أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 20، 2018

قصة "الثورة السورية"


 (1~2)
لفهم مآلات ومستقبل "الثورة السورية"، ولماذا، وكيف وصلت إلى هذا الوضع المأساوي، ينبغي بدايةً فهم الظروف الاجتماعية والأمنية والسياسية التي سادت في سوريا قبيل اندلاع الثورة، والأزمات التي عصفت بالمجتمع المدني، والعوامل التي صاغت شخصيَّة المواطن السوري آنذاك، والتي شكّل الخوف جزءا كبيرا منها..
ولا شك أن فساد الأجهزة الأمنية وتسلطها على الناس وخرقها للقانون (بالإضافة لعوامل أخرى)، خلق حالة من الاحتقان الشعبي، أدى في نهاية المطاف إلى انفجار المرجل دفعة واحدة، وعلى نحو خالف كل التوقعات.

في بدايات الثورة، خرجت مظاهرات شعبية سلمية كانت مطالبها لا تتعدى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ووقف ممارسات الأجهزة الأمنية.. تلك المظاهرات لمعت كالصاعقة في ليلة ساكنة دامسة الظلام، تخفي ورائها الغيوم والأعاصير.. وأمام هذه المفاجأة (الحتمية) انقسم المجتمع السوري بين متخوف من الخطوة وبين متحمس لها، ولكن لم يكن في ذهن أحد حينها أن الأمور ستتطور إلى درجة فقدان السيطرة وانفلات كل شيء من عقاله.
ومع تصاعد الأحداث، اختلفت نوايا واتجاهات الجهات المشاركة، وكانت كل جهة ترى الأحداث من زاويتها الخاصة؛ فمثلاً، قسم كبير من المجتمع السوري كان حتى تلك اللحظة مع الدولة والنظام، بمن فيهم المتضررون من الفساد وتعسف أجهزة الأمن.. هؤلاء كانوا مؤمنون بأن الدولة (على علاتها) توفر الأمن للمواطن والاستقرار للبلد، ولديهم قناعة بأن الثورة عبارة عن مغامرة ستقضي على النظام والقانون وستجلب معها العنف والدماء والفوضى. وهؤلاء عندما دافعوا عن الدولة كانوا يدافعون عن نمط حياتهم التي ارتضوها لأنفسهم واعتادوا عليها، كانوا يدافعون عن التعايش، وعن السلم الأهلي.. لكن موقفهم هذا سيضعهم في الصف المعادي للثورة (أو بوضع المحايد السلبي)، بحيث أنهم وجدوا أنفسهم، وبدون قصد، وجها لوجه في مواجهة الثوار، والدولة عاجزة عن حمايتهم، فبدأت العداوات الفردية ومن ثم الثارات الجماعية، وهنا أخذت الأزمة تتعمق، وبدأت الكراهية تتجذر بين الطرفين.
قسم معين من قادة ومنتسبي الأجهزة الأمنية والجيش كانوا على قناعة بأن سورية هي دولة المقاومة، وقلعة العروبة، وأنها تتعرض لمؤامرة خارجية شريرة، ينبغي التصدي لها. وقسم آخر كان يدافع عن امتيازاته الخاصة ومصالحه الشخصية، بغض النظر أي الفريقين كان أكبر، المؤكد أن الفريقين تصرفا بشكل عنيف، ولا إنساني.
وكان من البديهي، في ظل تربية حزبية مغلقة وخطاب إعلامي سلطوي أن تتراجع لغة العقل والمنطق، وأن تسحقها عجرفات الجنرالات والمحافظين، خاصة بعد أن شعروا بأن الأرض بدأت تتزلزل تحت أقدامهم؛ وهكذا تراجعت دعوات الحوار، واختفت محاولات تفهّم مطالب المتظاهرين، ومعالجة الأمر بالحكمة.. وكانت كل رصاصة تُطلَق على المتظاهرين تَزرع مزيدا من بذور الثورة، وتخلق أسبابا إضافية للتعبير عن الرفض، ومعها تتساقط جدران الخوف.
كان بمقدور محافظ درعا مثلا، وكذلك بقية قادة الأجهزة الأمنية أن يطوقوا الأحداث في مهدها، وأن يغيروا مسارها كليا، لو أنهم اتسموا ببعض الحكمة، أو لو أنهم تصرفوا بقدر من المسؤولية الوطنية والحس الإنساني.. لكن عقلية التسلط والقهر هي التي حكمتهم؛ فلم يستطيعوا تصور أي حل سياسي أو إنساني للأزمة، كان تفكيرهم منحصرا في طرق القمع والقتل والاعتقال. وهذا لا يعود لقصر نظرهم، أو نتيجة سوء في تقديرهم للموقف، بقدر ما كان نتاجا طبيعيا لسلطة مستبدة.
ومع بدء الأحداث وجد بعض المتطفلين والانتهازيين من الحثالات التي كانت تعيش على هامش المجتمع فرصة التكسب والنفاق، مقدمين خدماتهم الأمنية، وقسم آخر انخرط في حملات القمع والتنكيل (الشبيحة)، في محاولة منهم للثأر من المجتمع الذي طالما عزلهم وكشف عوراتهم. في تلك اللحظة كانت الأجهزة الأمنية بحاجة ماسة لمثل هؤلاء، حتى أنها أطلقت اليد للضباط الذين كانت تنتظرهم محاكمات على أخطاء مسلكية وتجاوزات، كما تحالفت مع مجموعات خارجة عن القانون كانت تربطها معها شبكات فساد وتجارة غير شرعية، ما يعني أن أي محاولة للإصلاح فقدت فرصتها تماما.
ومع تطور الأحداث، وانتقال شرارة التمرد من محافظة لأخرى، كانت كل طائفة يُقتَل أحد أفرادها كانت تستحضر على الفور جذورها الطائفية، وتستدعي كل الأسباب الطائفية لتفسير وفهم ما حدث على أساسها، وبالتالي الانتقام من الطائفة الأخرى التي أنجبت القاتل.. ومن هنا بدأت أسس التعايش المجتمعي تتهاوى شيئا فشيئا، لتنتصب مكانها جدران من الكراهية الطائفية، وجدران من الخوف والشك والتربص بالآخر، وأخذت تسود لغة التعميم، والأحكام المطلقة، التي تتعامى عن رؤية أي جانب خيّر أو إيجابي في الطرف الآخر.
الثوار أنفسهم هم أول من جنوا على الثورة السورية، هم أول من أساء لها، وشوّه صورتها، وحرفها عن مسارها، قبل أن تبدأ قطعان المرتزقة وشذاذ الآفاق تتكالب على سورية قادمة من 80 دولة.. شدة القمع والتعذيب والقتل الذي مارسته الأجهزة الأمنية خلقت عقليات متشنجة وموتورة (لدى الطرفين)، واستدعت ردات فعل عنيفة من قبل الثوار، ولكن هذا العنف لا يمكن له أن يظل باتجاه واحد، فقد بدأ يضرب بكل الاتجاهات، حاملاً معه مزيدا من التطرف والتعصب، فصار العنف يمارَس لأجل العنف. وهكذا ومع غياب الدولة من مناطق واسعة، وانهيار الأمن والقانون، انفلتت نزعات العنف المكبوتة، وصار العنف الذي يمارسه الثوار شكلا موازيا للظلم الذي تعرضوا له على يد النظام، ولا يقل بشاعة عنه، وفي كثير من الأحيان لم يكن لأهداف سياسية؛ بل لأهداف إجرامية بحتة.
مع اشتعال الأزمة وانتشارها، أخذت الكراهية تتعمق أكثر فأكثر بين الجماعات المتصارعة، وصار السلاح متوفراً بيد كل من يطلبه، وبات القتل سهلا، حتى بين الجماعات التي كانت سابقا تنبذ العنف، لأن الخوف في زمن الحروب والصراعات يسيطر على الإنسان، ويطلق مشاعره السلبية، ويجعل منه كائنا عدوانيا تسيّرهُ غرائزه البدائية، وبذلك اختفت مشاعر الرحمة لتحل محلها القسوة والكراهية. والكراهية في أجواء الخوف والصراع الدامي تدفع كل طرف لأن ينزع الإنسانية عن خصمه، وتجريده من آدميته، وشيطنته، وبالتالي تبرير قتله أو إيذائه دون شفقة.
لم يدرك أحد حينها أن الحرب ذاتها هي المجرمة الأولى، التي لا تكف عن إنجاب المجرمين.. 
(2~2)
في أقل من سنة، بدأت الثورة السورية تأخذ منحى آخر، منحى شديد العنف، قسم من الثوار السوريين تورط في دوامة العنف، وقسم آخر انكفأ وتراجع، بل وأخذ يفكر بالانسحاب كليا، والهجرة خارج البلاد..
وسرعان ما بدأ كل طرف يسحب الصفة الإنسانية عن خصمه، دون أن يدرك أنه بذلك يسحبها منه شخصيا قبل عدوه؛ الأمر الذي أدى إلى توحش كافة الأطراف، وقد رأينا مظاهر هذا التوحش في ممارسات الجماعات المتطرفة التي تحقد على خصمها بتطرف، تحقد حتى على جثته، فتمثّل بها، وتتلذذ بتعذيبها، تقتل بوحشية وبدافع العنف والانتقام والنزعة البدائية.. جثة الميت من المفترض أنها ليست عدوا لأحد، الجثة لها حرمتها، وقد غادرتها روح صاحبها وخلعت شروره منها، لكن الانحدار إلى هذا المستوى من الحضيض هو أكبر دليل على وحشية وهمجية الأطراف المتصارعة. 
في أثناء ذلك، بدأت الجماعات المسلحة تتسلل من خارج البلاد؛ دخل تنظيم القاعدة، ثم انشقت عنه جبهة النصرة، ثم أتت داعش، وسيطرت على مساحات شاسعة من سوريا والعراق، ثم جاء جيش الإسلام، وعشرات الجماعات الجهادية المتطرفة، وبقايا الجيش الحر، ومع كل هذه الفوضى الأمنية، ومع وجود آلاف المقاتلين من كل حدب وصوب، الذين لا علاقة لهم بالثورة السورية، ولا بمطالبها، وليست لديهم أي فكرة عن مشاكل السوريين واحتياجاتهم وتطلعاتهم، بل أنهم عبء على الثورة ودخلاء عليها، وقد حرفوها عن مسارها وشوهوا صورتها، وفرغوها من كل مضامينها الاجتماعية والسياسية، وأحالوها إلى عنف طائفي دموي عقيم، بلا أي مستقبل سوى مزيد من الدمار والتخريب؛ أمام هذا كله من الصعب جدا أن نجد في هذ المشهد المعقد ما يدعونا لأن نطلق تسمية "ثورة" على ما يحدث في سوريا.. ما يحدث الآن هو موجات لا إنسانية من العنف الهمجي جعلت البلد تعيش سنوات من الجمر.
ما يحدث الآن أن الشعب السوري نفسه (وثورته) هو الضحية، فهو اللاجئ والمشرد والقتيل والجريح... وما دون ذلك وبعده عبارة عن "جهاد نكاح" يمارسه بكل خسه مجموعات من القتلة وأمراء الحرب والعصابات العابرة للحدود.. في مواجهة نظام طاغي لا يقل سوء عنهم.
ثورة الشعب السوري كانت تريد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد.. أما الجماعات "الجهادية" التي تطفلت على الثورة؛ فلها أهداف أخرى مختلفة كليا: تريد إقامة دولة ثيوقراطية، وبحجة أنها تحكم بشرع الله (وهي في الحقيقة تحكم بشرع أمريكا) ستنفذ المخطط الأمريكي الإمبريالي؛ ستلغي الصفة الوطينة والنزعة القومية عن الدولة السورية، وستنزع عنها صفة الدولة المدنية، ستقضي على التعايش السلمي بين الطوائف، ستجعل من سورية قاعدة أمريكية، ستقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل، ستجعل من سورية ممرا لأنابيب النفط والغاز القطري، وممرا لأنابيب المياه التركية إلى إسرائيل، ستكون تابعة لتركيا، وستسلم الأكراد لها.. ستقطع علاقاتها مع حزب الله، وستقدمه لقمة سائغة لإسرائيل، التي لن يكون في مواجهتها أية قوة ردع.. لتتفرد في سيادة الإقليم..
وطبعا هذا لا يعفينا من السؤال عن مستقبل سورية في حال انتصار النظام وسحقه لكل أعدائه، عن طبيعة علاقاته بروسيا وإيران ومدى تبعيته لهما..
وإذا كانت تلك صورة متخيلة عن المستقبل، فإن الواقع بات أمامنا واضحا.. النظام أوغل في القتل والتدمير، وإذا كان البعض يتفهم ضرورات استخدام القوة في مواجهة العصابات الإرهابية التي تريد تقويض النظام، وتدمير البلاد، بحجة أن أي دولة في العالم، بما فيها الدول الديمقراطية، تستخدم أقصى درجات القوة لمواجهة أعدائها؛ بيد أني لا أستسيغ، ولا أتفهم قتل أي إنسان لأي سبب.. خاصة المدنيين الأبرياء..
وأيضا، الجماعات "الجهادية"؛ أوغلت في دم السوريين، في المناطق التي سيطرت عليها قدمت نماذج استبدادية بائسة، ومارست القمع والتنكيل، وتعسفت بالحكم، واستخدمت المدنيين دروعا بشرية، هذا عدا عن سبي النساء وتجنيد الأطفال، وحملات التطهير العرقي، والهندسة الديمفرافية، التي كانت تتطلب التدمير وحملات الإعدام.. وتشريد المواطنين، ودفعهم للهجرة.. ولعل أخطر ممارستها ما فعلته في مخيم اليرموك.
مخيم اليرموك كان يضم قرابة النصف مليون لاجئ فلسطيني، اليوم، بقي فيه بضعة آلاف، وقد تم تجويعهم وإذلالهم ومحاصرتهم، وكل ذلك ضمن مخطط صهيوني لإنهاء حق العودة، وتذويب قضية اللاجئين. وهذا ما فعلته عن وعي كامل تلك العصابات الإجرامية، التي ما زالت تمارس نفس المخطط في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
مع أن الحرب الأهلية السورية في مراحلها النهائية، وقد بات من شبه المؤكد أن النظام على وشك تسجيل انتصاره، إلا أنه من الصعب التنبؤ بنهاية الأزمة السورية، على الأقل في المدى المنظور، ومن الصعب توقع منتصر ومهزوم، لأن الحرب الأهلية تعني بكل بساطة أن الكل مهزومين..

في الصراعات الحضارية يكون الانتصار الحقيقي في الإصرار على الاحتفاظ بالجانب الإنساني والأخلاقي في المقاتل، والانتصار على وحشية المحتل، وعلى همجية المعتدي، وعلى ظلم الظالم.. فالإنسان المناضل يقاتل الأعداء لأنهم أعداء، وهذا سبب كافي، وليس لأنهم خنازير، وشياطين، وقتلاهم فطائس.. وليس لأنه يحقد عليهم...

ستنتهي الحرب، ولعل ذلك قريبا، وسيعود المقاتلون إلى بيوتهم، والمرتزقة إلى جحورهم، وبعد ذلك، سيعجز الجميع عن النظر في عيون أرملة، أو أم ثكلى، أو الإجابة على سؤال يتيم: لماذا قتلتم أبي؟ وسيعجزون عن الإجابة عن سؤال شاب وسيم، لماذا بترتم قدمي؟ وآخر: لماذا تركتموني أغرق في البحر؟ وعن سؤال طفلة فقدت بيتها، وجيرانها، ومجتمع فقد مستقبله.. بل وفقد وعيه في لحظة جنون دامت سبع سنين عجاف.. هذا إذا كان قد بقي للمتقاتلين بقايا ضمير..

أما جنرالات الحرب، فلهم الله، ومحكمة التاريخ، على جرائمهم التي اقترفوها وهم يرفعون زورا شعاراتهم الجميلة الخادعة..
ومع كل هذا الأسى، ستظل سورية قلعة العروبة، وقلبها النابض، ومنارة الإنسانية، كما كانت على مدى التاريخ..

وأختم بما كتبته الصديقة السورية نجاة عبد الصمد: "سورية التي كانت قبل هذه الحرب حلوة كدبس العنب، ستفيق مثلما هي في خاطر الدنيا، حلوة وزكية كدبس العنب".. بهذه الكلمات تعطينا الكاتبة جرعة أمل؛ حيث تستبشر بنهاية وشيكة لأيام الوجع السوري، لأنه حسب قولها: "الحرب لن تستمر إلى الأبد، ولن يدوم هذا الخراب".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق