(2~1)
لا أعرف من ابتدع هذا المصطلح لوصف فيروس الكورونا.. لكني رغبت باتخاذه عنوانا، لتسجيل فكرتين:
الأولى: استغلال الأزمات والمحن الإنسانية لأغراض أيديولوجية؛ فمع بدء تفشي كورونا في الصين، قال البعض حينها إن ذلك عقاب من الله للصينيين على ما اقترفوه بحق الإيغور.. ولما انتشر الوباء خارج الصين، ووصل بلاد المسلمين، قالوا إن هذا عقاب من الله لنا على آثامنا وخطايانا..
ربط ُالكوارث الطبيعية والأوبئة برضا وغضب الآلهة، فكرة موغلة في القدم، وكانت الشعوب البدائية تقدم القرابين لقوى الطبيعة حتى تأمن بطشها، أو لتحوز على رضاها، فتُنعم عليها بالخيرات..
وهذه الذهنية تطورت فيما بعد، لتصبح أداة إرهاب
في يد السلطة، فمثلا في أوروبا القروسطية؛ كانت الكنيسة ترى في المجاعات وأوبئة
الطاعون والكوليرا وغيرها فرصة ذهبية لتخويف الناس منها باسم الرب، فتجعلهم يتجمهرون
تحت وصايتها، يتوسلون إليها للتوسط عند الرب ليخفف بلاءه عنهم، فيصبحون بذلك أكثر
خضوعا وعبودية لها.. وهذه الوصاية والإخضاع بالطبع لا تعنيان فقط سلطة رمزية، بل سلطة
زمنية أيضا، والكثير من المكاسب المادية.
في زمن الكورونا، يبدو أن تلك العقلية ما زالت حاضرة، وتفعل أفاعيلها في الناس البسطاء.. فترى بعض "رجال الدين" يصرون على ربط الكورونا بغضب الله وعقابه للبشر.. فيصفون فيروسات الكورونا بأنها جند من جنود الله يسلطها أينما شاء.. وفي ذلك الوصف مغالطة خطيرة..
لا شك أن الفيروسات مخلوقات، مثل مليارات الكائنات الأخرى، خلقها الله سبحانه كما خلق الكون كله.. ولكن إذا قلنا إنها جند لله يرسلها لعقاب قوم ما، فهذا يعني أنه لا يجوز لنا مقاومة هؤلاء الجند، لأن في ذلك تحدٍ لإرادة الله، وبالتالي علينا الاستسلام لهم، والرضا بما كتبه الله، والانتظار حتى تختفي "الجنود" من تلقاء نفسها.. وغني عن القول أنّ هذا الطرح يتناقض مع بديهيات الإسلام، فالله أمرنا بالأخذ بالأسباب، والنبي أمرنا بالتداوي..
ومن ناحية ثانية، فإن تلك المقولة توقعنا في ورطة، فكيف نفسر تغلب الصين على هذا الفيروس؟ هل يجوز القول بأن الصين هزمت هذا الجندي (تعالى الله عما يصفون)..
مناسبة هذا الحديث، مشاهدتي لبعض تسجيلات على اليوتيوب: الأول لحاخام يهودي يقول: إن خلو الكُنُس من المصلين، لهو أشد خطرا من الكورونا! والثاني لقسيس يقول في عظته أمام حشد من المصلين: إياكم أن تهجروا الكنيسة، أو تستمعوا لتعليمات وزارة الصحة، فذلك ما يريده الشيطان! والثالث: لداعية إسلامي يستنكر إغلاق المساجد، ويدعو المسلمين لريادتها، وعدم الامتثال لتعليمات الحكومة! والرابع من إيران، حيث تجمّع المئات أمام ضريح ديني، يريدون خلع بوابته، واقتحامه ليلعقوه بألسنتهم، ويتبركون منه! والخامس: رجل في أحد المساجد يدعو الناس لمغادرته، خشية من تفشي العدوى.. فيما يصرخ العشرات في وجهه غاضبين، وبعضهم يقول: إذا خايف على حالك صلي في البيت، أما هذا فبيت لله، ولن نسمح بإغلاقه! والسادس لجمهرة من المصلين (في عمان، وفي نابلس) يؤدون صلاة الجماعة في شارع عام، خلافا للتعليمات الصحية!
أمام هذه المشاهد، وغيرها، تبرز ملاحظات عديدة: البعض يعتبر أن تأدية الطقوس الدينية أهم من الإنسان نفسه، والأضرحة والمعابد أهم من حياته.. ونلحظ أيضا شيوع عقلية التواكل، أي العقلية العاجزة، المستكينة، السلبية على الدوام، والتي مثلتها تاريخيا "العقيدة الجبرية"، وهو تيار فكري ظهر في العصر العباسي، ينزع عن الإنسان قدرته على إحداث أي تغيير، ويدعو للتسليم بقضاء الله دون اعتراض.. وخطورة هذا التيار لا تكمن فقط في فهمه المغلوط والناقص لظواهر الطبيعة (بما فيها الأوبئة)، بل لارتباطه في السياسة، حيث وظفت السلطة أنصار الجبرية في دعوة الناس لعدم الاعتراض على سياسات السلطة، باعتبار أن الخليفة يمثل الله، وأنّ ما يحصل في البلاد من بلاوي ومصائب إنما هي إرادة الله التي لا راد لها!
فهل فهمنا المغلوط للآية الكريمة (لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) عبارة عن امتداد للعقيدة الجبرية؟ وهل إصرار بعض الدعاة على عدم غلق المساجد، وإبقائها عامرة بالمصلين.. محبة في الله ودينه؟ أم خوفا من خلوها من المريدين والأتباع؟ (أي جمهوره وجمهور حزبه)، وهل الخوف من إغلاق الأضرحة سببه الخوف من خسارة كنز مالي كبير؟ وهل إقامة صلاة الجماعة في الشارع العام سلوك بريء، أم هو تحد للحكومات، واستعراض للقوة؟
عندما قررت الحكومات في معظم الدول الإسلامية إغلاق المساجد، بالتنسيق مع وزارات الأوقاف، فعلت ذلك حرصا على صحة الناس، وخشية من تفشي الوباء، وتماشيا مع روح وجوهر الدين، وانسجاما مع سنة النبي الكريم.. فلماذا يزاود البعض؟ ويستهتر بصحة الآخرين؟ ويقامر بحياتهم؟
أما الفكرة الثانية، فهي أنسنة الوباء، أو عولمته..
مع بدء انتشار الوباء تبرعت اليابان بمعدات طبية للصين، وقد كتبوا على الصناديق عبارة: "لدينا جبال وأنهار مختلفة، لكننا نتشارك ذات الشمس والقمر والسماء".. وفي المقابل، أرسل الصينيون كمامات لإيطاليا، وكتبوا على الصناديق مقطع من قصيدة قديمة "نحن أمواج من ذات البحر"..
عادةً، في الكوارث الطبيعية تتداعى دول وشعوب العالم لنجدة المنطقة المنكوبة.. لكن هذه المرة الكرة الأرضية بأكملها منكوبة.. حيث وصل الوباء لأكثر من 160 دولة.. ومع ذلك، معظم الدول تتعاون فيما بينها، لمكافحته، فحتى إغلاق الحدود على أي دولة، يخدمها بمقدار ما يخدم الدول المجاورة لها.. ويبدو أن كوفيد التاسع عشر وحّدَ الشعوب ضد همّ إنساني مشترك، وأيقظ فيهم إنسانيتهم، وجعلهم يتعالون على الخلافات.. إلا أمريكا..
فما زالت أمريكا تفرض عقوبات على إيران، بل وعلى كل دولة تساعدها في مسعاها لمجابهة الوباء! علما بأن إيران من أكثر الدول تضررا من الوباء، واستمرارية تفشيه يزيد من فرص انتقاله إلى بقية العالم..
وفي سياق متصل، حاول "ترامب" الضغط على شركة ألمانية على وشك اختراع مصل مضاد للكورونا، لشراء براءة الاختراع، والإتجار به، بحجة أنه سيخصصه للشعب الأمريكي.. وكأنَّ الأمريكان أهم من بقية الشعوب! وأرباحه أهم من صحة البشر!
كوفيد التاسع عشر وحّد شعوب الأرض، لكنه كشف معادنها أيضا..
(2-2)
مشاهدة صور تداعيات الكورونا تفطر القلب،
وتبعث فيه الأسى والأحزان.. أهم العواصم صارت مدن أشباح، الشوارع خالية من المارة،
المسارح بلا جمهور، المقاهي بلا زبائن، المساجد ودور العبادة بلا مصلين، حتى
الكعبة الشريفة.. كل دولة أغلقت حدودها، وأقفلت مطاراتها، وانزوت إلى نفسها.. التغيرات
التي أصابت سلوك الناس تثير القلق: لم يعد أحد يصافح أحدا، صار كل شخص مشتبه به،
وإذا اضطررت لمقابلة صديق ترشه بالمطهرات كما لو أنه وباء، أو تعقم يديك خشية من
العدوى.. هذا ضروري وصحي، لكن النفس تخاف من التقلبات الكبيرة في أنماط الحياة..
نعم، نخشى انهيار عوالمنا الخاصة التي
بنيناها على مدار عقود طويلة، واعتدنا عليها.. رغم مرارتها وصعوبتها.. نخشى أن
نُصاب، أو نفقد أحبة لنا.. وهذا كله قلق إنساني مشروع..
ولكن، كما للحقيقة وجهان، لكل مصيبة
فوائدها..
مع إعلانات الطوارئ في أغلب دول العالم، وفرض
ما يشبه حظر التجول، وشل مرافق الحياة.. ستكون فرصة للأرض لتأخذ استراحة قصيرة.. وللنظام البيئي أن يعيد ترتيب نفسه من جديد.. لتستحم
الشوارع بالأمطار، ثم تتنشف بدفء الشمس.. لتهنأ العصافير بسماء بلا طائرات.. وللسلاحف
والسحالي والسناجب أن تتكاثر بهدوء في البراري النظيفة.. وللأسماك أن تسبح حرة في
بحار دون بارجات ولا غواصات.. وللأشجار كي تنقّي أجواءنا من ملوثات المصانع،
وعوادم السيارات..
لنترك حدود الدول المقفلة والخائفة دوما
تنعم بسلام، ولو مؤقت، دون تهديدات الحروب.. لتطرد الجوامع والكنائس روادها، لعلها
تطهر أرواحهم من حيرتها، وقلوبهم من النفاق، والتدين الشكلي.. ولتغلق كافة
الأضرحة، ليكفَّ الفقراء من دفع أثمان أحلامهم ومخاوفهم لسدنتها الجشعين.. لتُغلق
مرة أخيرة، وللأبد..
لتتوقف الاجتماعات وورش العمل التي بلا
فائدة، والمناسبات الاجتماعية التي صارت ميدانا للنفاق الاجتماعي، ونموذجا لثقافة
الاستهلاك الترفي والاستعراضي، ولتُمنع كافة المسيرات الحزبية، والمنصات الخطابية
التي لم تنتج سوى قطعان من التابعين، وخطباء شعبويين أشبعونا كذبا ووعودا..
لنُغلق المدارس والجامعات شهرا أو شهرين،
فنجرب أساليب جديدة في التعلم، تساوي بين الطالب والأستاذ، بمنهاج حر، يجرد المدرس
من سطوته الأبوية، ويعيد للطالب إحساسه بكينونته وثقته بقدراته..
لنلتزم بيوتنا قليلا، فنعيد اكتشاف علاقاتنا
الأسرية، وبنائها من جديد، ولندفئ أبناءنا بالحنان، دون تكنولوجيا..
لتغلق كل الحدود المصطنعة، ولتتقوقع كل
مدينة على نفسها، ليتذكروا معاناة الأسرى والمعتقلين، وليحسوا بآلام غزة المحاصرة
دون كورونا منذ سنوات..
فلتغلق كل البنوك والبورصات، لنعيد
للإنسان احترامه كإنسان، دون الأخذ بالاعتبار رصيده البنكي، ونشاطه في سوق المال..
ما أصاب كوكبنا من ضُر، وما عاشه العالم
من ذعر ورعب، فرصة لنا جميعا لنعيد التفكير بماهيتنا، ولندرك حجمنا الحقيقي في
نظام الكون، وقد عرفنا أن فيروسا بالغ الصغر، أصابنا في مقتل، وكشف ضعفنا، وهشاشة
حضارتنا.. فكل جيوش العالم وبارجاته وطائراته وصواريخه تقف عاجزة أمام هذا الفيروس
اللعين.. فنعي أن كل ما حققه الإنسان من منجزات، وما بناه، وما سيبنيه.. تؤكد أننا
ما زلنا ضعافا أمام جبروت الطبيعة وظواهرها، رغم أننا حيدنا بعضها، وسخّرنا بعضها
الآخر لصالحنا، لكن الطريق ما زال أمامنا طويل وشاق.. وهي فرصة أيضا لنجدد ثقتنا
بالعلم، ونسقط عنا الخرافات.. فالعلم وحده من سينقذنا.. والله سبحانه حثنا على
العلم.. وهي فرصة أيضا للدول التي أنفقت المليارات على سباق التسلح، وأهدرتها في
حروبها العبثية أن تسخّر تلك الأموال والموارد لبناء المعامل والمختبرات
والمشافي..
مع أمنياتي ودعواتي لكل المصابين بالشفاء،
ولكل الناس بالنجاة.. ولهذه المحنة أن تنتهي.. لكني لا أمانع أن تستمر الكورونا
حتى نهاية هذا العام، فعلى ضوء أداء الأشهر السابقة، وقد تبين أن كل مصيبة تتبعها
أخرى أشد منها.. أخشى أن تنتهي الكورونا، فتداهمنا كارثة أخطر.. على الأقل كارثة
تعرفها، أفضل من كارثة لا تعرفها، وقد تعودنا على الكورونا، وصار بمقدورنا التعايش
معها.. وتلك من سخريات القدر..
ولا بد لنا من القول أنّ ما نراه اليوم من
صور حزينة، وتداعيات اقتصادية خطيرة، وأحداث كارثية على مختلف الصعد هي بداية
المخاض لعالم جديد، عالم ما بعد الكورونا، وقد نحتاج لزمن طويل نسبيا لبلورة هذا العالم
المختلف، بكل تجلياته النوعية والكيفية؛ فالتجربة الإنسانية التاريخية علمتنا أن التراكمات
والمتواليات هي التي تصنع الواقع الجديد، وتكيّف صيرورته. وأحيانا يحصل التغيير
الجوهري بسبب حدث صغير، أو خطأ وقع بالصدفة، أو بسبب غباء مسؤول، أو نتيجة اجتهاد
عالم.. وقد أظهرت تداعيات أزمة الكورونا أن الدول التي لديها نظام إداري متطور
قادر على التعامل مع الأزمات والطوارئ، هي التي ستمتلك المستقبل (وربما تكون
الصين)، وحاليا أي دولة ستطور لقاحا ضد الفيروس، ستكون أكثر أهمية وتأثيرا في
النظام الدولي الجديد أكثر من كل القوى العظمى التقليدية..
بعد ذلك كله، وبالرغم منه، سنشتاق إلى
سالف عهدنا، سنشتاق إلى جلسات النميمة الصباحية، وسهرات المساء، سنشتاق إلى مصافحة
أصدقائنا، وعناق أحبتنا.. سيشتاق كل منا إلى ملامسه وجهه دون خوف، فهي الوسيلة
الأمثل للتواصل مع الذات، والتأكد أننا أحياء.. سنشتاق إلى طبيعتنا البسيطة
والفوضوية، وعدم اكتراثنا بالتفاصيل الصغيرة والصارمة.. سنشتاق أن نكح دون إحراج،
أو نعطس دون أن ندب الذعر فيمن حولنا، وكأننا ألقينا قنبلة.. سنشتاق إلى الغرف
الصفية، وساحة المدرسة، وإلى مقهى الانشراح، وإلى متحف درويش، وإلى الحسبة، ووسط
البلد، وشوارعنا المزدحمة..
انتبهوا لأنفسكم، ولأهاليكم، ولا تستهتروا
بالوباء.. قاوموه بالنظافة، وبالابتسامة والمرح؛ فالخوف والهلع يقضيان على
مناعتكم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق