أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 20، 2018

عبقرية الصفر، وأهمية الفراغ



لم تتضمن الأرقام اللاتينية الرقم صفر (وكذلك الهيروغليفية)، وعندما أراد الرومان البدء بالتقويم الميلادي، بدءوا من الرقم واحد.. لم يكن لأحد حينها أن يتخيل وجود رقم اسمه صفر! لأن الأرقام كانت لعد الأشياء المحسوسة، فكيف نعد "اللاشيء"!؟ يقال أنّ الكمبوديين هم من اخترعوا الرقم صفر، لكن المؤكد أن علماء المسلمين هم من أدخلوا الصفر إلى الحساب، وتحديدا الخوارزمي، ومن بعدها أمكن لعلم الرياضيات أن ينطلق، وإذا علمنا أن عصر التكنولوجيا لم يكن ليظهر لولا الرياضيات، وبالتالي فإن واحدة من أهم اللبنات التي تأسست عليها الحضارة الإنسانية وضعها علماء المسلمين، عندما ابتدعوا علوم الجبر، وذهبوا بالرياضيات إلى أخر حدود التجريد..

لكن الحضارة الإنسانية كما هي دوما حلقات تراكمية، يضيف إليها كل شعب بمقدار معين، وهناك من يقول أنّ البابليّون هم أول من اخترع الصفر، ولكنه لم يكن يمثّل قيمة عددية بمفرده، ويقال أنّ الصينيّون توصلوا إلى صفر مشابه للصفر البابلي بعدهم بعدة قرون، وأنهم جعلوا له قيمةً عدديّة. ويُقال أنّ العرب أخذوا من الهند الأرقام، ومن ثم نقلوها إلى أوروبا، بما فيها الصفر طبعا. وبذلك تخلّص الأوروبيون من نظام الأعداد الروماني المعقد.
ورغم أنه صفر، يعني لا شيء، إلا أنه في الرياضيات يعد أقوى رقم، فلو ضربت أي رقم في صفر يكون الحاصل صفر، وأي عملية رياضية ما أن تصل إلى القسمة على صفر حتى تتوقف فورا.. وعندما تضيف صفر إلى يمين أي رقم تتضاعف قيمته عشر مرات.. لكن الصفر يصبح حياديا في عمليتي الجمع والطرح..
في الفيزياء يقابل الصفر مصطلح الفراغ، فإذا كان الصفر أقوى من أي رقم، فهل الفراغ أقوى من المادة؟! في محاولة للإجابة صمّم العالم "أوتوفونجيريك" كرة من الفولاذ، ثم قسمها من النصف، ووضع كل نصف قبالة الآخر بدون أي لاصق أو عمليات لحام، أو براغي.. ثم قام بتفريغ الهواء من داخل الكرة (المقسومة لنصفين)، وربط في كل قسم حصان، وجعلهما يسيران في اتجاهين معاكسين، وأمام دهشة المتفرجين لم يستطع أي حصان أن يتحرك!! أي أن الفراغ داخل الكرة غلبَ الحصانين.. وفي تطبيق آخر على مضخة الفراغ، أحضر عالم برميل معدني، وبدأ بإفراغ الهواء منه، وفي لحظة ما، انهار البرميل على نفسه، وانكمش بفعل الضغط الجوي، كما لو أن آلة جبارة سحقته..
هل الفراغ داخل الأسطوانة كان أقوى من الحصانين؟ أم أن هذا الفراغ منح الضغط الجوي قوة هائلة، بحيث تسحق الحديد، وتقهر الحصانين معا؟
يمتد الكون مليارات السنين الضوئية، حجم خرافي شاسع جدا، بما يفوق القدرة على التصور.. لكن هذا الكون المترامي الأطراف أغلبه فراغ.. 96% من الكون عبارة عن لا شيء.. ومقابل هذه العظمة والاتساع نجد أن 99.99% من الذرة فراغ.. لدرجة أن بعض العلماء تخيلوا لو أن الذرات الموجودة في الطبيعة تم ملؤها كليا، دون أي فراغ بين الإلكترونات والنواة، في هذه الحالة ستنكمش الكرة الأرضية برمتها إلى حجم تفاحة!
ألهذه الدرجة الفراغ مهم؟! وهل حقا هو فراغ؟
حسب أينشتاين، فأن حركة النجوم والكواكب تكوّن شبكة الزمكان من حولها، بحيث تخلق مجال الجاذبية، التي تسمح للكواكب والأقمار بالدوران حولها ضمن مسار محدد وحتمي.. فلو سلمنا بأن هذه الشبكة الزمكانية تحتوي على دقائق مادية (يعني أنها ليست فراغا مطلقا)، فماذا بشأن المساحات الشاسعة الموجود خارج حدود تلك الشبكات؟
حسب النظريات الحديثة، كل جزء من أجزاء الكون مهما صغر شأنه مشغول دائماً بالطاقة، (طاقة الضوء، الأشعة الكونية، الأشعة الراديوية..) أي أنه لا يوجد في الكون كله أي فراغ!
في الفلسفة يقابل الصفر فكرة العدم.. وهي أصعب ما يمكن تخيله.. أي تخيل الكون والمادة قبل نشوء الكون، أو بعد فنائه.. أو تخيل ما بعد حدود الكون.. أي النقطة التي يمكن القول عندها هنا تنتهي حدود الكون..
إذن، الصفر هو الذي سمح بنشوء الحضارة الحديثة، والفراغ يشكل الأغلبية الساحقة من مساحة الكون، ومن مساحة الذرة.. والعدم هو الفكرة التي تحسم الجدل بين الخلقيين والتطوريين، أي بين المؤمنين والملحدين..
يقابل الصفر في الموسيقى الصمت.. والمفارقة أن الصمت (كما أهمية الفراغ في الطبيعة) هو أهم ما في القطعة الموسيقية! فلولا الصمت تتحول أعذب السيمفونيات إلى مجرد طنين متصل مزعج.. وأحلى ما في الطبيعة صمتها.. فلولا هذا الصمت لصارت تغاريد البلابل والحساسين أزيز ذباب..
وفي الأدب يقابل الصفر الحذف.. أي حذف كل ما هو زائد، أو حشو، أو إنشاء.. وكلما برع الكاتب في الحذف كلما كان ما يكتبه أجمل، وأعمق، وأكثر رشاقة..
في الرسم، الفراغ بين الخطوط أهم عنصر، بل هو الذي يسمح بتشكل اللوحة، وفي الفن الواقعي المعاصر، لجأ بعض الفنانين لرسم لوحات عبارة عن لون واحد فقط، وبعضهم بالغ في ذلك لدرجة تنظيم معرض فني كامل عبارة عن غرف فارغة لا يوجد على جدرانها أي شيء.. هل هذه عبثية؟ أم فن توظيف وإظهار قيمة الفراغ؟
في الألوان، لم يُحسم الخلاف بشأن اللون الذي يقابل الصفر، هل هو الأبيض أم الأسود؟ بيد أن علماء الفيزياء أكدوا على استحالة وجود شيء بلا لون، أو وجود جسم مادي بلا رائحة.. فإذا كانت حواسنا لا تستطيع تمييز بعض الألوان والروائح والأصوات المتناهية في الصغر، فهناك أجهزة حساسة (وبعض الكائنات الحية) تستطيع ذلك بدقة عالية.. والسؤال المطروح: إذا كان من المستحيل وجود صفر لون، أو صفر رائحة، أو صفر صوت.. فهل كلمة مستحيل نفسها هي الصفر؟
الطبيعة لا تقبل الصفر (أي الفراغ)، ومن هنا تنشأ الأعاصير.. والسياسة تكره الفراغ، ومن هنا ينشأ الحراك السياسي، فتقوم دول، وتزول أخرى..
في المسافات، تكون المسافة صفر أهم نقطة في العلاقة الحميمة بين الأزواج، وفي مقابل الحب، تكون المسافة صفر أبشع ما توصف فيه جرائم القتل، حيث تكون النجاة شبه مستحيلة..
وفي سرديته الجميلة، كتب الصديق المبدع أمير داوود: أنا صديق نقطة الصفر، عدّاء في حلبة سباق دائرية، أركض وأركض، فأجد نفسي في نهاية المطاف، في احتضان طويل وحميمي مع نقطة البداية (الصفر)..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق