أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 13، 2021

من الذي كتب التاريخ؟

 

يقول المؤرخ خزعل الماجدي أن عملية كتابة وتدوين التاريخ كانت في الماضي عبارة عن أدب وفلكلور وأساطير، ولم تصبح عِلماً إلا بعد التوصل لأدوات البحث العلمي، ونشوء علم الأركيولوجيا؛ وهو منهج حفري تفكيكي، يقوم بالبحث المعمق في متون السرديات والوثائق واللقى الأثرية، وقراءتها مجددا قراءة نقدية تخضع للعلم والمنطق. وهذا العلم استقل عن الفلسفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (شأنه شأن علم الاجتماع، وعلم الأديان، والأنثروبولوجية، وغيرها من العلوم الإنسانية)، ثم تطور بشكل لافت بعد النصف الثاني من القرن العشرين.

بناء على ما سبق، كل سردية لا تعتمد على المنهج العلمي التاريخي لا يعتد بها، فتصديق أي قصة أو حدث أو رواية يجب أن يستند إلى الآثار الأركيولوجية والأدلة المادية، كالحفريات، والبنايات، والمعابد، والأضرحة، والمنحوتات، والمسلات، والتماثيل، أو العملات، أو المخطوطات، أو شهادات المؤرخين المعاصرين، وما يتوصل إليه العلماء من ربط منطقي بين الأدلة وما تحلله الأجهزة الحديثة، وما يتقاطع مع، وتتفق عليه مختلف حقول العلم.. تماما كما يفعل التحري بعد جمعه للأدلة من موقع الجريمة، حيث يقوم بتحليلها، والربط فيما بينها..

سابقا كانت عملية التأريخ تتم بدافع الفضول، أو لتمجيد البطولات، وتعظيم سيَر القادة والفاتحين.. دون منهج واضح، فمثلاً كَتب اليوناني "هوميروس" ملحمتي الإلياذة والأوديسا، ووصف فيهما الأماكن والأحداث التي سبقت عصره، فأخذنا إلى خارج الزمن في جو أساطيري ممتع، أما هيرودوت "أبو التاريخ"، فقد وصفه بعض معاصريه بأنه أبو الأكاذيب، فمثلا حين كتب تاريخ مصر القديمة جمع القصص والحكايات الغريبة من عوام المصريين ومن بعض الكهنة.. وكذلك المؤرخ اليهودي "يوسيفوس"، الذي تحالف مع الرومان ضد قومه، وابتدع قصة قلعة مساداة، والتي تبين أنها مجرد خرافة..

في تلك الأزمنة، كانت الأسطورة ضرورية، "الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد". هكذا قال الشاعر الفرنسي "باتريس دوبان".. والأسطورة حتى اليوم ما زالت موجودة، وفاعلة، ولا أطالب بإسقاطها كليا، المطلوب فقط نزع القداسة عنها، ووضعها في سياقها الفلكلوري.

عمليا، معظم ما نعرفه عن التاريخ عبارة عن مرويات شفهية كانت تحتمي بالنصوص المقدسة والأيديولوجيات.. أو تأويلات لنقوش ومخطوطات، كانت تخضع لانحياز أيديولوجي.. طبعا هذا لا ينفي صحة كل ما ورد في التاريخ، فأحيانا غياب الدليل لا يعني غياب الحدث نفسه.. بل هي دعوة لتفنيد ما لا يقبله العقل، وطرح ما يتعارض مع المكتشفات الأثرية.

لو أخذنا ملحمة كلكامش كمثال، وهي وثيقة تاريخية دون شك، هل نصدق كل ما ورد فيها؟ عن أنكيدو وخمبابا وغابة الأرز.. أم نفهمها كقصة رمزية تعطينا فكرة عن الصراع والتحولات الاجتماعية في حياة المدن التي بدأ السومريون بالتعود عليها بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة؟ وعن رحلة البحث عن السعادة والخلود، وعن شقاء الإنسان في تلك المرحلة؟

نقوش كلكامش عبارة عن ملحمة أدبية عميقة صيغت بلغة شعرية، لذا جاءت رمزية.. ولكن مسلة ميشع التي كتبها ملك مؤاب الأردني ووصف فيها انتصاره على مملكة يهوذا القديمة.. نص بسيط ومباشر، ويصلح وثيقة تاريخية.. مثل نقش النمارة، وهو أيضا نص بسيط ومباشر نُقش على قبر امرؤ القيس، يُستدل منه على نوع الخط (النبطي)، واللغة الدراجة في ذلك الزمن (328م)، وعن عروبة المنطقة (..امرؤ القيس ملك العرب..)..

وأيضاً مخطوطات البحر الميت، وهي من أهم الوثائق التاريخية، هل نصدق كل ما تضمنته؟ خاصة أسفار التوراة، التي تزخر بالأساطير؟ أم نستفيد منها لمقارنتها مع نسخ التوراة الحالية، ونفهم طبيعة المرحلة وشخوصها وأحداثها في الفترة التي كُتبت فيها؟

المسلات الفرعونية، والسجلات الرومانية تتضمن سردا دقيقا لمجريات الأحداث في زمنها، خاصة ما يتعلق بالانتصارات والمعارك وأخبار الملوك والقياصرة.. وقد يكون كل ذلك صحيحا، ولكن ماذا بشأن التاريخ الاجتماعي، وأحوال الناس الفقراء؟

لو تناولنا تاريخنا العربي الإسلامي، سنجد معظم السير والمرويات نُقلت شفهيا، ومعظم كتب التراث الإسلامي اعتمدت على الروايات المتناقلة، نظرا لشح الآثار الأركيولوجية خاصة في جزيرة العرب، سواء قبل الإسلام، أم في بداياته المبكرة، لذا نجد روايات متباينة، وشديدة التناقض..

حتى لو افترضنا دقة وأمانة ما تضمنته الوثائق والمخطوطات (أي أنّ وصفها وسردها كان صحيحا)، ولنفترض أن تفسيرات المؤرخين للأدلة التي توصلوا إليها علمية وصائبة (وأقصد ما يتعلق بمجمل التاريخ الإنساني).. هل يكفي هذا؟ المشكلة أن الناس العاديين هم الذين كانوا يتناقلون سرديات التاريخ جيلا بعد جيل، حيث يأتي الحكاؤون والرواة والشعراء ويسردون على مسامع الحاضرين ما فهموه من المؤرخين، وما قرؤوه في المخطوطات، فيتلقفها الحضور، ثم يتداولونها فيما بينهم، ثم  ينقلونها إلى الآخرين، ثم إلى أبنائهم، فأحفادهم.. وهكذا.. وكل ذلك عن طريق الحكي والسمع.. وهكذا وصلنا تاريخ مبني على الثقافة السمعية. والمشكلة الثانية أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء أميون.. والأمية، منذ فجر التاريخ وحتى عهد قريب جدا هي السمة الطاغية في حياة الشعوب..

المشكلة الثالثة أن الأهواء الشخصية والنزعات الآدمية ستدخل على سلسلة الرواة. سُئل المؤرخ الإنجليزي "أرنولد توبيني" عن رأيه في مصداقية الأحداث التاريخية، فقال: حدثت مشاجرة أمام بيتي، وفي المساء سمعتها من الجيران بست روايات مختلفة!

والمشكلة الرابعة أن التاريخ كان يكتبه المنتصرون، والناس تحب قصص المنتصرين، وقصص الأبطال حتى لو كانوا مهزومين، وتحب تعظيمها..

ومعروف أن أي قصة تبدأ صغيرة، ومع تناقلها تتحول إلى رواية وأسطورة، وكل شخص يترك بصمته ونكهة توابله عليها.. فتتداخل الأحداث الحقيقية مع الخيالية.. والإنسان طور الأساطير لكي يشعر بالتوازن، فهو يحتاج شيئًا خارقا يشعره بالأمان.

معظم الأساطير القديمة ماتت، وصارت مجرد أدب، لأن حاضنتها الدينية انقرضت. هل يصدق أحد اليوم الأساطير السومرية أو الإغريقية؟ بالتأكيد لا.. بينما الأساطير التي تحميها الكتب المقدسة ما زالت مُصدقة.. وأهلها يدافعون عنها بضراوة ويرفضون اعتبارها أساطير.

لإعادة الاعتبار للتاريخ، يتوجب الاعتماد على الأركيولوجيا، وعلم الأساطير "المثيولوجيا"، وعلم الأديان، لكن الناس الأميين وأشباه المتعلمين، والنخب المسيطرة وسدنة الفقه تخاف من العلم، لأن العلم سيكشف لنا الكثير.. ولأن سلطة العلم ستضع حداً لسلطتهم علينا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق