أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 19، 2019

كيف أطاح الليكود بحزب العمل؟

 (1~2)
تناولنا في مقال سابق مدى فحش وسوء النيوليبرالية، وكيف تطورت عن الرأسمالية المتوحشة، وعلاقتها الوثيقة بالتغيرات السياسية/ الاجتماعية التي أفضت إلى بروز الشرائح الطفيلية البرجوازية، التي جُـلَّ همّها تكديس الثروات.. وكيف سخّرت تلك الشرائح الجديدة أنظمة الدولة وقوانينها لخدمة مصالحها الخاصة، حتى أنها أسست أيديولوجيا نيوليبرالية خاصة، وهذه الأيديولوجية اقترنت بأوثق الصلات مع اليمين الديني والقومي، وقوى التعصب والتطرف، ونتج عنها الإعلام الشعبوي، وصعود الشخصيات المتطرفة، التي تمتلك مزايا الخطابة الديماغوجية..

ولأن السياسة والاقتصاد وجهين لعملة واحدة، ونظرا لطبيعة العلاقة العضوية بين الرأسمالية الكولونيالية والمشروع الصهيوني، والتحالف الوثيق بين الدول الإمبريالية وبين إسرائيل.. من الطبيعي والحتمي أن تنعكس التطورات السياسية والاقتصادية التي حصلت في دول المركز الإمبريالي الرأسمالي (أمريكا، بريطانيا)، على الدولة الحليف لها (إسرائيل).. فما أن بدأت تلك الدول تتبنى النيوليبرالية بدءا من أوساط السبعينات، حتى حذت إسرائيل نفس الخطوات.. وكما شاع في تلك الدول صعود شخصيات ديماغوجية، بخطاب شعبوي (ترامب مثلا) صعدت شخصيات بنفس السمات (نتنياهو).. وبالتوازي مع صعود قوى اليمين المسيحية الصهيونية المتطرفة في أمريكا، صعدت وترسخت قوى اليمين الديني والقومي في إسرائيل..
بكلمات أخرى، كما أفضت الليبرالية في الدول الرأسمالية إلى النيوليبرالية، كخيار حتمي، يعبر عن الأزمة الأخلاقية للرأسمالية، وعن دور أرباب المال المركزي في هذا النظام (المتوحش)؛ كان من المتوقع والطبيعي أن تتحول إسرائيل من دولة رفاه، إلى نيوليبرالية، ما يؤكد أنها نتاج الكولونيالية الرأسمالية، وأنها تتماهي مع المركز الإمبريالي في خصائصه السياسية والاقتصادية. ما يعني أن هذا التحول لم يكن رد فعل على أزمة اقتصادية، بل كان مخططا له بعناية.
في مرحلة "اليشوف" تبنت طلائع الصهيونية نظام الكيبوتس، وهو عبارة عن قرى تعاونية صغيرة، تقوم على مبادئ الملكية المشتركة، والعمل الذاتي، والمساواة، والمشاركة في الإنتاج. وقد روج حزب العمل لهذا النظام لدخول إسرائيل في "الاشتراكية الدولية"، وكان الهدف منه (إلى جانب الأغراض العسكرية) تعميق انتماء المهاجرين الجدد للأرض.
وبعد تأسيس إسرائيل، تبنى حزب العمل نظام "دولة الرفاه"؛ أي الدولة التي توفر كافة الاحتياجات الاجتماعية للسكان (فقط اليهود)، وكانت تخصص موازنات ضخمة للرفاه الاجتماعي (الشيخوخة، التقاعد، التأمين الصحي، الإسكان)، وتتبنى سياسة التدخل في السوق والحياة الاقتصادية، مثل الاهتمام بحقوق العمال، مراقبة السوق، حماية المستهلك، ضبط الأسعار، دعم السلع الأساسية، دعم الإنتاج المحلي.. وكانت حينها الحكومة اللاعب الأساسي في الاقتصاد وبدور يوازي دور الهستدروت، الذي كان يمتلك قطاعات واسعة من الاقتصاد.
وكانت إسرائيل في تلك الآونة، مدركة لأهمية دولة الرفاه، من منطلق إدراكها بأن الفجوات الاجتماعية والفقر يشكلان خطرا على سلامة المجتمع، لأن الفقر يؤدي إلى اليأس، واليأس يقود إلى التطرف والعنف، وبالتالي الفوضى.. والجائعون يسيرون خلف أي شخص يعدهم بالخبز، وهذا الشخص قد يكون لديه أجندات معادية، ويستغل فقر الناس.. يقول البروفيسور "كريس هيدجس": تستمد الحركات الفاشية والقوى اليمينية الدعم الجماهيري بارتكاز خطابها "النيوليبرالي" على الشرائح الاجتماعية غير الفعالة سياسيًا، أي أولئك الذين يحسون بضآلة أهميتهم في البناء السياسي للدولة؛ فهم أكثر استجابة للشعارات البراقة، والخطاب الذي يُداعب آمالهم ويُزكي مخاوفهم.
ومنذ أواسط السبعينات، وتحديدا بعد صعود الليكود (1977)، وبالتزامن مع عوامل أخرى داخلية وخارجية، وتحت تأثيرها، بدأت إسرائيل تتبنى النيوليبرالية تدريجيا.. إلى أن انتهى المطاف بتخليها عما كان يُعرف بدولة الرفاه، وتحولها إلى دولة نيوليبرالية، ترافق ذلك ونتج عنه صعود اليمين (القومي والديني) وسيطرته على الدولة والمجتمع، ونشوء دولة الاستيطان.. فكيف تم ذلك؟
الخبير الاقتصادي "داني غوتفين" (إسرائيلي يساري)، يشرح كيف بدأت النيوليبرالية تتحول إلى عماد السياسة الإسرائيلية، وكيف أثرت على الدولة والمجتمع، مؤكدا أن إسرائيل افتعلت الأزمات الاقتصادية لتمرير وفرض النيوليبرالية، واعتمادها سياسة اقتصادية وحيدة للدولة..
ولشرح وجهة نظره، يجري في البداية مقارنة بين فنلندا وإسرائيل من عدة نواحي، باعتبار أن البلدين يتقاربان إلى حد ما في عدد السكان، ويتشابهان من حيث محدودية الموارد الطبيعية، ولديهما نفس القيمة في خزينة الدولة. حيث أن الناتج القومي للفرد في إسرائيل (34000 دولار في السنة)، وفي فنلندا (37000 دولار).
تحتل فنلندا المرتبة الخامسة عالميا من حيث تدني نسبة الفقر، بينما إسرائيل في المرتبة 34، بنسبة فقر 23.5%. وكذلك تأتي فنلندا في المرتبة الثانية عالميا في فقر الأطفال، بينما إسرائيل في المرتبة 34. فنلندا الأولى عالميا في عدد الطلبة في الصف 20، بينما في إسرائيل 31 طالب. وأمام هذه الأرقام يتساءل "غوتفين" لماذا فنلندا وإسرائيل لديهما نفس القدر من الأموال في الخزينة، وبينما فنلندا في المراتب الأولى عالميا، تأتي إسرائيل في الحضيض؟
يجيب بنفسه على السؤال، بأن فنلندا وصلت إلى هذه المرتبة لأن حكومتها تتبنى سياسة اقتصادية اجتماعية ديمقراطية تهتم بالقطاع العام، وبتوفير الخدمات العامة للشعب، وتتبني مفهوم دولة الرفاه.. بينما إسرائيل وصلت إلى القاع (في مجال الخدمات العامة، وإنهاء دولة الرفاه) لأنها أرادت ذلك عن قصد ودراية، وبفعل سياسة مدروسة وممنهجة، وهي سياسة النيوليبرالية، التي بدأها حزب الليكود منذ أول يوم تسلم فيه الحكم.
يقول "غوتفين": إن أكبر عدو لدولة الرفاه هي سلطة المال، حيث يشكك الرأسماليون دوما بجدوى دولة الرفاه، ويزعمون بأن الحكومات هي المشكلة، وليست جزءا من الحل (في المجال الاقتصادي).. لأن الحكومة لا تعرف كيف تدير الاقتصاد، وهذه ليست مهمتها أصلا، وأنَّ السوق الحرة والمنافسة هي التي تقود إلى اقتصاد ناجح.. وهذا أساس النظرية النيوليبرالية، التي تريد تفكيك دولة الرفاه، ورفع يد الدولة عن الاقتصاد، وتسليم الأمر برمته لأرباب المال، وذلك عن طريق الخصخصة، ورفع القيود الحكومية عن الحركات التجارية.. والخصخصة هنا ستشمل كل شيء، بما في ذلك الصحة، التعليم، السكن، المواصلات، الطاقة.. وهذه احتياجات أساسية، وبالتالي ستصبح عبارة عن سلع وخدمات، من يملك المال يحصل عليها، ومن لا يملك لا يحصل.. وستكون هذه مشكلة المواطن، لا مشكلة الدولة.
كيف ولماذا تبنى الليكود هذه السياسة؟ وكيف ضمن عدم عودة حزب العمل للسلطة مرة ثانية؟

(2~2)
يقول الاقتصادي الإسرائيلي "غوتفين": منذ استلام الليكود الحكم، تبنى النيوليبرالية، بكل ما يتبعها من تقليص في الخدمات، ومن تخلي للدولة عن واجباتها تجاه السكان، ومن بيع القطاع العام للقطاع الخاص.. وكان الهدف الأول من ذلك إلغاء الامتيازات التي كانت تحصل عليها النقابات العمالية، ومجتمع العمال؛ كان الهستدروت يمتلك ثلث اقتصاد الدولة، وأحد أهم أركان قوة "المعراخ"، والقلب النابض لدولة الرفاه، التي تؤمن للسكان خدمات مميزة في مجالات التعليم والصحة والثقافة والرياضة والصناعة وغيرها، وبالتالي فهي وجمهورها القاعدة الانتخابية لحزب العمل، لذا كان واضحا أن هدف الليكود تحطيم هذه القاعدة، وحرمان حزب العمل من قاعدته الجماهيرية، حتى يضمن عدم عودته للحكم في الانتخابات القادمة. 
في السنوات 1977-1984، كانت الخطوة الأولى في مسار تدمير دولة الرفاه، إلغاء الرقابة على العملة الصعبة، والسماح بتبديل العملات.. نتج عن ذلك تدفق كبير للأموال، ومن ثم بدأ التضخم.. في السنة الأولى من حكم الليكود وصل التضخم إلى 42%، ثم وصل في العام 1984 إلى 444%، أي عشرة أضعاف.
تمثلت الخطوة الثانية في إلغاء الدعم عن السلع الأساسية، مثل الخبز والحليب والبيض وغيرها، وتعويم الأسعار وفق قانون السوق الحر، فارتفعت الأسعار، وتوقف دعم الصناعات، مما أدى إلى إغلاق عشرات المصانع، وزيادة نسبة البطالة، ثم رفعت قيمة الضريبة المضافة من 8%، إلى 12%. وفي الخطوة التالية، رفعت نسبة الفائدة من 26% إلى 57% الأمر الذي أضر بمدخرات المواطنين.
في خضم هذه الأزمة الاقتصادية خاضت إسرائيل حربها العدوانية على لبنان (1982)، وفي هذه الأثناء لجأ المواطنون الخائفون على مدخراتهم إلى البورصة، والتي أصبح لها دور مركزي.. ولكن، في شهر يناير 1983 انهارت بورصة تل أبيب فجأة، وخسر المدخرون أموالهم.. وعلى ضوء انهيار البورصة لجأ المواطنون إلى الأسهم البنكية كخيار أخير؛ باعتبارها منظمة ومضمونة من البنك..
في آب 1983، وتحت وطأة الأزمة السياسية والاقتصادية استقال "بيغن" من منصبه، بعدها بشهر انهارت الأسهم البنكية، وأفلست بعض البنوك، وأغلقت البورصة، ودخلت إسرائيل مرحلة من الفوضى الاقتصادية.
في العام التالي 1984 كانت ميزانية الصحة والتربية قد تقلصت إلى الثلث، الدين الخارجي تضاعف من 10 مليارات دولار، إلى عشرين مليار، وزاد عدد الأسر الفقيرة من (20530) أسرة، إلى (134500 أسرة).
في نفس العام، تشكلت حكومة وحدة وطنية (الليكود والعمل)، من أجل إنقاذ الاقتصاد، ووقف التضخم. وبالفعل توقف التضخم، واستقرت الأسعار، ما يدل (والكلام لغوتفين) أن الحكومة هي التي افتعلت التضخم، وهي التي أوقفته، ضمن سياسة ممنهجة. ثم قررت الحكومة تقليص الموازنة العامة، وبالتالي تقليص الخدمات، وتقديمها سيئة ومنقوصة.. وبحسب "غوتفين" كان الهدف من ذلك تهيئة الراي العام لتقبل فكرة إحلال القطاع الخاص مكان الحكومة، لأنه سيقدم خدمات أفضل..
ثم واصلت حكومة رابين مسلسل الخصخصة، فقامت ببيع 17 شركة حكومية، مع أنها كانت تحقق أرباحا عالية. أي أن الخصخصة لم تكن بهدف إنقاذ الاقتصاد، بل لأسباب أيديولوجية لها علاقة بالنيوليبرالية.
لم يكن في إسرائيل، سنة 1977، أرباب عمل، ورؤوس أموال مؤهلة لتقود عملية الخصخصة.. لذلك، تأخرت الخصخصة.. ما يعني أن أحد أهم أهداف النيوليبرالية، من خلال الخطوات التي نفذتها الحكومة لتدمير لدولة الرفاه هو خلق طبقة برجوازية بمقدورها إنجاح عمليات الخصخصة، تلك الطبقة مكونة من عدة عائلات ثرية، مثل عائلة دنكنر، عائلة عوفر، عائلة أريسون، إسحاق تشوفا..
وكدليل على تواطؤ الدولة مع تلك العائلات الثرية، ما حصل في قضية بيع بنك العمال، وهو أكبر بنك إسرائيلي، حيث اقترضت عائلة دنكنر مبلغ 1.4 مليار شيكل من بنك لئومي، وبنفس المبلغ اشترت بنك العمال، دون أن تحضر شيكل واحد من البيت.
بالرغم أن النيوليبرالية تؤذي وتضر الطبقات الضعيفة، إلا أن تلك الطبقات هي القاعدة الانتخابية لحزب الليكود الذي يقود النيوليبرالية! وهذا أمر ملفت للنظر، ولذلك، ومن أجل تفادي خسران تلك القاعدة الشعبية العريضة من الطبقات الفقيرة، لجأت الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة إلى وسيلتين:
الأولى: آلية تقسيم المجتمع إلى قطاعات.. ولفهم كيفية ذلك، لنتذكر أنه في الجانب الآخر السلبي لدولة الرفاه، كان الاقتصاد الإسرائيلي مغلقا ومحصورا، وثمة قطاعات واسعة لم تكن تشعر بالانتماء لهذا الحزب ومنجزاته، خصوصا اليهود الشرقيين، وسكان الضواحي.. وهذا ما اشتغل عليه واستغله حزب الليكود، وبقية أحزاب اليمين، خاصة شاس..
فبدلا من دولة تقدم الخدمات للجميع، تحوّل الحكومة النيوليبرالية تلك الخدمات إلى بضائع، لا تستطيع الطبقات الفقيرة الحصول عليها، وحتى تتمكن تلك الطبقات الفقيرة من الحصول على بدائل لتلك الخدمات ينتظمون في أحزاب قطاعية (شاس لليهود الشرقيين، أحزاب دينية للحريديم، أحزاب صهيونية للمهاجرين الروس..)، ويدور صراع تلك الأحزاب والقطاعات على بقايا ما تمنحه الدولة.. كما تسعى تلك الأحزاب لسد الفراغ الذي ينجم عن تخلي الدولة عن واجباته فيه، أي تنشط في الأطراف والضواحي والمناطق التي لا تصلها خدمات الدولة، وتقدم نفسها بديلا عنها، وتعدهم بحل مشاكلهم، بشعارات كبيرة، بخطاب شعبوي، يركز على الروح المعنوية، والخطاب الآخروي، ويعزز ثقتهم بأنفسهم.. ومع أن ذلك كله لا يغدو عن كونه أوهام وتمنيات، إلا أن النتائج تدل على نجاح هذه الآلية.
الآلية الثانية، هي الاستيطان؛ وقد ترافق نمو الاستيطان مع سياسات النيوليبرالية، وكلما تقلصت خدمات دولة الرفاه، زاد البناء في المستوطنات، ففي السنوات (1977-1984) تم بناء 80 مستوطنة، وزاد عدد المستوطنين من 6 آلاف إلى 622 ألف (2019).
والمستوطنون يعيشون ضمن ظروف مرفهة لم يكن ليحلموا بها داخل الخط الأخضر، فكل ما تم تقليصه داخل الخط الأخضر، يُدفع بسخاء في المستوطنات، وبمجرد أن ينتقل اليهودي للعيش داخل المستوطنات يتحول تلقائيا إلى داعم وناخب لقوى اليمين. وهكذا، صار الاستيطان أداة تعويضية عن سقوط دولة الرفاه اليهودية.
في هذا الإطار تبلورت طبقة واسعة من المستوطنين، الذي ربطوا مصالحهم الطبقية بالنظام النيوليبرالي، حيث صار البرنامج الاقتصادي للأحزاب اليمينية عماده "النيوليبرالية"، وهذا ما يفسر زيادة وتوسع الاستيطان بخط تصاعدي منتظم منذ بداية التسعينات؛ حيث تحول الاستيطان من أحد أدوات السياسة النيوليبرالية، إلى أحد أهم مصادر قوته السياسية والاقتصادية.

وكان التعبير الأبرز عن كل ما يحدث من انزياحات هو انكماش الكيبوتس، واختفائه، وتوسع المستوطنة، وهمينتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق