أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 13، 2019

ما فعلت بنا الأديان



في بدايات تطور العقل البشري، أي في المراحل الأولى من الوعي الإنساني، رسم الإنسانُ صورة متخيلة للإله، رسمها من وحي خياله، انطلاقا من أرضيته المعرفية (المحدودة آنذاك)، متأثرا بما كان يحيط به من ظروف وعوامل، وما يحدق به من أخطار (الكوارث والظواهر الطبيعية، وحوش البراري)، وما تراوده من أفكار، وتمنيات، واحتياجات أساسية (الأمن، الطعام، المأوى..).. ولأن الخوف ونزعة القوة والسيطرة كانتا أقوى الغرائز، جاءت الآلهة المتخيلة في ذلك الوقت المبكر من عمر الحضارة الإنسانية مرتبطة بالرعود والصواعق والنيران (مخاوف وأخطار)، وبالحروب ومظاهر القوة والجبروت (حب السيطرة والهيمنة والتملك).. ثم بالمطر والرزق والجنس (إحتياجات غريزية)، وفي مرحلة لاحقة بالشمس والقمر والنجوم والخسوف والكسوف (ظواهر طبيعية لم يكن يفهم أسرارها)، في تلك المراحل جعل الإنسان لكل إقنيم إله خاص متفرد.. ثم حاول إخناتون توحيد كل تلك الأقانيم والآلهة في إله واحد، يتمثل كل تلك الصفات (أتون)، وكذلك حاول زرادشت (النار).. إلى أن جاءت الأديان السماوية ودعت لتوحيد الخالق الأوحد.

تبدأ الأديان (وكل المذاهب الفكرية والفلسفية والأخلاقية) بدايات بسيطة، ترتكز على شخصية مؤسسة (نبي، فيلسوف، مصلح اجتماعي)، تبدأ نقية، طاهرة، مثالية، يلتف من حولها في البدايات المخلصون والباحثون عن النور والهداية، ولكن بعد وفاة المؤسس، وتكاثر الأتباع وتزايد أعداد المؤمنين، يبدأ الدين بأخذ مسار تطوري آخر، ومختلف.. حيث تأتي التفاسير، والشروحات، والتفاصيل، ومن ثم الأساطير والمبالغات.. ثم تنشأ طبقة من رجال الدين، بعد أن تكون مهمتها شرح الدين وتبسيطه، والتبشير به، تبدأ هذه الطبقة بتلمس مصالحها الخاصة.. وفي نفس الوقت، تكون الطبقة السياسية الحاكمة (متحالفة معها الطبقة الاقتصادية والتجارية والنخب العسكرية) تعمل على الاستفادة من هذا الدين بما يخدم مصالحها، فتلتقي مصالحها وتوجهاتها مع مصالح وتوجهات الكهنوت، الذي يقوم بتفصيل دين جديد على مقاس السلطة.

بعد مضي عدة أجيال، تكون النسخة الجديدة من الدين قد افترقت واختلفت عن النسخة الأصلية بمقدار كبير.. حيث تحتكر طبقة الكهنوت تفسير الدين، وتمثيله، والتمثيل الحصري للإله، والتحدث باسمه، ووضع التشريعات والقوانين (باسم الدين)، مع إبراز الشخصية المركزية في الدين (والذي هو النبي) على نحو مبالغ فيه، ولكن إبراز الجوانب التي تؤكد وتدعم علاقة طبقة الكهنوت بذلك النبي، وكأنها امتدادا له، وصورة أصلية عنه، وناقلة أمينة لأقواله ونهجه.. في حين أن الحقيقة والواقع غير ذلك تماما..

الجوهر الأصلي للدين حين ظهر بدايةً، كان جوهرا روحانيا، فلسفيا، شفافا، إنسانيا... وفي نسخه اللاحقة يتم التخلي تدريجيا عن هذا الجوهر، لصالح جوهر ومحتوى جديدين، يقومان على المصالح المادية لطبقة الكهنوت الجديدة.. أي أنّ طبقة الكهنوت، والطبقة السياسية تبدآن بتوظيف الدين بما يخدم مصالحهما، مع الإدعاء طبعا بأن هذا هو من صلب الدين، ومن أساسياته..

هذا المسار التطوري السيسيولوجي ينطبق تقريبا على كل الأديان؛ فمثلا البوذية بدأت بفكر أخلاقي تأملي لمُصلح اجتماعي (بوذا)، الذي كان زاهدا ومتقشفا، ولم يزعم أنه نبي، ثم تطورت أفكاره من بعده على يد الكهنوت، حتى صارت ديانة مكتملة، وجرى تعظيم بوذا لدرجة لم يكن أحد يتوقعها في أثناء حياته..

المسيحية بدأت بأفكار روحانية تدور حول التسامح والخلاص.. وكان عدد أتباع يسوع الناصري في حياته قليل جدا، ولولا "بولس"، الذي جاء بعد المسيح بنصف قرن، لظلت المسيحية ديانة محلية محدودة.. وقد بدأت تصبح ديانة عالمية واسعة الانتشار بعد أن اعتنقها الإمبراطور الروماني قسطنطين، والذي أراد من "مجمع نيقية" توحيد المسيحية لتكون أداته في توحيد أجزاء الإمبراطورية، ولبسط نفوذه على شعوبها في أركانها المترامية الأطراف..

وقبل ذلك، لولا انتصار كورش الفارسي على بابل، لظلت اليهودية مجرد أماني مستحيلة للمسبيين.. وفي مرحلة الاحتلال اليوناني لفلسطين كادت اليهودية أن تنقرض، لولا تلاقي مصالح الحكم اليوناني مع المجمع الديني اليهودي. كما يقول "شلومو ساند": "لولا التعايش بين اليهودية والهيلينية الذي ساهم في تحويل العقيدة اليهودية إلى دين ديناميكي مهوَّد، لظل عدد اليهود ضئيل جدا، ولكان عددهم اليوم كعدد السامريين". وكما حلقت الديانة اليهودية على أجنحة النسر اليوناني، تحالفت مع الاستعمار الروماني فيما بعد.

وبالنسبة للإسلام، لم يختلف تطوره السيسيولوجي كثيرا عما حصل في بقية الأديان.. بدأ الإسلام في مكة بالدعوة للتوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، والدعوة لمكارم الأخلاق، والتسامح والتعايش، بنزعة صوفية روحانية محلقة، شفافة.. وبعد وفاة النبي، توحد الدين بنظام الخلافة (الطبقة الحاكمة)..

بعد الخلافة الراشدة، بدأت تظهر الفرق والجماعات والتيارات الدينية والفكرية والمذاهب الفقهية، ثم الطوائف.. إلى أن هيمنت النسخة الوهابية على بقية المذاهب والتيارات الإسلامية.. والتي أهم تجلياتها حاليا "جماعة الإخوان المسلمين"، التى انبثقت عنها كل تنظيمات الإسلام السياسي تقريبا، وأبرزها القاعدة، النصرة، داعش.. وهي بلا شك مفترقة ومختلفة كليا عن النموذج الأصلي للإسلام..

وهكذا، في كل العصور، استخدمت طبقة الكهنوت الديني نفس الآليات والأدوات في سعيها لبسط نفوذها على الناس، ولفرض سيطرة الطبقة الحاكمة على المجتمع، ولوأد أي فرصة لظهور قوى معارضة حقيقية، أي للتحكم المطلق بالدولة والمجتمع والموارد والناس والسياسة الداخلية والخارجية.. وقد اعتمدت في نجاحها في مسعاها هذا بدايةً على التحالف المزمن بين الطبقة الحاكمة وطبقة الكهنوت، ثم استخدام الدين في الترهيب العقلي، وتحويل محتواه القيمي والفكري والثوري إلى مجرد طقوس تعبدية، ثم تفريغ الدين من المحتوى الإنساني التقدمي والإبداعي، لصالح نسخة جديدة شكلانية تعتمد على المظاهر.. ثم تحويل جماهير المؤمنين إلى مجرد رعايا، ليس لهم إلا السمع والطاعة، وتبرير ممارسات السلطة بنصوص مقدسة.. ثم تحريم كل ما هو إنساني وجميل ويدعو العقل للتفكير، لإن الإحساس بالجمال والتفكير من سمات الإنسان الحر، والحر لا يخضع للسلطة، لذلك يجب تحويل الإنسان إلى عبد، وتحويل المجتمع إلى قطيع.. وطبعا، قبل كل ذلك، إقصاء نصف المجتمع بضربة واحدة، من خلال قمع المرأة وإلزامها البيت والحجاب، والتعامل معها بوصفها عورة، وإنسانة ناقصة..

ربما، لهذه الأسباب جاءت الديانات ذكورية، طبقية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق