أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 24، 2021

الغوغاء الذين قاتلتُ من أجلهم. وخذلوني


ينتهي فيلم "قلب شجاع" بمشهد حفلة تعذيب لبطل التحرير الأسكتلندي "وليام والاس"، يشرف عليها الأمير إدوارد ابن الملك الإنجليزي المعروف بمطرقة الأسكتلنديين، لكثرة ما قتل منهم، واغتصب من نسائهم.. أثناء التعذيب تقف جموع من الدهماء الاسكتلنديين فرحين بمصير "بطلهم القومي" الذي سيُعدم أمامهم..

هل كانت تلك المرة الوحيدة التي تتصرف فيها الغوغاء بهذا الغباء، وضد مصلحتها؟ كان الإمام علي قد وصف من خذلوه بأنهم "رعاع وغوغاء، يتبعون كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤا إلى ركن وثيق، يسيرون فى كل المواكب، ويأكلون على كل الموائد". وإليكم مشاهد ومقتطفات من تاريخ الغوغاء:

جرت محاكمة بيلاطس للسيد المسيح، وتعذيبه وصلبه أمام جمهور من الغوغاء، الذين فضلوا صلبه بدلا من صلب أحد اللصوص المحكمومين بالإعدام!

وفي عصور الظلام، كانت الكنيسة تشن حملات إعدام ممنهجة بحق النساء، تحت حجج واهية، وعند تنفيذ الحكم يقوم الجلادون بربط النساء، وعرضهن على الجمهور في ساحة عامة، وقراءة لائحة الاتهام (تداوي بالأعشاب، ممارسة السحر، الاعتراض على سياسة الكنيسة، التمرد على حكم الرجل)، ثم تعليقهن على أحبال المشانق، أو حز رقابهن تحت المقصلة، وسط تصفيق الجمهور وهتافاته المؤيدة..

في نهاية القرن الرابع الميلادي نفذت محكمة أثينا أمام 500 مواطن حكم الإعدام بحق"سقراط"، أشهر الفلاسفة على مر الزمان، بتهمة إفساد عقول الشباب، ولأنه قال "العيش بالفضائل أهم من عبادة الآلهة"، الحضور "المتعلم" وجمهور أثينا تحولوا فجأة إلى دهماء فرحين بمقتل أستاذهم الذي علمهم الحكمة، بعد أن حرضهم الحاكم، الذي كان يشعر بالنقص أمام سقراط، والشاعر "ميليتو" الذي كان يغار من شعبيته..

وبعدها بسنوات قليلة، خرجت جموع الدهماء لقتل وسحل الفيلسوفة والعالمة السكندرية "هيباتايا"، بتحريض من راعي الكنيسة "كيرلس الأول"، والتي بمقتلها سكت العلم، وساد الظلام في سائر أنحاء الأرض أربعة قرون كاملة..

في القرن العاشر الميلادي طلب "حامد بن العباس"، وزير "المقتدر بالله" قتل الحلاج، العالم الزاهد المتصوف، ولكنه قبل قيامه بفعلته الشنيعة كان قد حرض بعض الفقهاء، الذين حرضوا العامة، حتى خرجت جحافل الغوغاء تطوف شوارع بغداد مطالبة بقتل "الكافر" الحلاج والقصاص منه.

بعد الحلاج، وقبله، تكرر المشهد نفسه، وبالملابسات ذاتها: حاكم مستبد، أو شخص موتور ومتطرف مقرب من الحاكم، أو مدعي للعلم والفقه؛ يقوم بالتحريض على عالم أو فيلسوف أو مفكر، لأنه خرج عن المألوف، أو عارض السلطة، أو أتى بجديد.. يحرض عليه العامة والدهماء، تمهيدا لقتله.. تكرر هذا المشهد في قتل ابن المقفع، وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، ومعبد الحهني، والجهم بن صفوان، وغيرهم.. فضلا عن عمليات القتل المعنوي، والتشويه، والتكفير، والنفي، وإحراق الكتب، والتي حدثت مع الكندي، وابن رشد، والرازي، والفارابي، وابن حيان، وابن سينا، وابن الهيثم، والراوندي، والمعري.. هؤلاء اتهموا بالزندقة والإلحاد ومحاربة الدين..

كان عقد الخمسينيات من القرن الماضي العصر الذهبي للشعارات البراقة، التي يحتاجها كل انقلاب؛ وحين اجتاح المسلحون باحات قصر الحارثية في بغداد، جلبوا معهم جموع الغوغاء، الذين أبادوا الأسرة المالكة وسحلوا جثثهم، ليدشنوا حقبة جديدة من الصراعات الدموية.. وسيتكرر المشهد بسيناريوهات انقلابية مختلفة في العديد من العواصم، لكن المشترك بينها كان دوما تصفيق الدهماء، وتأييدهم، حتى لو ندموا في كل مرة..

عندما سُئل الراعي البوليفي الذي دل الجنود الأمريكان على مكان المناضل الأممي "جيفارا": لماذا وشيت بالقائد الذي قضى حياته في الدفاع عنكم؟ أجاب: لقد كانت حروبه تزعج أغنامي في رعيها..

وعندما سأل القاضي قاتل "فرج فودة": لماذا قتلته؟ أجاب: لأنه يحارب الدين في كتبه، فسأله القاضي: وهل قرأت شيئا من كتبه؟ اعترف بأنه أُمي، ولم يقرأ سطرا واحدا في حياته..

في أثناء أزمة الخليج (1990)، شاهدت فيديو لاحتفال جماهيري حاشد في الجزائر، نظمته حينها جبهة الإنقاذ، التي كانت بحاجة ماسة لجموع الغوغاء في حربها مع النظام، المهم أن أحد المتحدثين كان داعية إسلامي كويتي، والثاني داعية إسلامي فلسطيني، الأول كان ضد الغزو، ويتمنى تدمير الجيش العراقي، والثاني على النقيض تماما.. وهذا متوقع، لكن الغريب أن الجمهور الذي ملأ المدرجات كان يصيح بانفعال، ويهتف بحماسة تأييدا لكلا الخطيبين، اللذان كانا ضد بعضهما، لكنها مفوهان، ويكثران من ترديد صيحات التكبير..

كل سلطة (مستبدة، أم عادلة) يهمها كسب تأييد الجمهور وولائه، وكل حزب، وكل قائد ميليشيا، وكل طامح للزعامة، أو باحث عن الشهرة، يريد الجمهور لصالحه، حتى رؤساء العصابات يفعلون ذلك.. وما يحرك هذا الجمهور: إما إعلامي مشهور، أو خطيب مفوه، أو كاتب بارع، أو زعيم يتمتع بالكاريزما.. شريطة أن يكون كلامه شعبويا، يخاطب العواطف، ويدغدغ المشاعر، ويعرف متى يضرب على الوتر الحساس، وكيف يستشعر نقاط الضعف الإنسانية.. وهؤلاء عادة ينجحون لأنهم يقتاتون على التضليل، ويراهنون في نجاحهم على ضحالة جمهورهم، الذين لا يهمهم أبدا مضمون ما يسمعون: صحيحٌ أم خطأ، حقيقي أم مزور، واقعي أم تهويل، صادق أم كاذب.. بل يستحسن أن يكون كذبا وتزويرا ومبالغة، ولكن بأسلوب شيق، فالناس عادة تفضل الكذبة المريحة على الحقيقة الموجعة، تفضل أن تظل مخدوعة بالشعارات البراقة، على أن تسمع العقل والمنطق، وهؤلاء هم تحديدا الغوغاء..

كانت ملايين الغوغاء مأخوذة بسحر خطابات هتلر، وموسوليني، وتصفق لهما بحرارة.. كما سحرها كل الطغاة على مر التاريخ، من كورش الفارسي، حتى كيم جونع أون، إذا لم يكن تصفيقا نابعا عن قناعة، سيكون بالانتخاب.. نعم، جماهير الغوغاء انتخبت هتلر، وشارون، وترومان، وبوش، وترامب.. وانتخبت مئات الأغبياء والفاسدين من رؤساء ونواب.. وصدّقت كذابين، ومشت خلف لصوص، ممن أثروا من الإتجار بالدين والشعارات والوطنية..

وحتى وقتنا الراهن لم يتغير الوضع، فقد هاجت الغوغاء مئات المرات ضد مفكرين، وأدباء، وفلاسفة، وفنانين.. ممن حاولوا تنويرهم، أو تخليصهم من الخرافة والجهل.. يفعلون ذلك منقادين، لأن عقولهم مبرمجة ومغسولة.. ولأنهم مشبعين بثقافة القطيع..

الجهل العدو الأول للشعوب، وهو أسهل طريقة لحكمهم، والتحكم بهم..

سنميز في مقالة قادمة الفرق بين الجماهير والغوغاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق