أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 22، 2019

بداية الثمانينات - الأردن، فلسطين، لبنان، مصر


 الأردن
ما زلتُ أذكر جيدا مرحلة نهاية السبعينات من القرن الماضي، بأجوائها، وشخوصها، وأحداثها.. وهي كما ما أثرت بي، أثرت على العالم الإسلامي ككل، فقد كانت نقطة مفصلية في التاريخ المعاصر.
ووفقا لنظرية "أثر الفراشة"؛ فإن الأحداث تؤثر على بعضها، وتخلق بيئات جديدة تولد واقعا جديدا؛ فمثلا في الخمسينات والستينات، انتصرت الثورة الفيتنامية والكوبية، وأشعل جيفارا ثورات عديدة في أمريكا اللاتينية، وفي إفريقيا، بدعم من الاتحاد السوفيتي.. كما انتصرت الثورة الجزائرية.. كان لهذه الأحداث تأثيرا كبيرا في التعجيل في انطلاقة الثورة الفلسطينية، وانطلاقة العمل الفدائي، ونهوض القوى اليسارية..

في سنوات السبعينات، وقعت أيضا أحداثا مهمة، غيرت مجرى التاريخ من بعدها، سأذكر منها فقط ما يتصل بموضوع المقال؛ مثلا، في صبيحة اليوم الأول من العام 1400 هجري، وقف الشيخ "همام سعيد" على المنصة، وألقى في مدرستنا كلمة الصباح، وكانت خطبة مطولة، بعد الظهر بدأت وكالات الأنباء تتناقل خبر اقتحام "جهيمان" للحرم المكي.. قبلها، وفي نفس السنة، كان "الخميني" قد عاد من منفاه في باريس، ليعلن قيام الجمهورية الإسلامية.. وقبل انتهاء العام كانت القوات السوفيتية تجتاح أفغانستان.. في خريف العام التالي، اشتعلت الحرب بين الجارتين اللدودتين العراق وإيران..

أثارت قصة "جهيمان" الحيرة في نفوسنا، وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض، وكذلك الحرب العراقية الإيرانية، بيد أن نجاح الثورة الإيرانية، واشتعال الحرب الأفغانية لاقى تأييدا من قبل الجميع تقريبا.. المهم أن تلك الأحداث وغيرها، لعبت الدور الأهم في انطلاقة الإسلام السياسي بنسخته المعاصرة، وانتشاره، تحت مسميات "الصحوة"، و"المد الديني"..

في تلك الفترة، مِثل كثيرين من أقراني، انتميتُ لجماعة الإخوان المسلمين، وصرتُ أواظب على حضور جميع الصلوات في المسجد، وأستمع للدروس الدينية، ولا أتغيب عن الاجتماع الأسبوعي "للأسرة"؛ أي الخلية التنظيمية الإخوانية، وهي بحدود خمسة أفراد، يترأسها شيخ أكبر سنا، وأكثر معرفة..

ربما كانت "صويلح" المدينة الأهم لجماعة الإخوان في تلك الفترة، فمنها انطلقت وتوسعت.. وبالذات من "الحي الشرقي"، وهو حي شعبي مكتظ، أغلبه من الطبقة الفقيرة ودون الوسطى، وبسبب قربها من الجامعة الأردنية، التي كانت تضم كلية الشريعة، فقد سكَنَ معظم أساتذة وطلبة الكلية في ذلك الحي، فصار جامع "عبد الرحمن بن عوف" مركز النشاط الدعوي والتنظيمي للجماعة.
كان لخطابات الشيخين "عبد الله عزام"، و"أبو ساجدة" تأثيرا كبيرا فينا (وهما الآن في دار الحق)، وكذلك ما كنا نتلقاه من تربية حزبية وأيديولوجية من خلال أنشطة الجماعة، فإضافة للدرس الديني الذي يعقب صلاة المغرب، وهو مُتاح للجميع، كانت هنالك أنشطة خاصة بأعضاء الجماعة، مثل الأنشطة التي كانت تنظم في "دار القرآن الكريم"، في الطابق الأسفل للجامع، وكذلك الأنشطة التي كانت تُقام في مقر الجماعة (جميع مقرات الإخوان المنتشرة في جميع المحافظات الأردنية كانت علنية ومرخصة)، بالإضافة للرحلات الجماعية، والمخيمات الكشفية.. وهذه أنشطة معروفة للجميع، ولا أذيع سراً هنا.. المقصود من ذكرها أنَّ ما سأقوله مأخوذ من المصدر الأساسي، وكنتُ شاهدا عليه، وبالتالي، هي نظرة عامة، لأحداثٍ هامة، ولكن من منظور شخصي..

ومع إني نشأت في أسرة مسلمة، متدينة، محافظة، تقيم جميع الشعائر الدينية.. إلا أني بدأتُ في ذلك السن، أكتشف إسلاما جديدا، وبدأت أختبر تدينا مغايرا، عما ألفته سابقا.. كنا بعد كل اجتماع حزبي نخرج بنتائج عامة، مفادها أننا نعيش في مجتمع جاهلي، وأنَّ النظام كافر وعميل، وأن فهم الناس للإسلام خاطئ وقاصر، والأصدقاء ممن هم خارج الإخوان هو أصحاب سوء، يتوجب علينا هدايتهم (ضمهم للإخوان) أو مقاطعتهم.. أما العائلة الصغيرة التي نعيش في كنفها، فهي من وجهة نظرهم لا تقيم الإسلام الصحيح، وتقترف الكثير من المعاصي، وأن علينا مخالفتهم وعصيانهم في كل الأمور المتصلة بفكر الجماعة وأنشطتها (دون أن نصل مرحلة عقوق الوالدين).. وكنا نتلقى تعليمات معينة، مثل وجوب منع الاستماع للأغاني في البيت، أو مشاهدة المسلسلات العربية (وبدرجة أشد تحريما الأفلام الأجنبية)، وضرورة إلزام الفتيات لبس الحجاب والجلباب (بشكل ومواصفات معينة وصارمة، بما في ذلك رفض الثوب الفلسطيني التراثي)، حتى لو تطلب ذلك الدخول في معارك بالأيدي، أو ترك البيت نهائيا.. وقد كان ذلك أسهل على الرجال الكبار ممن انضموا للجماعة؛ فطبيعة دورهم الاجتماعي "البطريركي" تتيح لهم إمكانية فرض تلك التعليمات بالقوة.. وصل الأمر ببعض الآباء منع اقتناء العديد من أدوات العصر الحديثة، خاصة التلفزيون.

في المدرسة، بدأت تظهر أنواعا من الانفصام بين الطلبة الإخوان وزملائهم، وحتى بين المعلمين.. وكان يُطلب منا التصدي للمعلمين الذين ينشرون أفكار الوطنية والقومية، أو ممن لا يسيرون على نهج الإخوان، وصل الأمر أحيانا إلى العراك بالأيدي، والتهديد بالضرب..

على مستوى المجتمع، بدأ الانسجام يتلاشى داخل الأسرة شيئا فشيئاً، وصارت العلاقات بين الأشقاء والأقارب تُحدد وفق الفتاوى والوصايا، وأخذت علاقات النَّاس ببعضها تضطرب وتنقسم، وصارت بعض الفتاوى تغرس الكراهية داخل المجتمع، مثل القول بنجاسة الجار الفاسق، وعدم الترحيب بغير المسلم، والنَّظر إلى بناء الكنيسة بأنه عداء للإسلام (أذكر تحريض الجماعة ضد كنيسة كان مقرراً بناؤها في صويلح). وظهرت الطائفية (التي ظلت كامنة لعصور خلت). وظهر لأول مرة "البنك الإسلامي"، وتحولت الأعراس الشعبية إلى حفلات دينية، وانتشرت اللحى الطويلة (مع تحريم حلاقتها)، وظاهرة الدشاديش، واللباس الأفغاني، والنقاب، وانصب الاهتمام على مظاهر شكلية، أخذت طابع التحريم، خاصة فيما يتصل بالملبس والمأكل، وتحريم كلّ سلوك اجتماعي ليس على أسلوب الإخوان، وأخذ المجتمع يُصبغ بصبغة العسكرة الدِّينية. وأخطر ما وصلت القوى الدِّينية بصحوتها، هو رخص الحياة، بإغراء الشَّباب لنيل الشَّهادة (في سبيل الله)، والحقيقة كانت في سبيل الجماعة.

كان الوضع بالمنطقة، يسير لصالح ثقافة الإسلام السِّياسي، لذلك، أغلب المجتمع تكيف مع تلك المتغيرات الجديدة، واستجاب لها سريعا، فقد نشط في تلك الآونة العديد من الخطباء المفوهين (منهم مثلا المرحوم "أبو زنط")، الذين برعوا في محاكاة عواطف الناس الدينية، واستغلال الظروف السياسية والاقتصادية البائسة التي كانت (وما زالت) تمر بها المنطقة، وصارت خطبة الجمعة (وخطبة العيدين) المنابع الرئيسة التي يستقي منها الناس فهمهم للدين، وانتشرت ظاهرة "الداعيات" في البيوت..

اهتم "الإخوان" بشكل خاص بالفتية والشباب، وبما أنه ليس أحب على هذه الفئة من اللعب والرياضة، فقد تم استقطابهم من خلال هذا الباب، ولكن، بعد إفهامهم أن الأندية الرياضية في البلد "فاسقة"، وتتبع مؤسسات غير إسلامية، وأنَّ متابعة الدوري، أو تشجيع فريق عالمي (من الكفار) أمر غير مستحَب شرعيا، لأن ذلك يلهي عن ذكر الله.. وطالما أن الرياضة سُـنّة حميدة؛ يتوجب أن تكون في إطار الأندية والأنشطة التي ترعاها وتشرف عليها الجماعة..


ومن الأساليب التي كان يتبعها الإخوان: المخيمات الكشفية، حيث يخضع الفتيان لتربية صارمة على مدى أيام وليال، والمبيت في مقرات الجماعة، لقيام الليل، وإلقاء دروس دينية وحزبية كانت تستمر حتى الصباح، وأيضا زيارة المقابر، وهذه كلها نقاط ضعف عند الفتيان والشبان الصغار، من خلالها كان يتم تشريبهم الفكر الإخواني بهدوء، وتعويدهم على السمع والطاعة.

الفنون بأشكالها كانت نقطة ضعف في المنهج الإخواني، فهي عندهم محرمة بأغلبها (الغناء، التمثيل، الموسيقى، النحت، الرسم، التصوير، السينما.. وهنا ما زلت أتذكر الحملات المحمومة التي نفذها الإخوان في صويلح ضد افتتاح سينما..)، وكان يتم اختزال كل ذلك، وتعويضه بالأناشيد الدينية.. (حصل تطور وتغيير إيجابي على ذلك في العقدين الأخيرين)، كذلك كان يتم حظر العديد من الألعاب التي كانت سائدة بين عموم الشباب (خاصة ألعاب الورق، وطاولة النرد)، والسماح بممارسة ألعاب أخرى مثل التنس والبلياردو، ولكن داخل الأندية التي كانت تتبع الجماعة.. حتى نوعية الكتب، والروايات التي قد يقبل عليها الشبان، كانت تخضع للرقابة، ويتم استبعاد ما لا يتوافق مع فكرهم، ونهجهم.. وبهذه الطرق، كان يتم احتواء الشباب، وضمان انضباطهم التنظيمي.

جرى كل ذلك إضافة إلى، وبالتزامن مع ما كان يجري طبخه بهدوء في المدارس والجامعات.. فقد ظلت وزارة التربية والتعليم الأردنية تحت هيمنة الإخوان لعشرات السنين (إسحاق الفرحان، عبد اللطيف عربيات، عبد الله العكايلة.. رحمهم الله)، في تلك الأثناء كانت المناهج التعليمية والتربوية يتم إعدادها على أيديهم، بتروي وبراعة، حيث تم تضمين المفاهيم والأفكار والأيديولوجية الإخوانية بين السطور، حتى في كتب التاريخ والكيمياء، لتستقر في عقول وأفئدة الطلبة، على مدار سنوات، كان قطاف تلك الجهود الفوز الكاسح لمرشحي الإخوان في أول انتخابات نيابية جرت في الأردن (1989). وأوضح تجليات ذلك تجدها في أراء الشارع الأردني (بما في ذلك الفلسطينيين)، والتي تكاد تكون متطابقة، بنفس المفاهيم وأساليب التفكير، والتي يظهر فيها أثر الإخوان وأثر "الجزيرة".. وهي ظاهرة تكاد تكون مقتصرة على الأردن.

أما النتائج الأخطر، والتي ستظهر في الألفية الجديدة، فقد تمثلت في انتشار الفكر الوهابي السلفي المتشدد، ومن ثم ظهور الجماعات التكفيرية، والانتحاريين، الذين شاركوا في حروب أفغانستان، والعراق وسورية والشيشان. ولفهم الرابط بين كل ذلك، لنتذكر هجرة عبد الله عزام إلى أفغانستان، وتقديم نواب الإخوان واجب العزاء في "الزرقاوي".

في المسألة السياسية، كان يتم إفهامنا أن الأنظمة العربية وكافة مؤسساتها أنظمة كافرة وجاهلية (رغم أن الإخوان في الأردن كانوا على حلف وثيق مع الدولة، ويحظون برعاية ودعم القصر الملكي).. (كتب سيد قطب مثال على ذلك).

فلسطين

في المسألة الفلسطينية، يجدر الانتباه إلى أنّ الجماعة بعد أن بدأت تخرج من مصر، وتنتشر في عموم العالم، أطلقت على فروعها تسميات معينة، تعترف بموجبها بالدول القائمة؛ في سورية صار اسمها: الإخوان – ولاية سورية، في لبنان: الإخوان – ولاية لبنان، في الأردن: الإخوان – ولاية الأردن.. وهكذا، في فلسطين صار اسمها الإخوان – ولاية بلاد الشام! (راجع تصريحات محمد نظمي نصار)، ويبدو أن تغييب كلمة فلسطين لم تكن سقطة إملائية؛ فأدبيات الإخوان تسخر من اعتبار فلسطين قضية فلسطينية؛ فهي قضية إسلامية، بل إن فلسطنة القضية أضر بها، وحرمها من التضامن الإسلامي.. إلخ. وكأنَّ جموع المسلمين كانت زاحفة بجيوشها لتحرر فلسطين، فجاء الفلسطيني وقال لهم قفوا عندكم، لا حاجة لنا بكم، فنحن لوحدنا قادرين على التحرير!

وفي أدبيات الإخوان وفي اجتماعاتهم الداخلية، وخطبهم المنبرية، في كل مرة يتم التطرق للقضية الفلسطينية، كان فقط من مدخل شيطنة منظمة التحرير، وشيطنة قياداتها، واتهامها بالعمالة والتفريط والتنازل والفساد.. حتى في زمن ما قبل أوسلو، أي في زمن الفدائية، وفي ذروة كفاح المنظمة السياسي والعسكري، وخوضها أشرس المعارك ضد إسرائيل.. 

وفي الفكر الإخواني، أرض فلسطين مجرد وقف إسلامي، فهي ليست ملكا للشعب الفلسطيني (الذي وُجد وعاش على أرضه بثبات ملحمي قبل كل الديانات وبعدها).. وبالتالي لا حاجة لإبراز كيانية سياسية، ولا شخصية وطنية فلسطينية، ولا حاجة لتمثيل سياسي لهذا الشعب.. (أهم هدف مركزي للصهيونية هو تغييب أي وجود سياسي للشعب الفلسطيني).. حتى مفهوم الوطن في الفكر الإخواني مغيب وضبابي، فالوطن عندهم هو الدين، والشعب هو جموع المسلمين في العالم.. ما يعني أن رابطة الإخواني بالمسلم الاندونيسي أهم وأقوى من رابطته بابن جلدته إذا لم يكن مسلما، وبتعبير أدق إذا لم يكن إخوانيا.. والصراع مع إسرائيل هو صراع ديني، أي بين المسلمين واليهود في حرب دينية شمولية، وبالتالي كل اليهود أعداء (انتبهوا لخطبة فتحي حماد، فقد عبّر فيها عن فكر إخواني أصيل).

قبل صعود حماس، كان الخطاب الإخواني (خاصة في فلسطين) يرتكز على معاداة منظمة التحرير، والفصائل اليسارية والعلمانية.. وكانوا يعتبرون أنفسهم في مرحلة الإعداد؛ أي بناء الجوامع، والمراكز الإخوانية، والتركيز على النشاط الدعوي والتنظيمي، ولم يكن واردا لا في الخطاب ولا في الممارسة محاربة الاحتلال، ولا حتى مقارعته.. لذلك، سمحت إسرائيل للإخوان بممارسة نشاطهم الدعوي، ومنحت "المجمع الإسلامي" في غزة تصريحا رسميا منذ بداية السبعينات، وهو أهم مركز للإخوان في فلسطين. وقد استمر ذلك حتى العام 1989، حيث اختلفت الصورة كليا بعد ظهور حماس.. لكن أغلب أفكارهم تجاه القضية الفلسطينية ظلت كما هي.

بعد انطلاقة الانتفاضة (1987)، وجد الإخوان أنفسهم بين خيارين: الاستمرار على الوضع السابق، وهذا يعني عزلهم جماهيريا، أو الانخراط في الانتفاضة، ومقاومة الاحتلال.. فاختاروا المقاومة، وصار اسمهم "حماس"، وكان هذا السبب الأهم في تنامي شعبية الحركة. 

 لبنان


إذا كان توقيع "كامب ديفيد" قد أدى إلى عزلة مصر وخروجها من النظام العربي؛ فإن الحرب العراقية الإيرانية أدت إلى انشغال العراق واستنزافه، وفي المحصلة خسرت الثورة الفلسطينية أهم حليفين، كان من المفترض أن يكونا قوة إسناد لفلسطين.
ولما انتصرت الثورة الإيرانية، فرح الفلسطينيون بها، وظنوا أنها ستعوض خسارتهم لمصر، وستعدّل من موازين القوى في المنطقة، لذلك كان ياسر عرفات أول من زار إيران وهنأ الخميني بنصره، ومن طهران أطلق عبارته الشهيرة: "عُمْقنا الاستراتيجي يمتد من صور إلى خراسان". لكن بعد وقت قصير تبين أن الرهان كان خاطئا، وأن الخسائر الفلسطينية ستكون أفدح من المتوقع.
الكاتب "د. شفيق الغبرا" (وهو فدائي عايش التجربة الفلسطينية في حقبة السبعينات)، في كتابه "حياة غير آمنة" يصوّر طبيعة الأجواء التي سادت بعد انتصار الثورة الإيرانية، ويتحدث عن مدى تأثيراتها على الثورة الفلسطينية، وعلى المنطقة بشكل عام؛ يقول: "مع عام 1979 تبين أننا أصبحنا وحدنا، بلا مساندة؛ فقد نجحت إسرائيل في الاستفراد بنا، وبدأت قاعدتنا في جنوب لبنان تهتز".
ويضيف: "جاء النموذج الإيراني ليقول إن الثورة في العالم العربي والإسلامي لن تكون ماركسية، أو اشتراكية، أو يسارية، أو قومية، أو وطنية كما كنا نقول ونعتقد؛ بل إسلامية الاتجاه والهوى، دينية المضمون والعمق".
واعتبر أن انتصار الثورة الإيرانية أعطى للإسلام السياسي زخما إضافيا، ومنَحه القوة الإعلامية والجماهيرية التي كان يحتاجها، ومثّل بداية تراجع وانكفاء القوى القومية واليسارية والوطنية والعلمانية؛ إذْ بدأت شعارات الإسلام السياسي بالظهور بقوة، مثل "تطبيق الشريعة"، وأخذ شبان "ثوريون" يتبنّون أفكار الإسلام السياسي، ويستبدلون الشعار القديم "الوحدة العربية الطريق إلى فلسطين" بشعار "الإسلام هو الحل"، فيما راح يساريون متأسلمون باستبدال مصطلحات اليسار التقليدية بأخرى إسلامية؛ فحلت كلمة المستضعفين بدلا من العمال والكادحين، والشيطان الأكبر بدلا من الإمبريالية، وهكذا.
وأشار "الغبرا" إلى أنّ أطروحات الإسلام السياسي كانت تركز على مواضيع الحجاب والنقاب ومصافحة المرأة ومنع الاختلاط وغيرها، وأنّ الدين أخذ يحتل مساحة أكبر على حساب القضايا الوطنية، وبدأ الإسلام السياسي يغزو المساجد، ويستقطب المزيد من الأتباع، وإذا بالحجاب يتحول من مسألة فقهية أو شخصية إلى رسالة سياسية بامتياز، تدل على مدى قوى حضور الأحزاب الدينية في منطقة معينة، وإذا بالناس المتدينين يتحولون إلى طبقة سياسية اقتصادية قوامها رجال الدين وقادة الأحزاب السياسية الدينية، وإذا بصورة المجاهد الأفغاني تستقطب جيلا بأكمله، وتستحوذ على فؤاده بدلا من صورة الفدائي الفلسطيني.
وأضاف "الغبرا": "بعد الثورة الإيرانية، بدأ الشيعي منّا يتحول إلى شيعيّته، والسنّي بدأ يكتشف سنّيته، أما الدرزي فبدأ يتساءل عن موقعه في المشروع الإسلامي الجديد، ما يدفعه إلى الانضواء في ظل طائفته، والمسيحي الذي وهب حياته للقضية الوطنية بدأ يكتشف أن المشروع الإسلامي الجديد لا يقدم له الحل؛ بل ينظر له بوصفه مسيحي، وصار البعض منا يتساءل هل هذا هو المشروع الذي ناضلنا من أجله؟ هل يُعقل أننا كنا على خـطأ طوال هذه السنوات ونحن نتبنى أفكار اليسار والطرح اللاطائفي والعقلاني الثوري؟ وماذا حصل للمفهوم العروبي والوطني الذي يجمع بين الكل".
ويتساءل "الغبرا" على لسان صديقه خالد (المسيحي الفدائي): "هل بهذا الفكر الطائفي الضعيف سنحرر فلسطين؟ ونتقدم وننجح في استيعاب تنوع مجتمعنا؟ أم بهذا الفكر سنـزداد طائفية وقبلية وانغلاقا وتفتتا واقتتالا؟ هل كانت مشكلتنا في الأساس قلة الصلاة والصوم وغياب الحجاب؛ أم مشكلتنا في غياب الجدية والاستعداد للبذل وضعف حرية التفكير؟ هل بدأنا نتخلى عن فكر "فتح" المرن الذي يعترف بالتعددية والتنوع وحق الاختلاف، لصالح فكر منغلق يفرق الناس بين مؤمن وكافر، ويركز على طقوس شكلية؟ هل بدأ الفكر الوطني يموت لصالح فكر طائفي فئوي؟ هل هذه بداية هزيمتنا وانتهاء حلمنا؟".
أحدثت موجة الإسلام السياسي حالة من تفكك الروابط التنظيمية الفتحوية، وتراجُع قوة التيار اليساري الذي كان يتسم بالطرح العقلاني الثوري غير الطائفي، وتشتُّت القاعدة الفتحوية بين منبهر بالنموذج الإيراني، ومتفرج ومراقب، ومنتقد ومتخوف.. وعندما اندلعت الحرب انقسمت القاعدة التنظيمية بين مؤيد للعراق ومؤيد لإيران. ويذكر "الغبرا" عددا من الأمثلة التي تأثرت بالثورة الإيرانية: "فمنير شفيق الذي كان يرمز لعمقنا الفكري، وهو مسيحي يساري، ذهب إلى إيران، وهناك أعلن إسلامه، بينما حمدي وأبو حسن ومروان، وهم من أعمدة الكتيبة الطلابية، ساروا على الدرب الإسلامي ولكن في إطار فتح، أما خالد فقد بدا متألما مصدوما يعيش خيبة أمل، وهناك مثله الكثيرين من المسيحيين الذي تركوا عائلاتهم وانسلخوا عن خلفياتهم المسيحية والمارونية لصالح القضية الوطنية، ووجدوا أنفسهم فجأة مكشوفين وبلا أي سند، وأيضا أنيس النقاش المفكر المنفتح الذي ترك فتح لصالح العمل في الثورة الإيرانية، لدرجة أنه تورط في اغتيال شاهبور باختيار في باريس، وكذلك عماد مغنية الذي تحول إلى حزب الله (يقال أنه تورط في خطف طائرة كويتية لصالح إيران)، وغيرهم الكثيرين من كوادر فتح الذين رجعوا إلى طوائفهم وانضموا لأحزاب طائفية".
والتغيير الآخر المهم، حصل في الطائفة الشيعية التي كانت تقف بأكملها إلى جانب الثورة الفلسطينية، وتدعمها، حتى أن المئات منهم كانوا منتسبين لفتح، هؤلاء وبدعم من فتح في البدايات أسسوا حركة "أمل"، والتي سرعان ما اصطدمت مع الحركة الوطنية اللبنانية، ثم في مرحلة لاحقة قادت حركة احتجاج كبيرة على الوجود الفلسطيني، حتى تصادمت مع فتح (بدعم سوري)، وبدأ سكان الجنوب يضيقون ذرعا بالمسلكيات غير المنضبطة لبعض أفراد القوى الوطنية والفلسطينية، وتفاقمت معاناتهم من تبعات احتضان المقاومة من جراء القصف الإسرائيلي، هذه القاعدة الشعبية التي شكلت الحاضنة الأهم للثورة الفلسطينية بدأت تتململ وتعبر عن استيائها بصوت أعلى؛ الأمر الذي جعل فتح وفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية تواصل عملها العسكري بعد العام 1982 تحت اسم "المقاومة الوطنية اللبنانية"، ثم وفي مرحلة لاحقة بعد صعود حزب الله في أواخر الثمانينات تحولت إلى مسمى "المقاومة الإسلامية" التي تفرد بها حزب الله. 
وستتأثر الطائفة السنية بنفس الشكل والطريقة، ولكنها ستحتاج مزيدا من الوقت، حيث انتشرت في المناطق السنية والمخيمات الفلسطينية ظاهرة الحركات الأصولية، التي أخذت منحى طائفي متطرف.
وهذا الاستقطاب الطائفي أشعل المزيد من النيران في الحرب الأهلية اللبنانية، وأمدها تسعة أعوام كاملة بعد الخروج الفلسطيني من لبنان. وجعلها تأخذ مناحي أخرى أشرس وأخطر؛ وهذه كله، جعلنا نخسر نموذج التعايش اللبناني المتسامح والمنفتح بآفاقه الرحبة على الإنسانية، وجعل الفلسطينيون يخسرون أهم قاعدة ارتكازية لهم بعد الأردن، وأجبرهم على الدخول في أنفاق سياسية مظلمة، والوقوع في منزلقات لم تكن تخطر على بالهم أيام الثورة والعمل الفدائي.
مصر


تأسست جماعة الإخوان في مصر سنة 1928، ومع بداية الخمسينات كانت قد انتشرت في عدد كبير من دول العالم، وفي نفس الفترة تأسس حزب التحرير.. وكان تمثيل الإسلام السياسي في تلك الفترة يكاد يقتصر على هذين التنظيمين.
وحتى السبعينات ظلت جماعة الإخوان هامشية، ومعزولة مجتمعيا، رغم تعدادها الكبير، بيد أنها بعد ذلك، ستغدو تنظيما رئيسا، وستلعب دورا بالغ الأهمية، وسيتعاظم حضورها في المشهد السياسي والإعلامي، وسيخرج من تحت عباءتها العديد من تنظيمات الإسلام السياسي.
قبل عام 1980،لم يتجاوز عدد الحركات الدينية الميالة للعنف أصابع اليد الواحدة، وخلال عقد الثمانينات تضاعف العدد ثلاثة مرات، ومع أواسط التسعينات نما العدد ليربو إلى نحو ستة وعشرون منظمة وحركة جهادية تؤمن بالعنف وتمارسه فعليا.. اليوم تكاثرت الأحزاب الدينية لدرجة يصعب حصرها.
وطالما أن البداية كانت من مصر، يجدر بنا دراسة واقعها الاجتماعي والسياسي، لمعرفة أسباب الظاهرة، وتأثيراتها على المنطقة.
في البداية، أطلق "السادات" (1970~1981) العنان للإسلاميين، فحررهم من السجون، وسمح لهم بالعمل التنظيمي والإعلامي، بل وفتح لهم معسكرات التدريب، ظنا منه أنه سيلعب بهم داخل الجامعات، وسيكنس بهم مخلفات العهد الناصري وبقايا الماركسيين، ليمسك بكل الخيوط.. وفي النهاية انقلب السحر على الساحر، وانتهى المشهد المأساوي بحادثة المنصة.

ومن ناحية ثانية، أدت سياسة الانفتاح التي رسخها "السادات" إلى اتساع الهوة بين طبقات الشعب، وتعميق الظلم الاجتماعي، وانتشار الفساد في مؤسسات الحكم، وانتشار العشوائيات السكانية، وتآكل الطبقة الوسطى، وهبوط شرائح كبيرة منها إلى أسفل خط الفقر، وتضخم بيروقراطية الدولة، وتوّسع اقتصاد الخدمات، وظهور اقتصادات طفيلية موازية، وتلاشي الفلاّحين كطبقة ذات خصائص اقتصادية واجتماعية وثقافية ثابتة، إضافة إلى الانفجار السكاني الهائل، هذه كله أدى إلى خلق وتكوين شرائح اجتماعية جديدة، سماتها الواضحة أنها فقيرة ومهمشة، وتفتقر إلى ملامح أو تقاليد طبقية ثابتة، لكنها تمثل الغالبية العظمى من سكّان المدن. (حسن خضر، الأيام).
في عهد "السادات"، ترعرعت الحركات الإسلامية، وتكاثر المشايخ والخطباء، وامتلأت الأرصفة بكتب "سيد قطب" و"أبو الأعلى المودودي"، وكاسيتات "الشيخ كشك" و"عمر عبد الرحمن" و"القرضاوي" وغيرهم، ممن دخلوا سباقا محموما في الاستحواذ على عقول وأفئدة الشبان، ثم تمكنت الجماعات الإسلامية من السيطرة على الجامعات والنقابات، وخرجت الأمور عن سيطرة النظام.
وفي هذا الإطار، أشار "حسن خضر" لدور كل من الشيخ الشعراوي، ود. مصطفى محمود، وزغلول النجّار، خاصة من خلال ظهورهم الإعلامي على التلفزيون، في فترة كان التلفزيون فيها مركزيا في الحياة الاجتماعية، ولدورهم مع غيرهم، في إنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية، وتأسيس أوّل بنك "إسلامي" في مصر.

في خضم تلك التحولات، انقلب النظام مرة ثانية على الإسلاميين، وزج بهم في السجون، في هذه السجون الرهيبة وُلدت أفكار التعصب والحقد على المجتمع، ونشأت مفاهيم التكفير، ووُلدت التنظيمات التي لا تؤمن إلا بالعنف، كالجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية وغيرهم..

وحسب رأي "محمد محفوظ" في كتابه "الذين ظُلموا"، فإن تلك الظروف الضاغطة أدت إلى توليد الجماعات المتطرفة، مثل جماعة التكفير والهجرة. فكتب: "بعض المتدينين الذين عجنهم الفقر فيما اعتبروه "المجتمع الجاهلي" أرادوا أن ينبذوا هذا المجتمع في ضمائرهم ويمارسوا التقية انتظارا للفرج، ولكن آخرين رفضوا هذا المبدأ السلبي، وشرعوا بممارسة المفاصلة الكاملة مع المجتمع، فهجروا مجتمع الكفر، ولكنهم أقاموا يثربهم على تخوم المجتمع وناصبوه العداء..".

في تلك الأثناء بدأت المساجد تتحول إلى بؤر توتر، ومراكز تصدير لأفكار التعصب والغلو، وهبط مستوى العديد من الجامعات وتراجع دورها الحضاري. ويشرح "محفوظ" حيثيات هذا الوضع قائلاً: "مدرجات الطلبة التي تتسع إلى بضعة مئات على أكثر تقدير صارت تُحشر فيها الآلاف من الطلبة، الذين بالكاد يرون أستاذهم أو يسمعون ما يقوله، والمختبرات تكدست فوق طاقتها الاستيعابية، وهاجر العديد من الأساتذة المميزين، وأصبحت الجامعات مكانا مكتظا لا يختلف عن وسط البلد، يتجمع فيه الشباب ومعهم شقاءهم ورعبهم من المستقبل، بينما أعداد الخريجين تفوق كثيرا حاجة البلد ضمن توزيع غير متوازن، وكانت النتيجة هجرة الكفاءات للخارج، وانخراط المزيد من الشبان في التنظيمات الجهادية.. وهؤلاء شبان خبروا العشوائيات والأزمات الخانقة والقمع السلطوي والفقر والبطالة والقهر الاجتماعي، وما إلى ذلك من بيئة مجافية لا تورث إلا العنف والحدة، ومن تربة لا تنبت إلا التطرف". تلك الظروف ستؤدي إلى انفجار المَرْجَـلْ في مصـر.

في هذه الفترة المفصلية شهدت البلاد أحداثا جسام، وتغيرات جذرية ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة ككل، كان لها أثرا هاما على تطور الفكر الجهادي للحركات الإسلامية، حيث دخلت مصطلحات ومفاهيم جديدة، مثل: الولاء والبراء، التتريس، الخروج على الحاكم، قتل المرتد، إلزام المسيحيين دفع الجزية، تحريم السياحة، نبذ المجتمع الجاهلي، إلزام النساء بارتداء النقاب، تطبيق الشريعة، الحاكمية لله، دار الإسلام ودار الكفر.. هذه المفاهيم باتت عماد الأيديولوجيا الجديدة، ومحور خطابها الإعلامي وبرنامجها العملي، وهي وإن كانت موجودة أصلاً في التراث الأصولي الإسلامي؛ إلا أن إعادة إحيائها على يد فقهاء الحركات الجهادية مسألة تندرج في إطار تسييس الدين، وتوظيفه لأهداف سياسية حزبية.

في الجزائر أدت خيبة أمل الجماهير العريضة في أداء جبهة التحرير الوطني، التي تفردت بحكم البلاد ثلاثة عقود متتالية، وما لمسوه منها من فساد وقمع للحريات طوال فترة حكمها، وهي التي تُوجت بأزمة اقتصادية خانقة، أدى ذلك كله إلى بروز تيار ديني يبشر الناس بالحل، ويطرح نفسه بديلا إقصائيا لكل ما هو موجود، ما أدى إلى عشرية دموية تقشعر لها الأبدان.. وتتشابه نفس العوامل والنتائج إلى حد كبير في كل من تونس والمغرب.

في حقبة التسعينات هُزم العراق، وانقسمت البلاد العربية على نفسها وتفكك الاتحاد السوفيتي، وأطلت الفتنة الطائفية برأسها في المنطقة، وانتهت الحرب الأفغانية، وبرز الطالبان وتنظيم القاعدة، وعاد الأفغان العرب إلى بلدانهم، ودخلت البلاد والعباد في المرحلة الأمريكية، ومعها دخل العالم ما عُرف بحقبة الحرب على الإرهاب.


وكان نتاج ذلك كله، انكفاء مشروع التحرر الجماهيري فيما عرف بثورات الربيع العربي، ودخول المنطقة بأسرها في مرحلة جديدة، يمكن القول إنها بالغة السوء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق