أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 17، 2017

شتاء فلسطين


بعد "التشارين" تبدأ "الكوانين"، ومعها يبدأ فصل الشتاء، والذي يمثل عماد الحياة بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، لأنه فصل الماء الذي هو أصل كل شيء حيّ.. ولأن هذا الفصل هو الذي سيعطي الأرض والناس حاجتهم من الماء فقد احتل مكانة مميزة في الوجدان الشعبي؛ فالأمطار هي رأسمال الفلاح ومصدر رزقه. وبسبب الأمطار وانخفاض درجات الحرارة ومكوث الناس في بيوتهم؛ فقد ارتبطت أجواء الشتاء بالجلسات العائلية، والتجمع حول "الصوبة"، والاستمتاع بدفئها، وتناول الحمضيات وشيّ الكستناء.

وعادة يستعد الناس لمواجهة الشتاء بتخزين المؤن، مثل القطين والزبيب والمربيات والدبس.. وأهم شيء: الزيت؛ "الزيت عامود البيت"، وفي ليالي البرد الطويلة، يعدّون الحلويات الغنية بالطاقة، مثل المطبّق والعوامة والزلابية والسحلب، أما أيام الثلج فتكون خاصة لطبخ "المفتول"، إلى جانب أكلات الشتاء الرئيسة: العدس والسبانخ.                     
وفي بعض السنين، ينهمر المطر بشدة، فتتفجر العيون، وتجري السيول والأودية، وإذا صارت فيضانات؛ تثير مخاوف الناس من تلف محاصيلهم، أو أن تغمر بيوتهم.. أما في سنوات الجدب والجفاف، أو إذا تأخر سقوط المطر، ومرَّ تشرين دون أن يهطل منه شيئا، يشعر الناس بالضيق والخوف، ويستجدون ربهم طلبا للغيث، وفي الثقافة الشعبية يتم الربط بين تأخر المطر وغضب الإله من معاصي البشر، فيقول المثل: "من قلة اهدانا انقلب صيفنا اشتانا"، وقديما كانت شعوب بلاد الشام عموما تؤمن بآلهة المطر والخصب، وكان سكانها الأوائل يتقربون إليها بالقرابين والصلوات من أجل استرضائها لتمنحهم الخصب والخير؛ فالكنعانيون عبدوا "عليان بعل" الذي يراقب المطر والمحاصيل، كما عبَدَ الأراميون "حدد" إله البرق والرعد، وعند الفنيقيين كانت "بعلت جبيل" آلهة الخصب والتوالد.. وامتداداً لهذه الجذور التاريخية الغارقة في القِدم بقي شعبنا يمارس طلب الغيث والمطر من الله عز وجل. وحتى يومنا هذا تقام صلاة الاستسقاء في الخلاء، وعند مقامات الأولياء، ويتوسل الناس الله سبحانه ان يُنـزل المطر رأفة بحالهم، ومن تلك الأغاني التي كانوا يرددونها:
يا رب بلِّه بلِّهْ.. واحنا تحتك بالكلِّة.. يا رب بلّ المنديل.. قبل نرحل قبل نشيل.. يا رب بلّ الشرموح.. واحنا فُكْريه وين نروح؟ (فُكْرية يعني فقراء، بالكلّة يعني بالجوع).
يبدأ الفصل بالانقلاب الشتوي في الثاني والعشرين من كانون الأول، وينتهي بالاعتدال الربيعي، في الحادي والعشرين من آذار، وبذلك تكون مدته تسعون يوماً، مقسمة إلى قسمين، هما: "الأربعينية والخمسينية".
الأربعينية، أو المربعانية، مدتها أربعون يوماً، وتبدأ في 22-12 من كل عام، وتنتهي في 31-1 من العام الجديد، وهذه الفترة تتسم بالبرد القارص والمطر الشديد. وتسمى علمياً "طور السكون" حيث تتوقف العصارة عن السريان في الأنابيب الغربالية للنباتات، ومن شدة البرد وصف المثل الشعبي هذه الفترة فقال "أبرد من كانون"، و "بكانون كثرّ النار"، و "في كانون الأصم، فوت عَ بيتك وانطم". (انطم أي نام)، و "بعد كانون الشتاء بيهون".
وقد اعتاد المزارع الفسطيني اسثمار هذه الفترة بزراعة الحبوب: يقول المثل "في كانون شق الماء وازرع"، (أي أن زراعة الحبوب ممكنة في كانون أول وثاني) حيث يزرع الفلاح الحبوب في فترتين؛ الأولى قبل المربعانية وبدء سقوط المطر خاصة القمح، والثانية في المربعانية وهي فترة يبحث فيها المزارع عن فرص توقف المطر، لإتمام زراعة ما لم يزرعه من حبوب خاصة الشعير والكرسنة والعدس، وبعد انتهاء الأربعينية يتوقف الفلاح عن زراعة الحبوب، وبعض الأمثال توضح ذلك: "لما يطلع الحنّون ظُب بذارك يا مجنون"، وعادة ما ينبت زهر الحنون بعد شهر شباط، و "طلع النرجس والحنون ظُب بذارك يا مجنون"، وزهر النرجس يتفتّح في نهاية المربعانية، ويقول المثل: "إن فاتك الميلادي خلّي عدساتك للولادي"، أي إذا مرَّ عيد الميلاد ولم تبذر بذارك تكون قد خسرت الموسم الزراعي ولا فائدة من بذرها، والأفضل توفيرها للأكل بدلا من بذرها، ويقول المثل: "إن طلعت البربارة يا بدارة حطوا الشعير في المطمارة والقمح في الغرارة"، (البربارة نجم يطل من ناحية الشرق في أوائل كانون الثاني، ويعتبر ظهورها نهاية لموسم زراعة الشعير وعلى المزارعين إعادته لمخازنهم).
الباحث "منير ناصر" يتحدث في مقالته المنشورة في مجلة "التراث والمجتمع" عن تقسيمة مختلفة للسنة، وإن كانت تتشابه كثيرا مع التقسيمة السابقة، وتتكون من قسمين رئيسين هما الصيف والشتاء، ومن ستة أقسام موسمية، فيذكر في مقالته أن "السنة عند الفلاح الفلسطيني تقسم إلى موسمين: الأول هو موسم الشتاء ويبدأ من عيد الصليب، في 27 أيلول، وينتهي في عيد الخضر في 6 أيار، أما الموسم الثاني فهو موسم الصيف، وهو ما تبقّى من السنة".
وهنا تقسم السنة إلى ستة مواسم زراعية متعاقبة، الأول: موسم الحرث وزرع الحبوب: تشرين1. الثاني: موسم الأمطار: أشهر كوانين. الثالث: موسم حراثة الأرض المشجرة وزراعة الخضروات وتقليم الأشجار وحصاد القطاني: أشهر الربيع (آذار، نيسان، أيار). الرابع: موسم حصاد القمح والشعير وتغطية العنب: حزيران وتموز. الخامس: موسم قطف العنب والتين: أشهر آب، أيلول. السادس: موسم الزيتون: أشهر تشارين.
بعد انتهاء الأربعينية يبدأ موسم اللوز، فيملأ المكان ببياضه المدهش، ويقول المثل الشعبي: "يا لوز يا مجنون بتزهر في كانون"، أي أن اللوز أول من يزهر بين الأشجار، ويذكّر بتجدد الحياة في الشجر واقتراب موسم الربيع. ثم تبدأ الخمسينية، من 1 شباط وتستمر حتى 21  آذار، وهذه الخمسينية تقسم إلى أربعة أقسام متساوية كل قسم منها اثنا عشر يوماً ونصف، وسميت "السعود الأربعة"؛ أولها سعد ذابح، "سعد ذابح ما بخلي كلب نابح". ثم سعد إبلع، ثم سعد السعود، "في سعد السعود بتمشي المية في العود"، وأخيرا سعد الخبايا، "في سعد الخبايا بتطلع الحيايا".
ويتسم شهر شباط بالبرد والمطر وتقلب الجو، فيقول المثل: "شباط الخباط بشبط وبخبط وريحة الصيف فيه"، أما في آذار فيستقر الجو نسبيا: "راح شباط الغدار وإجا آذار الهدار".

طبعا تغيرت ظروف الشتاء وطقوسه، وبانتظار أن تأتي الثقافة الشعبية بأمثال جديدة تناسب المتغيرات الجديدة.. على سبيل المثال: "في الشتا إعمل نيولوك، واكعد عَ الفيسبوك".. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق