد تكريس الوصاية على التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، ومواجهة المد الناصري من خلال تواجدها في المنظمة. الملك الحسين اعتبر تأسيسها تدخلا في الشأن الأردني؛ وتقويضاً للسياسة الأردنية القائمة منذ مؤتمر أريحا، باعتبار أن الضفة الغربية تحت السيادة الهاشمية، وبالتالي فإن الفلسطينيين هم مواطنين أردنيين، وقد عبَّر الملك عن مخاوفه من ضياع تمثيله لهم ولأراضيهم لصالح كيان جديد.

وهذا الطرح الذي يدعيه عربيات يتناقض مع حقائق تاريخية معروفة، وأهمها أن قرار التقسيم 1947 كان يدعو لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فلو كان في مخططات أمريكا وإسرائيل والأنظمة العربية إيجاد ممثل للفلسطينيين لفعلوا ذلك من خلال تنفيذ قرار التقسيم، لكن ما حصل هو العكس تماما؛ حيث ضمت الأردن الضفة الغربية، وضمت مصر قطاع غزة، وحاصرت الأنظمة العربية حكومة عموم فلسطين، ومنعت أي إمكانية لقيام تمثيل سياسي فلسطيني، أو كيان وطني..

يضيف عربيات: "حولوها من قضية إسلامية (1948) إلى عربية (1964)، ثم إلى فلسطينية (1974)".. بما أن فلسطين كانت قضية إسلامية منذ النكبة وحتى العام 1964، فماذا فعل العالم الإسلامي طوال هذه الفترة؟ من الذي منعهم؟ وبعد أن صارت قضية عربية لمدة عشرة سنوات، ماذا فعل العرب؟ ومن الذي منعهم؟ وبما أنها صارت قضية فلسطينية منذ العام 1974 وحتى الآن، من الذي يمنع العرب والمسلمين من التحرك؟ وما هي مؤشرات هذا التحرك أصلا؟ حتى لو كانت مخنوقة ومحاصرة، أو طفيفة وبالكاد ترى، أين هي، وما هي علاماتها؟ لماذا تحرك النشطاء الإسلاميين في أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، والصومال، والعراق، وسورية، ومالي، وسيناء، حتى وصلوا مانهاتن ومدريد ولندن وبروكسل.. وكيف اخترقوا حدود تلك الدول، بأموالهم، وعتادهم، وأسلحتهم؟ لماذا نسوا فلسطين من جهادهم؟ هل كانت الشعوب العربية والإسلامية تزحف نحو فلسطين، وتفكر ليل نهار بالجهاد فيها، إلى أن جاء الفلسطينيون وقالوا لهم: لا داعي لكل ذلك، نحن وحدنا قادرين على التحرير؟ هل هناك مقولة أكثر سذاجة وسخف من مقولة افتحوا الحدود؟ وكيف يتعارض وجود المنظمة وتمثيلها لشعبها مع إمكانية نصرة العالمين العربي والإسلامي لفلسطين؟

تنتهي المقابلة بقوله: "بالوصول إلى أوسلو، والاعتراف بإسرائيل، يعني أن كل ما حصل عبارة عن مؤامرة مرتبة خطوة بخطوة".. يعني إسرائيل وأمريكا رسمتا مخططا في العام 1957 جرى تنفيذه بنجاح مذهل على مدى أربعين سنة، دون أي إعاقة، ويعني بالتالي أن الفلسطينيين ومعهم العالمين العربي والإسلامي إما متورطين في المؤامرة، أو لا قيمة لوجودهم، فهم مجرد أدوات، وليس فيهم لا فعاليات شعبية، ولا منظمات أهلية، ولا مؤسسات مجتمع مدني، ولا أحزاب، ولا قوى معارضة، ولا مقاتلين، ولا مستقلين، ولا مفكرين، ولا أحرار.. كلهم قطيع، يسوسه الأمريكي، الذي يضع خطة لنصف قرن مستقبلا تنطلي عليهم بكل سلاسة!

طيب، الإخوان المسلمين، وهم أكبر حزب إسلامي في العالم، ولديهم ملايين الأتباع، ويمتلكون قوة مالية واجتماعية وسياسية ونقابية كبيرة جدا، ومعهم بقية القوى والأحزاب الإسلامية والجهادية واليسارية والقومية، وهم جميعا لا يعترفون بإسرائيل، ويصرحون بالعداء لها، ماذا فعل هؤلاء غير المعترفين؟ ما هو تأثيرهم على مجريات الأحداث؟ ولماذا لم يحبطوا تلك المؤامرة؟

مسألة أخرى مهمة غابت عن ذهن عربيات: منظمة التحرير منذ نشأتها وحتى الآن لم تكن كتلة صماء، ولم تكن تمثل تيارا واحدا، أو نمطا ثابتا من التفكير والممارسة السياسية، وقد اختلفت في بنيانها وفكرها السياسي وبرامجها ومخرجاتها والقائمين عليها مرات عديدة، وبتقلبات عميقة.. فالمنظمة في بداياتها تختلف عنها بعد العام 1968، ثم أضحت مختلفة عما كانت عليه حتى العام 1974، وبصورة مختلفة حتى العام 1988، وبصورة أخرى مغايرة حتى العام 1993، وباختلاف آخر حتى العام 2004، وبصورة مختلفة كليا كما هي عليه الآن.. تلك التغيرات أتت نتيجة تطور طبيعي، ونضوج سياسي، أو تأثرا بتفاعل جملة من الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وتغيرات الخارطة السياسية، والنظام الدولي، ومزازين القوى.. ولكل مرحلة من المراحل السابقة سماتها وخصائصها، وبرامجها، وفكرها السياسي، وقوتها، وأدواتها، وأساليبها، وأدائها المختلف.. بمعنى أن التعاطي مع المنظمة بمعزل عن كل تلك المتغيرات منهج غير سليم لا في التفكير، وفي التحليل، ولا في الاستنتاجات.. والنظر إلى كل تلك المراحل وكأنها تمثل خطا صاعدا منتظما ما هو إلا تبني لنظرية المؤامرة، وهي نظرية عدمية، أثبتت فشلها وخوائها مرارا وتكرارا.

أراد عربيات وهو ينطق بلسان الإخوان، ويعبر عن طريقة تفكيرهم أن يختزل وجود المنظمة ومعها كل الفصائل والقوى الوطنية التي انخرطت فيها بمسألة واحدة: الاعتراف بإسرائيل، متجاهلا كل العمليات الفدائية والمواجهات العسكرية والحروب والشهداء والأسرى والتضحيات الكبيرة، والمنجزات السياسية، والتيارات الفكرية والسياسية التي تفاعلت في داخلها، وتاريخ مضرج بالدماء وحافل بالنضال والتصدي للمشروع الصهيوني..

في ظني أن أخطر ما في المقابلة، طريقة التفكير الساذجة والرغائبية، وهي منهج تفكيري رائج، وقد ابتلي به العقل العربي، وكان من أهم مسببات تخلف الأمة العربية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق