في
ستينات وسبعينات القرن الماضي كان الأردن خاضعا للأحكام العرفية، وكانت المخابرات
تطارد النشطاء الحزبيين، ومن تضبط معه "بيان"، من ورقة واحدة، يُحكم
بالسجن عشر سنوات.. اليوم، ينظر الأردنيون (بما فيهم المسؤولين الحكوميين وقادة
الأجهزة الأمنية) إلى تلك الحقبة كذكريات بائسة.. ومع ذلك، يبدو أن بعض القادة
الأمنيين لم يتعلموا من أخطاء المرحلة السابقة، ففي بداية التسعينات مثلا، مع بدء
انتشار الأطباق اللاقطة والفضائيات، اشترطت المخابرات على كل من يريد تثبيت لاقط
على سطح منزله الحصول على تصريح أمني.. بعد مدة قصيرة، اقتنعت بعبثية هذا القرار..
فتراجعت عنه.
في
الثمانينات، كانت الحكومة العراقية تفرض رقابة صارمة على كل ما له علاقة بالإعلام؛
كانت تمنع المجلات والجرائد العربية والأجنبية من دخول العراق، وكانت أجهزة
التشويش تمنع التقاط أي موجة راديو أو محطة تلفزيون (عدى العراقية منها)، وكان
اقتناء جهاز "فاكس"، أو مطبعة يدوية أو ماكينة تصوير الوثائق.. يقتضي
الحصول على موافقة أمنية، مع رقابة دائمة عليها.. وكانت الأجهزة الأمنية تحصي
أنفاس المواطنين، وتحسب دقات قلوبهم، وتراقب سكناتهم وحركاتهم.. ومع كل تلك القبضة
الحديدية انهار النظام بسرعة لم يتخيلها أحد..
جميع
الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في مشارق الأرض ومغاربها كانت تفرض رقابة صارمة
على الإعلام، وتمنع أي انفتاح على الإعلام الخارجي، وتفرض سياساتها الأمنية ورؤاها
السياسية والأيديولوجية على المواطنين عبر إعلام موالي، وجمهرة من الصحافيين
والكتّاب التابعين، بخطاب رسمي بائس، وشعارات ثورية، وعبارات جاهزة ومعلبة؛ تمجد
القائد الأعلى، وتعدد إنجازات الدولة، وتصب لعناتها على أعداء الثورة والوطن،
وتشتم المعارضين ذوو الأجندات الخارجية المشبوهة.. ومع كل هذا، كانت الشعوب تهب
وتنتفض، وكانت الحكومات تسقط وتتغير..
اليوم،
مع ثورة التكنولوجيا المعلوماتية، وفي عصر الفضائيات، والإنترنت، وشبكات التواصل
الاجتماعي، والهواتف الذكية، وانفتاح العالم على بعضه بشكل غير مسبوق.. لم تعد أي
فرصة لفرض رقابة على وعي الناس، ولم يعد ممكنا توجيههم، ولم تعد الحكومات قادرة
على التحكم بخيارات المواطنين وفرض اتجاهاتهم الفكرية والسياسية.. فإذا كان لأي
حكومة جهاز إعلامي متكامل، فلدى الآخرين ما يفوق قدرات الحكومة بكثير، بعناصر جذب
أكثر تشويقا واستقطابا.. حتى دول العالم الثالث، اقتنعت حكوماتها بعدم جدوى أي
محاولة لحجب مواقع، أو منع تدفق المعلومات والأخبار والصور (تذكروا ما فعل الفنان
محمد علي بالسيسي).. وحدها كوريا الشمالية من بقيت خارج العصر، ويبدو أن محكمة صلح
رام الله تتخذها نموذجا ملهما..
المسألة
ليست مقتصرة على الإعلام، فكل محاولات إقصاء المعارضة وتكميم الأفواه، والقمع
السلطوي، وملئ السجون بالمتظاهرين والمحتجين، والاغتيالات (المادية والمعنوية)..
باءت بالفشل، بل في معظم الأحيان كانت تلك الإجراءات تنقلب على الحكومات، ونظرة
سريعة على ثورات الربيع العربي تكفي لفهم الصورة (لمن أراد أن يفهم).
الدول
الآمنة والمستقرة والمزدهرة تلك التي فيها معارضة قوية، وأحزاب ونقابات نشطة،
وحرية تعبير، وحرية تفكير، وصحافة قوية.. في تلك الدول يستحيل تخيل حدوث انقلاب
عسكري، وإذا حدث في حالات نادرة فهو لا ينجح.. والجماهير اليوم، ليست كجماهير
الأمس.. صارت متفتحة، وواعية، ومدركة لما يدور حولها، ودائما ما تفاجئ المراقبين
(لبنان والعراق مثالين طازجين).. في إسرائيل مثلا، الكتلة الثالثة في الكنيست تصبح
قوة المعارضة الرسمية، وهنا لا يتم قمعها، بل تحظى بامتيازات عديدة، وتشارك في صناعة
القرار.. وليس هذا سر قوة الدولة ومنعتها، إذ لديها صحافة حرة وجريئة، وتنتقد أي
مسؤول، ومن يتابع الصحافة العبرية يدرك إلى أي مدى يجرؤ أي صحافي أو كاتب على قول
ما يريد وانتقاد أي وزير..
في
رام الله، قررت محكمة الصلح إغلاق 59 موقعاً صحفيا الكترونياً، الأمر الذي أثار
موجة استنكار واسعة، من أبرزها بيان الحكومة نفسها، التي دعت للتراجع عن القرار.. نقابة
الصحفيين اعتبرت القرار بمثابة مجزرة بحق حرية الرأي والتعبير، ورأت أن هذا يوم أسود
في تاريخ الصحافة الفلسطينية.
مؤيدو
القرار قالوا بأنه لحماية السلم الأهلي، وأنَّ حرية الصحافة لا تعني فتح مواقع
إلكترونية لمن يرغب دون قيود أو موافقة من جهات الاختصاص، لأن ذلك قد يعني تلقي
تمويل خارجي، أو دعم توجهات سياسية وثقافية مشبوهة، خاصة في ظل امتدادات الأحزاب
وارتباطاتها الإقليمية.. وتلك حجج في ظاهرها محق، ولكن الأولى تحصين السلم الأهلي بالنظر
في أسباب هشاشته أولاً، ومن ثم معالجتها ما أمكن ذلك، وطرح خطاب إعلامي بشكل
ومحتوى عصري جاذب، يحترم عقول الناس، وتوجهاتها.. أما معالجة الأخبار الكاذبة
والشائعات وحملات التشويه فلا تكون بالحجب، بل بالشفافية، وحسن الأداء الإعلامي،
ومصارحة الشعب بكل شيء، وسن قانون الحق في الحصول على المعلومات.. وعلى الحكومة أن
تعي بأن تكميم الأفواه دوما يأتي بردود فعل عكسية.
أما
أن ينظر القضاء لنفسه بوصفه وصيا على الشعب، ويرى المواطنين مجموعات من القصّر
يحتاجون الرعاية والتوجيه، فتلك عقلية أبوية تنتمي لعصور غابرة.. وعملية الحجب نفسها
تدل على ضعف في الأداء، وعدم ثقة لا في الحكومة، ولا في الناس.. وتفضح حجم الجهل
بأدوات العصر وتقنياته.. وقد أثبتت التجارب عدم نجاح أي دولة في سياسة الحجب..
اليوم، كل مواطن تقريبا لديه حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، وأي خبر، أو مقال،
أو صورة يتم حجبها، يمكن تنزيلها على الحساب الخاص، ومن ثم تداولها على نطاق أوسع،
سيما وأنّ الممنوع مرغوب..
على
سبيل المثال، حجبت هيئة التحرير أكثر من مرة مقالات معينة لي، في كل مرة أعيد
نشرها على صفحتي على فيسبوك، فتحظى بتفاعل يفوق أضعاف التفاعل مع موقع الجريدة
نفسه..
حجب
هذا العدد الكبير من المواقع الإلكترونية يناقض كل تعهدات وتفاهمات الحكومات السابقة
مع نقابة الصحافيين، ويتناقض مع تعهدات رئيس الحكومة الحالي بصون الحريات الإعلامية..
وهذه فرصة للتذكير بقانون الجرائم الإلكترونية، الذي بات سيفا مسلطا على رقاب
الصحفيين وكتّاب الرأي، فضلا على كونه يسيء إلى سمعة فلسطين في حماية الصحافيين
وصون حرية التعبير..
لا
يعقل أن تكون أدوات الحكم وإنفاذ القانون تنتمي لستينات
وسبعينات القرن الماضي! تلك عقلية بائسة، وآن لها أن تنقرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق