من مكان مجهول في جبال التبت، على بعد ألف ميل من الحدود
الهندية، حيث مقر قيادة "الاستراتيجية الرقمية الصينية"؛ كان الميجر
جنرال "لوهان تشيك" يتنصت على مكالمة خارجية بالغة الأهمية.. مكالمة
ستحدد مصير العالم، وستضع مصير الكوكب على المحك..
في قمرة القيادة، في غواصة تقبع في أعماق المحيط المتجمد
الشمالي، يجري الجنرال "دوغلس" حوارا استثنائيا وأخيرا مع الجنرال
"ساكوروف"، قائد الغواصة الروسية الرابضة في جوف المحيط الأطلسي، على
بعد مائتي ميل من الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية.
-
خلال عشرة
دقائق، ستكون كلٌ من موسكو، وسانت بطرسبورغ، وسارانسك، وكالينينغراد، وقازان، وسامارا..
أثراً بعد عين.. لن تبقَ فيها عمارة واحدة، وإلا ودكت دكا.. لن ينجُ إنسٌ ولا طيرٌ
ولا حيوان..
-
خلال ثماني
دقائق ستكون أكبر عشر مدن أمريكية قاعا صفصفا وبلقعا خرابا، ولن تجد حتى غرابا
ينعق فوق أطلالها الخربة..
-
Fuck you
-
Fuck you
هي الحرب إذاً.. حرب نووية، قُتل في أسبوعها الأول ما
يربو على الخمسمائة مليون إنسان.. وقعت في خريف ساخن من العام 2045.. واستمر عدد
الضحايا في الارتفاع، حتى تجاوز المليار في غضون ستة أشهر.. صارت الأراضي
الأمريكية والروسية تشبه سطح المريخ، صحراء قاحلة، تحوم فوقها غيوم حمراء وصفراء،
وتذرو غبارها رياح لاهبة.. من لجئوا إلى المغاور والكهوف، ومن احتموا بالملاجئ
النووية اضطروا لمغادرة ملاجئهم بعد نفاد مؤونتهم، لم يصمدوا سوى أيام معدودات..
كان الفناء مصيرهم المحتوم..
لم تنحصر تداعيات تلك الحرب على الدولتين المتقاتلتين؛
بل امتدت على مديات أوسع بكثير، وشملت المحيطات والبحار، ومعظم أجزاء آسيا
وأوروبا، ووصلت حتى إفريقيا.. وبالإضافة للإشعاعات السامة، فقد أحدثت الانفجارات
تأثيرات سلبية على البيئة، طالت طبقة الأوزون، وأحدثت تغييرات فجائية وقاسية في
مناخ الكوكب، استمرت قرابة قرن كامل، خلال تلك الفترة العصيبة، حدثت مجاعات، ووقعت
حروب، وغرقت مدن، وهُدمت دول، وانقرضت شعوب.. لم يتوقف مطر الموت حتى تناقص عدد
البشرية إلى أقل من الخُمس..
في الربع الأول من القرن الثاني والعشرين، كانت الدول
الناجية، وأبرزها الصين، والبرازيل، قد قطعت أشواطا خيالية في التطور التقني..
كان "الفلاي" أهم تقنيات ذلك العصر، جهاز صغير
جدا، يصل في نسخه المتطورة حجم ذبابة.. الفتيات كنَّ يفضّلنَ شكل الفراشات
الملونة، والشبان يفضلون شكل الدبابير والذباب والوطاويط.. "الفلاي"
صديق مخلص لصاحبه، يتبعه في حله وترحاله، ينوب عنه في معظم الأعمال؛ في الحسابات،
الاتصالات، تخزين البيانات، التقاط صور.. وفي القتل.. بعض إصداراته الأخيرة صارت
تحمل فوتونات مزودة بشحنات قاتلة، يكفي أن تبرمج اسم الشخص، أو رقم ال IP الخاص به، حتى يتجه إليه "الفلاي" فورا، ويصيبه في
مقتل..
ملايين "الفلايات" تدمرت في هجومات ودفاعات أصحابها، وأضعافهم من
البشر قتلوا في حرب الذباب الإلكتروني..
ستة وثلاثين ألف إنسان من بقي على قيد الحياة، حسب آخر
إحصاءات "منظمة الأمم الناجية".. موزعين على عشرين دولة في ثلاث قارات
(آسيا، أفريقيا، أستراليا).. الأمريكتين وأوروبا صارت من إرث البشرية المنسي، لم
يعد أحد يتذكر وجود مثل تلك القارات الغابرة، ربما فقط بعض الباحثين المتخصصين
يتذكرونها..
الدول التي حافظت على أشكال معينة من الحياة، تلك الغنية
بمصادر المياه (الكونغو، أثيوبيا، جنوب شرق الصين..)، ما دفع بسكان بقية الدول
للهجرة إليها، بيد أن تلك الهجرات لم تكن تتم بشكل سلمي، فقد أريقت دماء كثيرة على
تخوم تلك الدول، وفوق روابيها الخضر.. دول أخرى كانت غنية بالأنهار والينابيع صارت
هدفا للشعوب المجاورة، فجرت على أراضيها حروب عنيفة، أهلكت كل من فيها، ومن
هاجمهم..
حاولت الدول الناجية تفادي الهلاك، فبنت قلاعا منيعة،
وملاجئ تحت الأرض، وحفرت شوارع وأنفاق مخفية تحت طبقات من الإسمنت.. بيد أنها عجزت
عن إيجاد حلول لتنقل الأفراد، وتوفير الطعام، أو منع عمليات الانتقام، وإيقاف
خطابات التحريض والكراهية.. ولم تفلح كل الحملات الأمنية التي اتسمت بالبطش
والقسوة..
تقريبا، سقطت كل الحكومات، أو صارت ملحقة بعصابات مسلحة،
وراح الناس يتقاتلون على أتفه الأسباب، يقتلون بعضهم لقاء أشياء بسيطة، لم يكن أحد
في السابق ليلتفت إليها: سطل بلاستيك، قلم حبر، خرقة مهترئة، صحن بورسلان مكسور،
حبل، علبة طعام انتهت صلاحيتها قبل خمسين سنة.. ومع ذلك، بقي قطاع الاتصالات
الخلوية فاعلا، كان لدى كل مواطن جهاز اتصال.. "الفلاي" صار موديل قديم،
وقد طورت شركات الاتصالات مسدسات منضبة بإشعاعات الراديوم، تحسبها تلفونات محمولة،
وهي في الحقيقة أدوات قتل رهيبة.. يكفي أن توجه الهاتف تجاه أي شخص بنيـّـة
تصويره، فتقتله في ثانية..
أخذ تعداد السكان يتآكل، ويتناقص بشكل سريع.. لم يتبقَّ
على وجه الأرض سوى أربعة آلاف شخص.. معظمهم جنرالات مخضرمين، ورؤساء عصابات،
وأثرياء بنوا ملاجئ حصينة، ورجال دين، وبعض العلماء ممن أبقتهم العصابات لتشغيلهم
على تطوير أسلحة أشد فتكا..
انتشرت موضة الانتحار الفردي والجماعي.. فقَـدَ الناس كل
بارقة أمل، واستبد بهم اليأس.. الإصلاحيون ودعاة التنوير باتوا على رأس القائمة في
بنك الأهداف البشرية التي وضعتها العصابات والحكومات.. استمرت موجات الانتحار بلا توقف،
وتخطى تعداد السكان "عتبة AZ"؛ (Absolutely Zero)، وهي المرحلة الخامسة والأخيرة في مسلسل التناقص..
في العام 2122 كان كل من بقي على قيد الحياة لا يتجاوز
الثلاثين شخصا.. أربعة صينيين، وثلاثة هنود، وخمسة من شرق المتوسط، اثنان من جنوب
أفريقيا، وتسعة يقطنون في رواندا وأوغندا والكونغو، وسبعة أستراليين.. وقد عادوا
إلى زمن الصيد وجني الثمار..
عند نقطة الصفر المطلق، التي تنبأ بها عالم الرياضيات
الهندي "مالثوس"، كان من بقي حياً سبعة أشخاص فقط، أقاموا في كهف صغير على
سفح جبل في الهضبة الأثيوبية.. ستة رجال وامرأة واحدة، اسمها "لوسي"..
المشكلة أن هؤلاء الستة ينتمون لأديان وطوائف وإثنيات على بعد خطوة من الانقراض..
بوذي، وهندوسي، ومسلم، ومسيحي، ويهودي، والسادس كان ملحدا.. والمرأة ستكون على دين
من سيظفر بها.. وستنجب له ذرية صالحة، ستكون امتدادا لإثنية من سيتزوج بها..
حرص كل رجل منهم أن يظفر بالمرأة، لأن ربه سيغضب عليه أن
ورث الأرض أحدا غيره، من دين آخر، لأنه سينجب أجيالا من الضالين المضلين.. على
مدار أسبوع، كان الستة قد تناوبوا في السر على معاشرة "لوسي"، وكانت
"لوسي" متواطئة معهم، أو إنها خافت على نفسها.. لا أحد يعرف؛ فهي لم
تدلِ بأي تصريح..
في تلك الليلة الماطرة، تطورت الأحداث بسرعة خرافية، اتفق
الخمسة على قتل الملحد أولاً.. فهو لا يؤمن بأي إله.. ومن الضروري أن يؤمن النسل
القادم بإله ما..
ثم دبر أصحاب الديانات السماوية مكيدة للوثنيين؛ فعاجل
الهندوسي بطعن البوذي في ظهره، فالتفت الأخير بسرعة خاطفة، وأخرج من جرابه سكينا،
وغرسها في صدر قاتله.. فمات الاثنان..
توارت "لوسي" تحت عتمة الليل، استغلت انشغالهم
ببعض، واتجهت إلى الغابة، واختفت هناك.. ظل الرجال الثلاثة يركضون وراءها دون
طائل.. بحثوا عنها أشهرا عديدة، توزعوا في ثلاثة اتجاهات على أمل أن يعثر عليها
أحدهم.. كانت "لوسي" قد غادرت المنطقة كلياً، وربما تمكنت من مغادرة
القارة.. أما الرجال الثلاثة، فلا أحد يعلم إذا كانوا قد قتلوا بعضهم بعضا، أو إذا
ماتوا جوعا وعطشا وكمدا.. أو إذا بقي أحدهم حيا..
ولأول مرة منذ ملايين السنين، ستدور الأرض بكل هدوء
أعصابها حول الشمس، دون ركاب.. أو بحمولة خفيفة للغاية: فقط امرأة واحدة ذات بطن
متكور، تعتقد أنها حامل بتوأم، تجوب البراري وحيدة، تبحث عن نخلة تهزها، على أمل
أن تضع حملها في ظلها، قبل أن تكمل الشمس دورتها السنوية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق