أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 10، 2018

الشهداء، ومهابطنا الثورية


لا أعرف إذا كانت وصية الشهيد أحمد جرار المنشورة على الفيسبوك هي وصيته فعلاً، أم أن أحدا كتبها على لسانه فيما بعد، الوصية تركز على موضوع تخوين السلطة، والتلميح لاتهامات معينة، وليس فيها ذكر لمعاداة إسرائيل وتركيز النضال ضد الاحتلال.. وهذا أسلوب معروف ومتبع على الفيبسبوك، وليس أسلوب المقاومين الحقيقيين، مثل أحمد جرار الذي لم يصوب بندقيته إلا على المستوطنين.. يبدو أن من كتب هذه الوصية على لسان الشهيد، إنما يريد أن يتاجر بدمه، وأن يوظفه لأغراض سياسية، وتصفية حسابات داخلية..

في النصال الوطني ضد الاحتلال تبرز قضايا فرعية كثيرة، أحيانا تكون ملحة جدا، وتفرض نفسها بقوة، من بينها قضية الجواسيس، والخطأ الذي يقع فيه المناضلين هو تركهم القضية الرئيسية (مواجهة العدو)، وانشغالهم بمحاربة العملاء، وهذا كان الخطأ القاتل الذي أنهى ثورة ال36، وكان من أهم الأخطاء التي أدت لتفتيت وتبديد الانتفاضة الأولى، وما زلنا نكرر نفس الخطأ، ومن الواضح أننا لا نريد أن نتعلم من دروسنا!

وهذه الممارسات تدعى "مهابط ثورية"، لأنها تهبط بالنضال وتجره إلى مواقع لا تفيد إلا العدو المركزي، فهي لا تدمر النسيج المجتمعي وحسب، بل وتحمّل الثورة أوزارا كثيرة، وتحرفها عن مسارها الصحيح.. لا أقلل هنا من خطورة الجواسيس، ولكن معالجة هذا الملف تتطلب حكمة ووعي، ولا تعالج بالاتهامات والتصفيات الداخلية، التي كثيرا ما أودت بحياة أبرياء.

والتركيز على الجبهة الداخلية لا يقتصر على مواجهة الجواسيس، بل ويشمل من يصنفهم البعض بالمتخاذلين، أو حتى الناس العاديين، الذين يعيشون حياتهم بشكل أشبه بالطبيعي (أو يحاولون ذلك على الأقل)، فمثلا كثيرا ما يحدث أن يستشهد أحد المقاومين، على الفور، وبمجرد سماع الخبر، يبادر أصدقاء الشهيد وأقرباؤه للهجوم على الأسواق، والطلب من المحلات أن تغلق أبوابها، وتعلن الإضراب والحداد.. حتى أنهم بدلا من مواساة أهل الشهيد، والتعبير عن حزنهم، والتفكير برد مناسب ضد من قتلوه، يقومون بتوجيه غضبهم ضد الأهالي!! وحتى في المظاهرات الشعبية التي تجوب الشوارع، تجد البعض يردد هتافات معادية ضد الناس الذين يقفون متفرجين، أي الذين لم ينخرطوا في المظاهرة، وبذلك تتحول شعارات المظاهرة ضد الأهالي، في حين أنها من المفترض ضد الاحتلال!

وهنا أيضا الموضوع ليس تبرير تقاعص الناس عن المشاركة، لكن مشاركة الجماهير في الفعاليات النضالية مسألة معقدة، وهم لا يستجيبون بكبسة زر، ومستوى مشاركتهم متفاوت ومتباين، وليس بالضرورة يجب أن يقتصر على الشكل الذي يقرره هذا الفصيل أو ذاك..

وأيضا، في بياناتنا "الثورية" ننهيها عادة بعبارة "الخزي والعار للمتخاذلين والأنذال"... بدلا من الخزي والعار للإحتلال! هذا الخطاب يصنف الناس، ويتهمهم بطريقة مواربة، ولا يكسب قلوبهم..

نأتي إلى موضوع التنسيق الأمني، والإسطوانة المكررة بتوجيه الاتهام للسلطة، وتخوينها، وصب جام الغضب عليها كلما استشهد أو أعتقل مناضل..

من جهتي، أرفض التنسيق الأمني جملة وتفصيلا، وأرى أنه عار على كل من يشارك به، وأعتبره أسوأ وأخطر إفرازات أوسلو.. وطالما طالبت بوقفه.. ولكني أرفض بشدة تحميله ما لا يحتمل، وجعله مشجبا نعلق عليه كل أوزارنا، ومبررا نداري فيه عجزنا وتقصيرنا (أقصد نحن الجماهير والفصائل)..

أنا شخصيا، لا أعرف الكثير عن التنسيق الأمني: حدوده، ومجرياته، وإلى أي مدى تصل به الأمور.. وأجزم أنّ الأغلبية الساحقة من الناس لا تعرف أكثر مني حول هذا الموضوع تحديدا، وكل ما يتم تداوله عبارة عن تكهنات، وتخمينات، وربط بين الأحداث دون معلومات حقيقية، أو أدلة مادية، أو حتى استنتاجات عقلانية موضوعية.. حتى أصبح الحديث عن التنسيق الأمني مجرد وسيلة للنيل من السلطة، واتهامها بأبشع التهم، واستخدامه لأغراض الدعاية الحزبية، وتصفية الحسابات..  باختصار صار مادة فيسبوكية تدر دخلا كبيرا من اللايكات..

ذات يوم كنت متجهاً إلى "بورين"، وعند مدخل القرية كانت تقف دورية إسرائيلية، توقفتُ قليلا، إلى أن أشار لي الجندي بالعبور، وحين صرت قبالة الدورية لمحت الجنود يضعون خريطة كبيرة ملونة للقرية بشوارعها وأزقتها وبيوتها.. كانوا يجرون تمرينا على اقتحام أحد البيوت المتروكة في طرف القرية، الخارطة تظهر البيوت والأزقة بأدق التفاصيل.. وأجزم أن لدى المخابرات الإسرائيلية خارطة مشابهة لكل مدينة وقرية ومخيم.. فهم يحتلونها منذ خمسين سنة، وهم لا يلعبون..  وهذه الخرائط يجري تحديثها باستمرار، بواسطة الأقمار الصناعية، والطائرات المزودة بكاميرات، التي تصور كل شيء..

وذات يوم في أثناء الانتفاضة الأولى، دخلت مكتب "الغربي" في بغداد، لزيارة صديق، على الفور قلب صديقي الصفحة التي كانت أمامه على الطاولة (إحتياطات أمنية)، ولما رأى فضولي أن أعرف ما تحتويه، قال إنها قائمة بأسماء الجواسيس في الأرض المحتلة، ولأن القائمة طويلة جدا، منعني أن أراها، قائلا: لو عرفت العدد لأصابك الإحباط، وربما تكفر بكل وطنيتك..

خلاصة القول؛ لدى إسرائيل إمكانيات أمنية هائلة، بدءا من الأقمار الإصطناعية، وانتهاء بالجاسوس الذي يُطلب منه إلقاء الحجارة على شبابيك جاره فقط. وقد استخدمت إمكانيتها هذه للوصول إلى ما لا حصر له من القيادات والكوادر الفلسطينية، داخل وخارج فلسطين.. ولم يكن حينها أي تنسيق أمني..

وصلت إسرائيل إلى غزة (تحت سيطرة حماس)، وقتلت واعتقلت من تريد، وقتلت "البحبوح" في دبي، وقصفت قوافل محملة بالسلاح في السودان، وقتلت مناضلين في وسط دمشق وبيروت وبغداد وعمان وتونس وباريس وروما ولندن.. دون أية حاجة للتنسيق الأمني..


نستسهل توجيه الاتهام للتنسيق الأمني، ونتجاهل موضوع اختراق التنظيمات (جميعها)، أو الأخطاء الأمنية التي يرتكبها المطاردون.. وهذه الإزدواجية لا تظهر إلا فيما يتصل بمعاداة السلطة.. حتى أنها تظهر وللأسف بالتمييز بين الشهداء.. الشهيد إذا كان فتحاويا، أو من أبناء الأجهزة الأمنية، أو مواطنا عاديا لا أحد تقريبا يحفل به، لا أحد يرى صورته، أو يتذكره.. وإذا كان معارضا للسلطة، أو من فصيل آخر نصنع منه أسطورة.. وبالطبع، كل الشهداء أكرم منا جميعا.. ويستحقون كل التكريم، ولهم كل المجد والفخار.. لكن من العار علينا نحن الأحياء أن نميز بينهم.. أو أن نتاجر بدمهم لأغراض رخيصة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق