أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 03، 2018

حوار خاص جدا في زنزانة انفرادية


قبل نحو ربع قرن، في شقة مفروشة في جبل عمّان، في تلك الليلة الحزينة من أيار، كنتُ وصديقيّ يونس وأنيس في غرفة الصالون المطلة على شارع الخالدي، نشاهد نشرة الأخبار، وأمامنا على الطاولة عشرات فناجين القهوة، وبعض الصحف والكتب، ونتجاذب أطراف الحديث بعصبية وانفعال حول المجزرة التي وقعت صبيحة ذلك الأحد الأسود.. وفجأة، سمعنا طرق باب قوي.. فتح أنيس الباب بهدوء، وإذا برجلين مسلحين يدخلان بسرعة ويطلبان منا بحزم الجلوس وعدم الحركة.. تبعهما عدد كبير من ضباط المخابرات والأمن العام، وثلة من الجنود المدججين بالسلاح.. تملكتنا المفاجأة تماما، فلم نبدي أية مقاومة..
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل، أكمل الجنود والضباط مهمتهم بهدوء وروية.. جمعوا كل ما عثروا عليه، وكدسوه في حقيبة، ثم اقتادونا إلى السيارات التي كانت تنتظر أسفل العمارة، وتغلق الشارع بكلا الاتجاهين..

وصلنا مبنى المخابرات العامة في العبدلي، وقد بدأ الفجر يشق عنان الأفق، وما أن ترجلنا من المركبات، حتى لسعتنا نسمة هواء باردة.. توجهنا على الفور إلى مدخل السجن، هناك طلب منا الضابط إفراغ ما في جيوبنا من سجائر ونقود وأوراق، ثم سلم كل واحد منا زيا أزرق اللون، وبطانية ومخدة.. وما هي سوى دقائق، حتى وجدت نفسي في زنزانة ضيقة تنخفض عن الأرض بحدود المترين.. عرضها لا يكفي لأن تنام دون ثني رجليك، وطولها بالكاد يتسع لبضع خطوات.. من الأمام تنتصب بوابة حديدة، في أوسطها شباك حديدي صغير، وأسفل منه لوحة كرتونية مكتوب عليها "إذا احتجت أي مساعدة، أو رغبت بالكلام أطلب من الحارس ذلك دون تردد.."، وفي الأعلى ثُبت كشاف كهربائي صغير، يظل مضيئا طول الوقت، أحيانا كان الحارس يخفض حدة إضاءته في الليل، وفي الجهة المقابلة طاقة علوية ضيقة، ترتفع أكثر من مترين عن الأرضية المبلطة الباردة، تلك الطاقة كانت تسمح بدخول الضوء، دون أن ترى منها الشمس.. وهي مطلة من بعيد على شارع رئيسي، كنت أعلم أنه ينتهي بإشارة ضوئية..
كانت تلك الزنزانة تحمل الرقم 24.. بعد دقائق من معاينتها، ومحاولة استيعاب ما حصل معنا.. رميت نفسي على الفرشة، مستسلما لنعاسي، موقنا أن الأمر لن يتجاوز سويعات، أو بضعة أيام على أسوأ تقدير.. وسأخرج بعدها "بطلا" في أعين الزميلات والأصدقاء.. وما عليَّ إلا أن أصبر وأتحمل تلك الفترة الوجيزة..
في تمام السادسة صباحا، ولم يكن قد مضى على نومي سوى أقل من ساعة، فتح الحارس الباب، بوجه محايد، وبحركات سريعة منضبطة، وضع على الأرض صحنا معدنيا فيه بيضة مسلوقة ورغيفي خبز، وحبات زيتون، ثم خرج وعاد سريعا حاملا معه كاسة شاي.. وكما دخل صامتا خرج صامتا..
تناولت فطوري الأول في السجن، وبدأت أرتشف الشاي بتأمل وتوجس، متمنيا لو أن الحارس أكمل معروفه وجلب لي سيجارة..
مضت الساعات الأولى من الصباح هادئة تماما، بلا أي صوت، انتظرت قليلا بقلق مشوب بالتحدي، موقنا أنه أحدهم سيستدعيني للتحقيق، أخذ قلبي يخفق بشدة، وقفت خلف الباب لزمن وجيز، منتظرا فتحه في أية لحظة.. لم يأتِ أحد.. عدت للنوم من جديد، متوقعا أن يوقظني الحارس بغضب في أي لحظة: شو مفكر حالك نازل بفندق؟! وضعت رأسي على المخدة، محدقا في السقف، وقد بدأت ذاكرتي تستخرج ما علق بها من ذكريات لمساجين سابقين، ضاقوا الأمرين، وتلقوا تعذيبا شديدا.. كدت أصاب بالهلع، لكن نعاسي غلبني، فغطت في نوم عميق..
لم أدرك كم ساعة نمت، وحين أفقت كنت أتوقع أن الشمس على وشك المغيب.. أخذت أذرع الزنزانة جيئة وذهابا وقلقي يزداد تدريجيا.. ثم سمعت صوت المؤذن يأتي خافتا من البعيد.. قلت إذن هو آذان المغرب.. شعرت ببعض الرضا، فها هو اليوم الأول قد انقضى سريعا.. لكن ضوء النهار ما زال يتسرب من الطاقة! فقلت ربما هو آذان العصر.. حسنا، لنقل مضى أغلب النهار.. ولكن، بعد ساعات طويلة سمعت نفس الآذان، نفس الصوت الخافت المتقطع.. فأيقنت أنه بالفعل وقت العصر.. يا إلهي كم كان ذلك النهار طويلا ومملا.. ما يزال أمامي ساعات أخرى حتى يأتي الليل.. ولا أدري هل سيكون الليل أحنُّ عليّ، أم أطول من النهار وأشد وطأة..
هبط المساء تدريجيا، وبكل بطء ممكن.. ومع ضوء الكشاف لم يختلف عليّ الوضع كثيرا.. سوى إحساس بيولوجي بأنه وقت الليل.. الليل للنوم، وفي مثل تلك الظروف تدرك أن النوم أعز صديق للسجين.. ما علي إلا أن أغمض عيني، وسيطلع الصبح دون أن أحس بشيء.. لكن النوم أبى حتى أن يقترب مني.. عدتُ أذرع المكان بخطوات بطيئة قصيرة، لعلني أُنهك، أو أشعر بالدوار؛ فأرمي جسدي على الفراش.. وبدلا من ذلك، تنبهت كل حواسي، وأخذ صدري يضيق، وصرت أشعر بالتوتر والخوف.. وبدأت الأسئلة تجتاحني تباعا بلا رحمة.. ماذا سيفعلون بي؟ كم سيمضي من الوقت قبل أن أخرج؟ بماذا سأجيب على أسئلة المحقق؟ هل سيضربوني بكل قسوة؟ هل سأصرخ مثل الأطفال؟
لا أذكر إذا كنت قد نمت تلك الليلة الكئيبة، أم لا، فقد صحوت على صوت الحارس يسألني بسخرية: بتصلي، وإلا انت كافر وشيوعي زي البقية؟ وقبل أن أجيبه، سارع بالقول: إذا بدك تصلي الصبح روح توضا.. لا أذكر أني خشعت لله أكثر من تلك المرة، شعرت أني وحيدا في هذا الكون، وليس لي إلا الله وحده.. هو الوحيد القادر على إخراجي من هذه المحنة.. تضرعت له، ودعوته مخلصا، وشعرت بسكينة غريبة، واطمئنان أتى في غير موعده.. وفي غير مكانه..
مـرَّ اليوم الثاني أبطأ من سابقه، وأصعب.. إذ بدأتُ أقتنع بأن المسألة أكثر من مجرد سويعات، كما كنت أظن.. ومع كل يوم جديد يتسرب اليأس إلى قلبي أكثر.. وتصير معاناتي من الوحدة أشد.. وإحساسي بالوقت يتغير، ويزداد صعوبة وألما، حتى شعرت بأنه شبه متوقف.. صرت أعرف الوقت من خلال صوت الآذان، ومواقيت وجبات الطعام؛ الفطور في تمام السادسة صباحا، الغداء على الواحدة ظهرا، والعشاء في السادسة مساء..
بين تلك المواقيت، يمضي الوقت على أقل من مهله.. هدوء وصمت رهيب.. ورتابة قاتلة، مملة.. لا شيء لتفعله، لا أحد تكلمه.. لا ترى سوى جدران كالحة.. وليس أمامك سوى المشي والدوران في حلقات مفرغة حول نفسك، في مساحة صغيرة، تضيق بها الأنفاس..
انتهى الأسبوع الأول دون أي حدَث.. نفس الروتين القاتل.. أكل، نوم، مشي سبع خطوات صغيرة حتى تُصدم بالجدار، ثم العودة للجدار الأول، مئات المرات، دوران مثل ثور حول ساقية، إلى أن تنهك، وتنام.. وتستيقظ على صوت الأقفال الحديدية، فتتمنى لو تسمع أي صوت آدمي.. تتمنى لو أن هذا الحارس يقول لك صباح الخير، أو حتى لو يشتمك.. المهم أن تسمع صوت إنسان.. بدلا من صوت أقدامك الخافت المتكرر فوق البلاط البارد، أو صوت تلك الأقفال اللعينة..
مضت أسابيع أخرى، كأنها دهر.. الصمت يخنق المكان.. خِفتُ أن أنسى مهارات الكلام.. فصرت أكلم نفسي؛ في الذهاب أقول لها: مساء الخير.. فأرد عليّ في الإياب بصوت مختلف: أهلين.. وينك يا زلمة؟ فأجيب بنفس الصوت الأول: والله هينا بين الأيادي.. بس شوية أشغال، مثل ما بتعرف.. فأقهقه بصوت مرتفع في الجهة المقابلة: أشغال! بتتخوث عليّ.. ما أنا عارف إنك مرمي في السجن زي الكلب.. فأرد عليّ بغضب: ولك إنت الكلب يا حقير، أنا سجين سياسي.. أُنهي الجدال بسرعة حتى لا يظن الحارس أنني جننت.. ويدوي الصمت من جديد..
مر الشهر الأول على نفس النظام، وبنفس ترتيب الأحداث.. أكل، نوم، مشي متواصل بين الجدارين.. أحيانا يطل الحارس من شباك الباب الصغير، ويهز رأسه أسفا، فأدرك أنه سمع حواراتي المجنونة.. الفارق البسيط في شهري الثاني؛ أني بدأت أعتاد الصمت، وبقدرة أعلى على تحمل الملل.. ولأن وقت الفراغ المتاح طويل، طويل جدا، بل إن كل الوقت فراغا.. صرت أحاول تنظيم أفكاري.. ولكن بلا جدوى، إذ أن معطيات العالم الخارجي كانت حتى ذلك الوقت ما تزال تحيط بي من كل جنب.. أراها بخيالي، وأسمع دبيبها، واشتمّها.. كانت كثيرا ما تؤرقني، وما تطيّر النوم من عينيّ.. تتداخل معا دفعة واحدة، مثل خلية نحل مهاجمة، أو واحدة تلو الأخرى، مثل سرب من النمل.. نشرات الأخبار، فتح، منظمة التحرير، حماس، الانتفاضة، الشهداء، إسرائيل، القمع، المخابرات، التحقيق، الجامعة، الانتخابات، اتحاد الطلبة، الاتحاد السوفيتي، حرب الخليج، بوش، الحرب اللبنانية، الإسلام، الصهيونية، السلام، الإرهاب، السجن، المحكمة، الرفاق، الأهل، أمي، شقيقاتي، الأصدقاء، الجيران، أنا.. تتعالى أصواتهم وتمتزج، حتى تصبح ضجيجا..
كنت أحاول أن أنظم مرور تلك الأصوات على نحو لا يربكني، أن أفكر بهدوء، أن أركز على شيء معين.. ومع الوقت صرت أنجح نسبيا في طرد الأصوات التي تزعجني، والإبقاء على ما أريد.. أنجح لوقت قصير في تحويل الضجيج إلى حوار هادئ، أو إلى حلم منظم مدروس من أحلام اليقظة.. تلك الأحلام التي تخرجك من واقعك، وتطير بك إلى أقاصي الدنيا.. تنقلك من بؤسك وحزنك وكمدك إلى أي جنة تتمنى العيش فيها.. للأحلام قدرة مدهشة على تخطي الحواجز، وهدم الجدران.. مع المشي يتدفق الدم إلى الدماغ، فتزداد قدرته على التركيز.. كنت حينها أسمع صوتا خافتا غامضا يأتي من داخلي، فأتجاهله، وعندما يلح، أقمعه.. لست متأكدا هل هو صوت ضميري الأول، أم صوت شيطان مريد؟
تتوالى الأيام والأسابيع والشهور، بكل حمولتها الثقيلة.. وصرت مقتنعا أكثر بأني سأمضي شطرا من حياتي هنا.. منسيا، مثل قصيدة تافهة، وربما لا أخرج أبدا.. متروكا، كمنضدة تالفة نسيها أهل البيت في مستودع مهجور..
كانت تجتاحني من حين لآخر نوبات غضب شديد، فأصبُّ اللعنات على من أكرههم.. أتخيل نفسي وسط معركة، وأنا أجندل الأعداء واحدا تلو الآخر.. أقتلهم بلا رحمة، ولا أتوقف عن إطلاق الرصاص إلا بعد أن أشفي غليلي.. كنت أصنف الأعداء بحسب الأهمية: إسرائيل، أمريكا، الغرب، الجواسيس، المخابرات، الأنظمة الرجعية، المتقاعصون.. لا أنام إلا بعد أن أصفيهم جميعا.. وفي ليالٍ أخرى أصنف الأصدقاء والحلفاء؛ أبدأ بجماعتنا، وأنتهي تقريبا عند حدود نيكاراغوا.. أوزع حبي وولائي إليهم تنازليا، وبالتدريج..
في أيام أخرى تتملكني السكينة، أصحو متفائلا بأن هذا اليوم هو يومي الأخير في العزل الانفرادي.. يدب في النشاط، يمتلء قلبي بالفرح، أضحك بصوت مرتفع، إلى أن يطل الحارس برأسه غاضبا: وطي صوتك يا حيوان، ناقصنا مجانين..
اشتقت لأبي، ولأهلي، ولأصدقائي، اشتقت للبيت، ولنفسي، وللعالم.. اشتقت حتى للمحقق، فقد مضت شهور طويلة، ولم يستدعني أحد للتحقيق.. لم أكلم أنسيا.. يبدو فعلا أنهم نسوني.. فقلت لنفسي بحماس مفتعل: حسنا؛ هم نسوني، وأنا سأنساهم.. سأستغل هذا العزلة في التأمل..
أخذ الضجيج من حولي يخفت تدريجيا.. وصرت أخصص كل يوم لفكرة ما، أو لحلم مجنون.. أتحايل على الوقت.. أشياء كثيرة تناسيتها، وبعضها نسيتها فعلا.. وصار ذلك النداء الخفي يعلو شيئا فشيئا.. صرت أنتبه له، ولكن بحذر.. ولأول مرة أسمعه بوضوح، بدأت أحاوره، أسكته أحيانا، وأستسلم له أحيانا.. من أنت؟ من أين أتيت أيها الصوت الغامض؟ أين كنت مختبئا كل هذي السنين؟ من سمح لك بإزعاجي؟
- أنا هنا لأخبرك أنك أكبر مما تظن؛ أكبر من جسمك ومن عقلك..
- يا فتاح يا عليم، شكلي انجنيت عنجد..
- أنا هنا لأجردك من هويتك السياسية، لأنسيك وضعك الإجتماعي، لألغي أصلك العرقي..
- إنت أكيد مخابرات، أو جاسوس..
- أريدك أن تدرك حدود أبعادك، قدراتك الهائلة، طاقتك الكامنة.. سأطير بك إلى أبعد سماء..
- لن أغادر بلدي مهما حاولت..
- سأعطيك هوية كونية، أسمى من كل ما تحملونه من هويات..
- بكفيني جواز سفر مقبول في أي مطار..
- سأحررك من سجنك..
- يا ريت، هاي أغلى أمنية..
- عليك أن تدرك أولا أنك من يسجن نفسك.. عقلك هو السجان..
- صحيح إنك مجنون..
- سأقضي على كل أعدائك..
- شو بتفكر حالك مجلس الأمن؟!
- عليك أن تعرف أولا من هم أعداؤك..
- بعرفهم منيح..
- عدوك الأول هو الكراهية، والثاني هو الغضب.. والثالث..
- إنت جاي تتفلسف؟
- خطؤك القاتل الذي تمارسه بكل حماقة منذ سنين، تصنيف الآخرين.. لا ترى العالم إلا من خلال نفسك، وترى نفسك كل العالم..
عدت إلى زنزانتي، وقد أخذتْ نفسيتي تصفو تدريجيا.. لم أعد أحس بوطأة العزلة، صرت أميل للتسامح أكثر فأكثر، وبدأت أتصالح مع نفسي دون تشنج.. توحدت معها، ومع محيطي، الذي أخذ يتسع شيئا فشيئا، وحتى مع أعدائي المفترضين..
لم أكن حينها بوضعية تسمح لي بأن أستوعب ذلك الحوار.. ربما كنت شابا مندفعا.. أو منقادا لكل ما ورثته من أفكار.. مرت سنين طويلة، ولم يختفي ذلك الضجيج كليا، ولكني لم أعد أصغي إليه.. وظل ذلك الصوت الغامض يزورني في أحلامي، وفي يقظتي، ولطالما حيرني وأربكني، ولكني صرت أدرك أن ما أسمعه من نداء جواني، هو صوت ضميري الأول، صوت الذات الكونية، صوت الطبيعة الأم، صوت الأرض قبل أن يغزوها البشر.. صوت الإنسان قبل أن تلوثه الكراهية والحروب.. صوت موسيقى الحب.. إيقاع قلبي، وصداه قبل أن أولد، في ذلك الرحم الطاهر.. صوت الطفولة قبل أن تتشوه بأفكار الكبار.. صوت الله قبل أن يدعي أحد تمثيله..
كانت تلك بداية طريقي للحياة…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق