تمر هذه الأيام ذكرى هزيمة حزيران، والتي
أطلق عليها "هيكل" تسمية "نكسة"، في محاولة منه لتخفيف وطأتها
على الجماهير العربية، وسواء كانت هزيمة منكرة أو مجرد نكسة، فإن ذكراها
وتداعياتها ما زالت ماثلة، بل إنها شكلت منعطفا تاريخيا، تغير من بعدها مشهد
الخارطة السياسية للمنطقة بصورة جذرية، وربما لأمد طويل جدا..
ما يعنينا، هنا، تداعيات النكسة على
المرأة العربية بصورة خاصة..
كانت مصر آنذاك القلب النابض للأمة
العربية، وكان دورها مركزيا ليس في المجال السياسي وحسب، بل وفي المجالات
الاجتماعية والفنية والأدبية والفكرية، لذا فإن ما حصل لمصر في ذلك الوقت انعكس
بكل قوة على كافة مناحي الحياة في الوطن العربي، ومن ضمن ذلك وضع المرأة العربية..
في مصر، وربما كانت البداية منها، في وقت
مبكر من القرن العشرين، بدأت المرأة تدريجيا تأخذ مكانتها الطبيعية، وتسترد جزءا
من حقوقها المسلوبة، وبدأت نظرة المجتمع تجاهها تتحسن شيئا فشيئا، خاصة في الحواضر المدنية، وكان لرواد تلك المرحلة أثرا إيجابيا كبيرا
في إحداث هذا التغير، من أمثال قاسم أمين، وهدى شعراوي، ودرية شفيق، وأمينة
السعيد، وصفية زغلول، وبنت البادية، ومي زيادة، وغيرهم، رغم ما يقال عن أفكارهم
بأنها كانت مخصصة لخدمة مصالح السيدات من الطبقتين الوسطى والعليا، تزامن ذلك مع
حضور لافت لعدد من المفكرين التنويريين أمثال الكواكبي، والأفغاني، ورفاعة
الطهطاوي، ومحمد عبده، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وغيرهم الذين عبّدوا الطريق
للتغيير الاجتماعي، هؤلاء جميعا كانت قضيتهم واحدة (المرأة) مع أيديولوجيات
متعددة، ومن التسطيح اختزال أفكارهم بالدعوة للسفور ونزع الحجاب؛ فما كانوا ينادون
به إخراج المرأة من شرنقة الجهل، والأمية، والتحرر من الخضوع الكامل للهيمنة
الذكورية المطلقة، ومن نظرة المجتمع تجاهها والتي كانت تراها مجرد عورة صوتا وصورة
وحضورا، مع إصرار على حبسها داخل منزلها.. لنقلها إلى عالم الوجود، وإلى قلب
المجتمع، وإلى العمل، والتعليم، والمشاركة المجتمعية والسياسية..
وكمؤشر على نسبة الأمية المتفشية في صفوف
النساء آنذاك، بسبب حرمانهن من حقهن في التعليم، في النجف مثلا، أبدى رجال الدين مقاومة
شديدة لفتح مدرسة للإناث، واستمر ذلك حتى سنة 1933، حيث اضطر قائم مقام المدينة قبل
السماح له بافتتاح مدرسة للإناث إلى القَسم بأغلظ الأيمان بأنها مخصصة فقط لبنات
الموظفين، وفي السعودية افتتحت أول مدرسة للإناث في جدّة سنة 1955.
ومع ظهور الموجة النسوية الأولى على مستوى
العالم في بدايات القرن العشرين، بدأت تنتقل تأثيراتها إلى بلدان عربية عديدة، فبعد
مصر، أو بالتزامن معها برزت في سورية أصوات نسوية أخذت تطالب بحقوق المرأة، ومنهن:
لبيبة هاشم، وماريانا مراش، وماري العجمي، وعادلة بيهم الجزائري، ونظيرة زين
الدين، وثريا الحافظ.
وفي العراق أيضا، ظهرت نعيمة السعيد، وأسماء
الزهاوي، وماري عبد المسيح، وفخرية العسكري، ورفيعة الخطيب، وأمينة الرحال، وجميلة
الجبوري، وآسيا وهبي، وصبيحة الشيخ داود، التي كانت أول امرأة عراقية تخوض غمار
التعليم العالي، ونزهت رزوق غنام، أول طالبة في كلية الطب ببغداد.
في فلسطين، ظهرت العديد من الناشطات
النسويات، مثل: أديل عازر، وأسمى طوبي، وحلوة جقمان، وزليخة الشهابي، وسميرة أبو
غزالة، وسميرة عزام، وسميحة خليل، وطرب الأحمد، وفدوى طوقان، وفاطمة البديري، ومهيبة
خورشيد، وهند الحسيني، وعصام عبد الهادي، وغيرهن.. وكان أول مؤتمر نسوي عقد في
القدس عام 1929 حضرته 300 سيدة، وعلى إثره تم
تشكيل لجان عدة للسيدات في مختلف المدن الفلسطينية، وعقد مؤتمر آخر إبان ثورة
1936، نجم عنه اندماج الحركة النسائية في الحركة الوطنية الثورية المسلحة، ومؤتمر
آخر عام 1946 حضرته حوالي 3000 سيدة من مختلف البلدان العربية، وفيه رفعت مذكرة
احتجاج للمندوب السامي للتنديد بالسياسة البريطانية المعادية للشعب الفلسطيني.
كان النشاط النسوي في بداياته مقتصرا على العمل
الاجتماعي والخيري، وتأسيس الجمعيات النسائية ذات الأهداف الإنسانية، لكن هذه
الجمعيات ساهمت في تكوين الوعي العام بين النساء، ثم بدأت النسويات يطالبن ببعض
حقوقهن، مثل التعليم، والعمل، والانتخاب، وبدأ تأسيس الاتحادات النسائية، الأمر
الذي انتهى بدخول المرأة العربية كافة المجالات، بما في ذلك الأنشطة السياسية
والاقتصادية، بل إنها اقتحمت عوالم الأدب والفن والسينما والمسرح والعلوم والفكر..
وحصلت على الكثير من حقوقها..
لكن هذه التطورات والتغييرات الإيجابية لم
تبقَ على ذات الخط الصاعد، بل بدأت بالتراجع والنكوص.. وقد مثلت نكسة حزيران 1967
بداية انتكاسة المرأة العربية، مع أن هذه الانتكاسة لم تتضح معالمها على الفور، إذ
احتاجت أكثر من عقد من الزمان، حتى بدأت تجلياتها تظهر بوضوح.
لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، إذ شكلت صدمة
لحالة الوعي القومي، وللخطاب السائد، بشعاراته ورموزه وتوجهاته، وكانت بداية نكوص
وتراجع التيارات القومية واليسارية والتقدمية.. وآنذاك ظهر اعتقاد (أيديولوجي) بأن
الهزيمة كان سببها نظام عبد الناصر الاشتراكي العلماني الشيوعي، وأخذت أحزاب
الإسلام السياسي، والقوى الدينية التقليدية تروج لهذا الاعتقاد.. ولم تستطع سنوات
عبد الناصر الثلاث التي تلت الهزيمة أن تصحح أخطاءها، ولا أن تعالج تداعياتها،
فبرحيله المفاجئ، ومجيء السادات، بدأت سياسة جديدة، اعتمدت على إخراج
"الإخوان" من السجون، وإطلاقهم، والسماح لهم بالعمل والنشاط الحزبي،
فكانت سنوات السبعينات المرجل الذي أنضج ظهور حركات الإسلام السياسي المتطرفة،
التي تبنت الفكر الوهابي المتزمت، الذي يتخذ موقفا سلبيا ومتعصبا من قضايا المرأة،
بل ومن قضايا الفن والأدب والجمال بشكل عام..
وهكذا، منذ ذلك الحين، بدأ نشاط الأحزاب
المتزمتة بالخروج إلى العلن، وبكامل طاقته المكبوتة، حتى أسس تيارا شعبويا جارفا،
استطاع أن يفرض أجنداته الحزبية، وأفكاره المتعصبة على مجمل مناحي الحياة الثقافية
والاجتماعية، وبالطبع كانت المرأة الضحية الأولى لهذه التغيرات.. واليوم، يمكن رصد
تجليات تلك التحولات بكل سهولة، يكفي أن تلقي نظرة عل ألبومات وصور ومظاهر الحياة
من فترة ما قبل السبعينات، وتقارنها بصور وألبومات ومظاهر الحياة الأخرى في الوقت
الراهن..
وبالمناسبة، شكلت نكسة حزيران نقطة انعطاف
مفصلية في المجتمع الإسرائيلي نفسه، بدأت بعدها تتغير الخارطة السياسية والحزبية،
وتتغير معها هوية الدولة وأنماط الحياة الاجتماعية.. وبنفس المنطلقات الدينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق